المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

trump-ghannouchi
في ضل زخم الإنتخابات الأمريكية وقرب موعد إنتخاب الرئيس المقبل هذا الثلاثاء، تكثر محاولات المقاربة بين ما يحصل على الساحة السياسية هناك وتداعياتها على مناطق عديدة و وقائع سياسية مستجدة كالتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية في الشرق الأوسط  أو الإنتخابات الفرنسية العام المقبل على سبيل المثال. فالسباق الرئاسي بين هيلاري كلينتون ودونالد ترمب يؤسس لمرحلة جديدة في ديناميكية الحياة السياسية على الصعيد المحلي هناك وكذلك على الصعيد العالمي على حد قول باراك اوباما. السعي إلى فهم و تحليل مستجدات الإنتخابات الأمريكية تحيلنا إلى محاولة إيجاد وجوه تشابه وإختلاف بين شخصيات ومكونات وادوات العمل السياسي هنا على الصعيد المحلي في تونس وهناك على الساحة الأمريكية يومان قبل الإعلان عن نتائج الإنتخابات الرئاسية.

المقارنة بين راشد الغنوشي كشخصية محورية داخل التجربة السياسية التونسية قبل وبعد الثورة ودونالد ترمب تبدو لوهلة فرضية غير ناجعة – أو سخيفة لدى البعض – خاصة أن الاختلاف على الصعيدين الشخصي و الثقافي-التربوي يكاد يكون على نقيض. فمن ناحية عرف الغنوشي بحضور تقليدي كلاسيكي منغلق يفتقد لكاريزما سياسية (إلا لدى انصاره طبعا) بينما يغلب على ترامب الطابع الفرجوي وكاريزما فجة لشخص تعوّد على الظهور التلفزي من خلال برامج تلفزيون الواقع التي انتجها وشارك فيها.  

غير أن وجوه التشابه بين الشخصيتين السياسيتين كثيرة إذا أخذنا في عين الاعتبار الجوانب الفكرية، الثقافية السياسة، و التجربة السياسية لكليهما. على سبيل الحصر، يتجه اهتمامي في هذا المقال إلا ثلاث جوانب اراها مفصلية في رؤية وتأثير الرجلين في الخريطة السياسية لكل بلد. اود كذلك أن أجذب إهتمام القارئ إلا أن مغزى هذا المقال لا يكمن في محاولة النقد السلبي لتجربة سياسية ما أو أن المقارنة بترامب هي ميكانيكيا محاولة غير جدية. على العكس، كل استطلاعات الرأي هناك تشير إلى إمكانية فوز ترامب – رغم كل ماقيل عنه والإدارة الكارثية لحملته الإنتخابية. إذن السعي للمقارنة بين المرشح الأمريكي و الشخصية السياسية الأكثر تأثيرا في تونس تفيدنا في فهم أوضح للخصوصية السياسية لكلا الشخصيتين. هناك إعتقاد كبير لدي بأن نتيجة الانتخابات الرئاسية  المقبلة في كلتا البلدين ستكون لزاما مرتبطة بمشاركتهما (أو عدمها) في هذه الإنتخابات وقراراتهم السياسية وتأثيرها على الديناميكية السياسية لبلديهما. 

الزئبقية و ضبابية الموقف السياسي

المشوار السياسي لكلا الشخصيتين تغلب عليه الزئبقية في المبادئ والمواقف السياسية. لدى رجل حزب النهضة الأول، يمكن القول أن تجربته السياسية تكاد تكون عنوانا لضبابية المشوار. أي قراءة للحوار الذي جمع الغنوشي والباحث الفرنسي فرنسوا بورجا (Francois Burgat) في سنة 1992 تكشف عن شخصية سياسية تبحث عن نفسها في ضل الكم الهائل من الحركات الثقافية و السياسية التي شهدتها حقبتي الستينات والسبعينات. فالغنوشي السياسي الشاب كان قوميا ناصريا ثم رمى بذلك ليصبح إسلاميا اخوانيا جهاديا بعدما تأثر بكتابات سيد قطب ثم أصبح مؤخرا مدنيا ذو توجه إسلامي (وهذا يعني كل شيء وأي شيء في الحقيقة). زئبقية الغنوشي جعلته في علاقة متلونة مع الشخصيات السياسية الدكتاتورية التي إختلط بها خليل تجربته السياسية، فتارة كان ضد بورقيبة ثم أصبح متفهماً لحملته على الماركسيين ليعود مجدداً ليكون ضده خلال الفترة الأخيرة لحكم الأخير. نفس الشيء حصل مع بن علي حيث بايع الغنوشي (والفعل هنا ينطبق تماما على مافعله الغنوشي خلال تلق الفترة) الدكتاتور الجديد ليقرر فيما بعد الجهاد ضده من منبر لندن. من جهة أخرى يتسم تبني الزعيم الروحي لنهضة لما يسمى بالإسلام السياسي بالضبابية التامة وهذا ما دفع مثلا بمحمد الطالبي بالتشكيك في مدنية التصورالعام للغنوشي لم يطلق عليها جزافا الدولة الأسلامية المدنية الحديثة قياسا بالتجربة التركية. من جهة أخرى طبعتا الضبابية والزئبقية كذلك على المشوار السياسي القصير لترامب حيث كثر الحديث على قدرة مرشح الحزب الجمهوري على إختيار مواقف سياسية شتى ونقيضها في الأن نفسه. فقد كان مناصرا لضرورة الرفع من الحد الأدنى للأجور على الصعيد الوطني الفيدرالي لينفي بعدها هذا الموقف ويؤكد رفضه لأي فكرة زيادة في الأجور ليتجه مؤخرا لإقتراح جعل الموافقة من عدمها على هذاالمشروع شأن داخليا لكل ولاية أمريكية. هذا التحول الدائم في المبادئ والقرارت اتسم على كافة مواقفه في مايخص قضايا الهجرة والضرائب والأمن الخارجي وغيرها. يبقى السؤال إذن مطروحا: كيف لشخصيات زئبقية وضبابية كالغنوشي وترامب أن تحظى بهذه الإستمرارية والحشد الشعبي؟ من الاجابات الممكنة على هذا السؤال الشائك يمكن طرح فكرة الزعامة عبر التوكيل proxy، وهي فكرة أراها مهمة في محاولة فهم شعبية هذين الرجلين.


الزعامة بالتوكيل

أود منذ البدء أن أذكر أن الزعامة السياسيسة على النطاق الحزبي أو على النطاق الوطني (بعد الفوز بالسباق الرئاسي) يتطلب طبعا الترويج لمشروع وطني ما قائم على نظرة إستشرافية لم يجب أن تكون عليه التنمية الاقتصادية والإجتماعية والثقافية خلال المرحلة أو المراحل القادمة. تكون عادة نواة هذا المشروع مرتبطة بالخبرة والتجربة السياسية للمرشح للزعامة أو القيادة وغالبا مايكون هذا المشروع الإنتخابي يعبر عن الحالة الثقافية التي تسود المجتمع المدني (أو ما يسمى بال-zeitgeist)  أو يمكن كذلك عن طريق القطع تماما مع الحالة العامة وبشكل راديكالي لتأسيس لدينامكية سياسية جديدة (مثلا الحملة الانتخابية لباراك اوباما في إنتخابات 2008).

على نقيض أبجديات الزعامة السياسية المذكورة أعلاه، فإن أي متابع للحملات الإنتخابية الرئيسية أو الحزبية لكل من ترامب أو الغنوشي يلاحظ القطع مع هذه المنظومة الإجابية لصالح الترويج لمشروع وطني تغلب عليه بالأساس الإقصاء والرجعية. في مايخص المثال التونسي، يرتكز المشروع ”التجديدي“ للغنوشي ولحزب النهضة (والإخوان المسلمين عامة) على فكرة التماهي بين الدين والحزب لتأسيس لمشروع التماهي بين الدين والدولة. ليس هناك مجال هنا لمناقشة المشروع السياسي للإخوان، لكن ما يهمنا أكثر هنا هو نجاح الغنوشي (بصفة كبيرة) في الترويج من ناحية لفكرة أن الدين الاسلامي يجب حمايته داخل دولة ذو تاريخ إسلامي عريق ينص دستورها في فصله الأول على الماهية الإسلامية للدولة (!) ومن ناحية ترسيخ الإعتقاد الشعبي أن حزب النهضة هو الراعي الوحيد لهذه الحماية. طبعا الإتجاه الحالي للتنصيص على مدنية الحزب والتخلي على إقترانه بالدين هو محالة توسيم على مستوى الشكل فقط. إن نواة حزب النهضة وعلى رأسه الغنوشي سيكون دائما إحتكار الترويج للدين. على النطاق الأمريكي، نجاح مرشح الحزب الجمهوري واستمراريته تكمن في اعتقادي في ترويج لفكرة أنه الحامي الوحيد للشخصية الأمريكية الرمزية لدى الفئات الشعبية: بيضاء، بروتستانية، ذو توجه جنسي محافض، ذات رأس مال والتي حققت الحلم الأمريكي (بطريقة أو بأخرى). يظل ترامب محافظا على كافة أماله في الفوز في إنتخابات 8 نوفمبر لأنه نجح في الترويج لفكرة أنه الوحيد القادر على نفي المسلمين وطرد المهاجرين الغير الشرعيين بشكل يحمي الكيان الأمريكي من التلوث العرقي والجنسي. العنصرية الغالبة على خطاب ترامب نجحت بشكل كبير في التعميم على فكرة راسخة لدى الشعب الأمريكي بأن الحضارة الأمريكية نبعت من الاختلاف في اللون والجنس والعرق (!). 

الإعجاب الشديد بالشخصيات القوية

هذا جانب شديد الأهمية في هذه المقارنة بين شخصيات الغنوشي وترامب. في مايخص رئيس النهضة فإن الأمثلة لا تعد ولا تحصى فالرجل كان دائما منجذبا لأي شخصية ذو كاريزما قوية كالناصر أولا ولاحقا سيد قطب في مصر والترابي في السودان. لكن بالنسبة لي تظل رغبة الغنوشي في مقابلة سيئ الذكر عبدالكريم بلحاج خلال زيارته لليبيا وثانية خلال إقامة الأخير في مستشفى تونسي للعلاج وتداعيات هذا اللقاء على المشهد التونسي خاصة بعد تأكيده فيما بعد على ”الجيش غير مضمون“ وإغتيال شكري بالعيد لاحقا. مؤخرا، طبعت على توجهات الغنوشي الانتماء الكامل والرغبة الكاملة في التماهي بشخصية اردوغان ومايفعله اردوغان في تركيا. أكاد أجزم بأن هناك صورة لأردوغان بالألوان وبالحجم الطبيعي في مكان ما في المكتب الخاص لغنوشي. نفس هذا الاعجاب بالشخصيات الدكتاتورية القوية تغلب على شخصية ترامب. فهو معجب مثلاً بشخصية بوتين ويعتبره نموذجا للقائد السياسي الفذ. نفس هذا الإنجذاب لشخصيات المركبة دفعت بالملياردير الأمريكي بالترحيب بمساندة دافيد نوك زعيم الحركة العنصرية KKK له رغم لما هذه المساندة من تأثير سلبي كبير داخل الأقليات العرقية هناك. هناك الكثيرمن الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من جانب تحليلي فرويدي ولكن هذا حديث آخر. 

ما بعدهما الطوفان

في نقطة أخيرة أود أن أؤكد أن خطورة ما أسس له الرجلين من سلبية في الخطاب والممارسة السياسية تكمن خاصة في المرحلة التي تلي رحيلهم أو ابتعادهم عن العمل السياسي. فمتابعة الشأن الداخلي لحزب النهضة و ديمومة زعيمها الروحي منذ 1991 تقتضي طرح السؤال: ماذا بعد الغنوشي؟ هناك طبعا وجوه قديمة كعبد الفتاح مورو أو محمد بن سالم أو أقل قدما كرفيق عبدالسلام أو سمير ديلو لكن ينعدم وجود داخل الحزب ذلك الوجه السياسي القادر أولا على القيادة في فترة مابعد الغنوشي وثانيا الحصول على إلتفاف شعبي حوله داخل وخارج الحزب. هناك إنطباع عام بأن الحزب سيكون ملزما بمواصلة التركيز على الانتخابات البلدية أو طبعا التحالف مع احزاب أخرى خلال الإنتخابات الرئاسية دون الدفع بمرشح ما من داخل الحزب. في مايخص التأثير السلبي الكبير للحملة الانتخابية الشعواء لترامب على مستقبل الحزب الجمهوري الأمريكي، اجمعت الكثير من الأراء أن الأذى الكبير الذي ألحقه ترامب بحزبه سيتواصل بعد الإنتخابات في حل فوز الأخير أو خسارته. أي قارئ لعناوين الصحافة الأمريكية يلاحظ  تكرار العنوان التالي ”هل سينجو الحزب المحافظ من تداعيات حملة ترامب الانتخابية؟“ هناك طبعا نوع من المبالغة (عادة أمريكية بإمتياز) لكن الجميع هناك يخشى نتائج هذه الانتخابات. من جهة أخرى، وفي حركة غنوشية بإمتياز، تمادى ترامب في إرتكاب الأخطاء الفادحة التي من الممكن أن تقوض مكونات الفعل الدمقراطي حين أكد في أكثر من مرة أن التنظيم الانتخابي تشوبه صبغة التزوير. يمكنك مثلا أن تتخيل ترامب يردد العبارة الشهيرة ”الجهاز الانتخابي غير مضمون“.

في الأخير،  ماكان إعتقادا يرسخ للعملية الديمقراطية تحول في ظل شخصيات سياسية كترامب أو الغنوشي إلى عملية ترقب و توهج و خوف. وراء الشخصية التلفزية الكاريزماتية من هناك والشخصية الأبوية ذات الصوت الهادئ والحضور المنمق هنا تكمن جوانب زئبقية ضبابية متحولة مستغلة لرجال ذو خلفية سياسة جد متواضعة  نفذوا الى السلطة في فترة فراغ سياسي وثقافي كبيرة. إذا يصح القول بأن لا خوف على الديمقراطية الأمريكية من ترامب وتداعيات حملته نظر لعمق ومدى الممارسة الديمقراطية هناك، فإن هناك خوفا حقيقيا على التجربة التونسية الناشئة من شخصيات سياسية كالغنوشي تستغل الدين للكسب السياسي و ترى في داعش تنظيما إسلاميا يعبر عن ”إسلام غاضب“.