شكّلت المنح والحوافز المُشجعة على الاستثمار عنصرا بارزا في السياسية الدعائية للحكومة أثناء تنظيم الندوة الدولية للاستثمار “تونس 2020″، التي انطلقت مساء أمس الثلاثاء بقصر المؤتمرات بالعاصمة بمشاركة العديد من ممثلي الدول والمؤسسات المالية والاقتصادية العالمية. وتكشف هذه الدعاية عن سياسة اقتصادية قديمة تهدف إلى استقطاب استثمارات جديدة عبر المنح والامتيازات.

من أجل تسهيل الهضم الشعبي لهذه الحوافز، دأب الخطاب الرسمي على ربط منظومة الامتيازات بجملة من الأهداف، أهمها: خلق فرص تشغيل جديدة وتقليص التفاوت بين الجهات ودفع النمو الاقتصادي. وخلال السنوات المنقضية لم تسمح الهيمنة الدعائية الرسمية بتقييم منظومة المنح والحوافز الاستثمارية، وخصوصا مدى نجاحها في تحقيق الأهداف المتوقعة على مستوى التشغيل والتنمية. ولعل انعدام التقييم والمراجعة يعكس تمسكا بهذا التوجه الاقتصادي رغم الانتقادات الموجهة إليه، خصوصا من المؤسسات الدولية المانحة على غرار البنك الدولي.

نظام الحوافز: استمرار للسياسات القديمة

سعت حكومة يوسف الشاهد إلى تثبيت نظام المنح والحوافز الاستثمارية من خلال التسريع بالمصادقة على قانون الاستثمار الجديد،التي كانت ضمن الشروط المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي في إطار ما يعرف ببرنامج “الإصلاح الشامل”. و ويقوم القانون الجديد على نظام ضخم من الحوافز والحقوق الممنوحة للمستثمرين المحليين والأجانب، تضمّنها أساسا الفصلين 19 و20. يحاول الرسم البياني الموالي عرضها بالتفصيل:

يشرٌع الفصل 19 من قانون الاستثمار حق المستثمر الجمع بين مختلف هذه المنح شريطة أن لا تتجاوز ثلث كلفة الاستثمار دون اعتبار مساهمة الدولة في مصاريف البنية التحتية. أما واجبات المستثمر التي ينظمها الفصل 10 من القانون على غرار احترام قوانين الشغل والجباية وحماية البيئة، فهي مرتبطة إلى حد كبير بالامتيازات، إذ تدفع الدولة منحا للمستثمر لحثه على القيام بهذه الواجبات على غرار منحة تطوير القدرة التشغيلية ومنحة التنمية المستدامة.

إضافة إلى هذا يبرز صنف آخر من الحوافز حيث أفرد قانون الاستثمار فصلا كاملا (الفصل20) ل “المشاريع ذات الأهمية الوطنية”، التي تمتع بإعفاء ضريبي كلي ومِنَح تبلغ ثلث تكلفة الاستثمار. ولئن لم يضبط القانون الجديد هذا الصنف من المشاريع فإن المقصود به هو مشاريع الاستثمار المباشرة ذات القيمة المضافة العالية الموجهة للتصدير، والمشاريع الموجّهة للجهات الداخلية الخاضعة لمبدأ “الميز الإيجابي”.

ميزانية 2017: الأموال المرصودة للحوافز

انسجاما مع سياسة الحوافز الاستثمارية، تضمنت ميزانية الدولة لسنة 2017 العديد من الإعتمادات المرصودة لهذا الغرض، من بينها:

  • وزارة الصناعة والتجارة:

-منح تشجيع الباعثين الجدد بتكلفة 21530 ألف د.

-تشجيع المؤسسات الصناعية الصغرى والمتوسطة بتكلفة 950 ألف د.

-التشجيع بعنوان التنمية الجهوية بتكلفة 38200 ألف د.

-امتيازات إضافية تكلفتها 2000 ألف د.

-تغطية مصاريف مراكز مساندة بعث المؤسسات بتكلفة 1400 ألف د.

  • وزارة التنمية والاستثمار والتعاون الدولي:

-برنامج الإحاطة بالاستثمار تكلفته 5,560 مليون د.

  • وزارة السياحة:

-برنامج إعانة الدولة لباعثين في الميدان السياحي تكلفته 8,4 مليون د.

-برنامج البنية التحتية والتهيئات السياحية تكلفته 2,020 مليون د.

  • وزارة التكوين المهني والتشغيل:

-برنامج فرصتي لانتداب 25 ألف طالب شغل بالقطاع الخاص تكلفته 130 مليون د.

-دعم تمويل المشاريع والباعثين والمؤسسات التضامنية تكلفته 25 مليون د.

  • وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري:

-امتيازات في شكل منح استثمار لفائدة متوسطي وكبار الفلاحين من خلال رصد اعتمادات تقدر بـ48,0 مليون د.

 

حوافز بلامردودية اقتصادية واجتماعية

رغم ما تكلّفه هذه الحوافز من أموال طائلة على الخزينة العامة للدولة -والتي قدرت بحوالي 1700 مليون دينار حسب تقرير صادر عن البنك الدولي سنة 2014 وبحوالي 400 مليون دينار (حوافز جبائية فقط) حسب دراسة للمؤسسة الدولية للتمويل سنة 2012- فإنها لم تفلح في تحقيق الأهداف المُروّج لها على غرار خلق فرص التشغيل وتقليص التفاوت بين الجهات ودفع النمو الإقتصادي، ويمكن تقييم مردوديتها الاقتصادية والاجتماعية من خلال المستويات التالية:

– التشغيل: رغم الكلفة السنوية لكل موطن شغل إضافي، الذي قدر بحوالي 30222 د حسب دراسة المؤسسة الدولية للتمويل المذكورة سابقا (مبلغ مرتفع جدا مقارنة بالدخل الفردي السنوي)، فإن نظام الامتيازات لم يفلح عموما في توفير مواطن شغل إضافية، بل بالعكس حافظ على حالة العطالة خصوصا في ظل التدفق السنوي لخريجي الجامعات، وحسب المعهد الوطني للإحصاء فإن عدد العاطلين بلغ 630 ألف من مجموع السكان الناشطين خلال الثلاثي الثالث من سنة 2016، بنسبة تقدر بـ15,5 بالمائة.

-التفاوت الجهوي: لم تفلح منح التنمية الجهوية والمنح المرتبطة بـ”المشاريع ذات الأهمية الوطنية” في تغيير الخارطة الجغرافية للاستثمارات، وفي هذا السياق أشار تقرير أصدره المعهد العربي لرؤساء المؤسسات سنة 2016 إلى أن الجهات الداخلية هي الأقل جاذبية لرجال الأعمال والمستثمرين الأجانب. من جهة أخرى تشير دراسة أصدرتها وكالة النهوض بالاستثمار سنة 2012 إلى أن 93 بالمائة من الشركات الأجنبية منتصبة في العاصمة والشريط الشرقي للبلاد.

-استقطاب الاستثمارات ذات القيمة المضافة العالية: التوزع القطاعي للاستثمارت خصوصا الأجنبية منها يكشف أن هذا الهدف ظل معلقا منذ ثمانيات القرن الماضي، إذ يذهب اهتمام المستثمرين الأجانب إلى قطاعي الطاقة والصناعات التحويلية، وهي قطاعات لا تهدف إلى نقل المعرفة أو توظيف اليد العاملة ذات الجودة العالية.  وبالمقابل توفر قانون الاستثمار امتيازات سخية للاستثمار الأجنبي من بينها السماح بنقل أرباحهم بالعملة الأجنبية، وهو ما يترك أثرا سلبيا على احتياطي العملة الصعبة، مما يدفع الحكومات نحو المزيد من التداين من أجل تلافيه.


رغم الهوة السحيقة بين ضخامة الامتيازات الاستثمارية وبين أهدافها الضعيفة، الغير مؤثرة في الواقع الاقتصادي والاجتماعي، فإن حكومة الشاهد مازالت مصرّة على المحافظة على هذه السياسة تحت عناوين مختلفة من بينها “النهوض بالاقتصاد” و”الترويج لتونس قبلة استثمارية”. ويبدو هذا المنهج مرتبطا إلى حد كبير بمصالح اللوبيات الاقتصادية المستفيدة من نظام الامتيازات القائم، وبالتالي تسعى إلى بذل كل الجهود للمحافظة عليه ومقاومة كل النزعات الرامية إلى الشروع في تغيير جذري للسياسات الاقتصادية والاجتماعية.