بقلم نورالدين ختروشي

مدخل عام: رحلة العبور الصعب

لا يختلف المعنيون بالوضع التونسي على تشخيص أزمة الحياة العامة، وحالة الانسداد السياسي الذي تعيشه البلاد منذ بداية التسعينات. وإذا كانت مسؤولية السلطة تتلخص في اختيارها الأمني واندفاعها نحو الأقصى في تأميم المجال العام ، وتصفية خصومها الجديين بقوة العنف الرسمي، أو مقايضة وجودهم بالصمت . فإن مسؤولية المعارضة الوطنية تتحدد في عجزها على مراكمة مكاسبها على الجبهة الحقوقية، وتحويلها إلى رصيد سياسي في حساب أولويات ومهام المرحلة.
لقد نسجت يوميات النضال من أجل الحقيقة عل الساحة الوطنية، خيوطا لأحزمة أمن حقوقية حصنت العديد من الفعاليات الوطنية من القمع المبتذل ، ولم تنجح المعارضة الوطنية إلى اليوم في تحويل الحصانة الحقوقية إلى حصانة سياسية ، وبقيت سجينة حوارية دائرية حول ضرورة النقلة من الحقوقي إلى السياسي دون النجاح في إنجازها ميدانيا .
إن النهاية الأمنية لإستراتجية السلطة ، واجهتها المعارضة بنهاية أخلاقية ، والتقت معه في القليل من السياسة ، وهو ما يفسر بقاء المبادرة بيد النظام رغم أنه يعمل ضمن دينامكية ممانعة أمام تيار الإصلاح السياسي المتجذر وطنيا ، ومناخ دولي ضاغط في عمومه في اتجاه الانفتاح والديمقراطية ، خاصة بعد أن حصحصت القناعة لدى الجميع بفشل المراهنة على الاستبداد لضمان الاستقرار الاجتماعي ، وبأن مقاومة ظاهرة الإرهاب الدولي تمر عبر تجفيف منابعه التي يضخها تعفن وفساد أنظمة القمع العاري بدول الجنوب .

إن الاتفاق على الطبيعة الأمنية للنظام القائم تدفعنا إلى التذكير بالاستراتجيات الممكنة لمواجهة الأنظمة المغلقة وهي على التوالي :

أ ـ إستراتجية العنف المضاد : وهذه غير مطروحة أصلا على الساحة الوطنية ، وهي علاوة على تفخيخ ممكنات المقاومة المدنية ، غالبا ما تقوي الدكتاتور، وتسند نظامه بمقومات الشرعية [ أنا أو الفوضى ..] والمشروعية [ أنا أو الإرهاب .. ] فالمناضل المسلح هو خبز الدكتاتور الذي به يتغذى كي يستمر .

ب ـ الإستراتيجية الحقوقية: وهي في جوهرها نضال من أجل الحقيقة قد تدفع الدكتاتور إلى التنازل عن فتات المجال العام وهوامشه ولكن لا تزحزحه عن مواقعه.فالحقيقة تفضح الطاغية وتقلقه وتنغص عليه لذة تعميم الرعب، لأنها تذكره بمرارة فشله في كسر أو ترويض إرادة قررت أن تهدي الحرية فرحها الخالد بانتزاع الزمن الاجتماعي من القدر وزفه إلى التاريخ.

ج ـ الإستراتيجية السياسية : إن السياسة تستعين بالعنف استثناءا وبالحقيقة أصلا ،لكنها في رحلة العبور من تخوم المجال العام إلى مركزه ـ حيث رهان الصراع هو التغيير ـ لا تتحرك إلا ضمن معطيات الواقع وإكراها ته ، فهي تقتصد في الحلم فتحوله إلى طموح وتقتصد في الطاقة فتحولها إلى إرادة وتقتصد في التخيل فتحوله إلى تخطيط . إنها عرّاب تنزيل المطلق إلى النسبي والذاتي إلى الموضوعي والمأمول إلى المطلوب .
إن الإستراتيجية السياسية في مواجهة الأنظمة المغلقة بشكلها الشمولي أو البوليسي أو العسكري رهانها الأساسي هو كيفية تحرير مجال مناورة في فضاء محتل، أي كيفية تحويل الهامش إلى مجال تبادل سياسي محكوم بالاعتراف والتنازل.هذا في حين تحتل الأنظمة المغلقة كل الفضاءات وتأمم كل المساحات ، عبر مسار دولنه شاملة ، وبواسطة إستراتيجية رقابية أداتها العنف وجوهرها جدل الطاعة والرعب ، وعنوانها الحضور الكثيف والثقيل لضل الزعيم ـ على اعتباره الفرد الوحيد بتعبير هيغل ـ في كل مكان حتى وإن كان مسرحا للغناء، أو ملعبا للرياضة أو حتى حديقة للحيوانات .

وبالعودة إلى الحالة التونسية نسجل التوافق العام لدى المعارضة الوطنية على ضرورة نقل حراكها إلى الصعيد السياسي كشرط أساسي لتصعيد وتيرة الحركة والخروج بها من مأزقها الدائري.

إن القليل من ا لسياسة الذي مارسته المعارضة التونسية، مشكلته وعقدته إنه لم ينجح في إعادة تطبيع علاقة التونسيين بالسياسة ، أنه لم ينفذ إلى قلب الحراك الاجتماعي، ولم يستجلب العامة التي كان آخر إنخراط لها في العمل العام مع الحركة الإسلامية، فبقيت السياسة نخبوية بعيدة عن تونس العميقة والحميمة همّا واهتماما.

إن نقل السياسة إلى الجمهور يحتاج إلى جدل المعنى والمصلحة، يحتاج إلى رشاقة خلع نوافذ الحلم، وكفاءة فتح أبواب المنفعة. فالمعنى التحرري زمن الاستعمار ولد حزبا شعبيا مازال يحكم إلى اليوم، والمعنى الإسلامي في الثمانينات اخترق ألأحياء الأسواق والمدن والأرياف، في الحالة الأولى نجحت السياسة في تحقيق مطلوبها بانجاز الاستقلال وبناء الدولة الوطنية، وفي الحالة الثانية فشلت السياسة في عقد زواج المعنى بالمصلحة، وسقطت على مسافة شبر من باب السلطان .

لقد نجح بورقيبة في تحقيق مطلوبه من السياسة، وربما فشل الغنوشي في تطويعها ـ وهو مازال يحاول ـ وبينهما قوافل أخرى أصغر اندفعت في نفس الطريق مشيا على الأقدام، فمنها من تعب فتنحى ليبقى علامة نبل على الجانب، ومنها من ندم على المسير فأرتد يرمي صحبه بحجر من سجيل، ومنها من صمد وتعكز على الدرب ينشد” يا وحدنا.. ” .

والحاصل الثابت أن الجميع قد تعب، وعلى جيل جديد أن يتسلم المشعل محافظا على المكاسب شاكرا وممتنا للجميع من يساريين وليبراليين وقوميين وإسلاميين على شرف البداية ونبل المحاولة، معترفا لهم ببطولة الصمود وحجم التضحيات التي بذلوها ، متذكرا إن الانتصار ليس بالضرورة نجاحا، وأن الفشل ليس دائما هزيمة، وأن الذاكرة الإنسانية خلدت العديد من الهزائم على اعتبارها أفاق اكتناز للمعاني والقيم النبيلة، فحنبعل وجان دارك وعلي ابن طالب وعمر المختار والأمير عبد القادر والخطابي وتشي غفارا ، هؤلاء جميعا مهزومون بحساب الحرب والسياسة، ولكتهم ناجحون بحساب المعنى والذاكرة والتاريخ .
إن السياسة التي ندعو إلى استعادتها، هي التي تنشط المخيال النضالي ليصل إلى تونس العميقة فيهزها من الداخل في اتجاه شوق نبيل إلى غد أكثر تحررا، سياسة تستدعي جدل القيمة والمنفعة، تحترم القديم وتراكم إنجازاته ، تنظر إلى النصف الملآن من الكأس، تجدد في الخطاب لتسدد الممارسة، تستنبت الممكن لتجترح الفعال ، تتحرك في اتجاه الحقيقة وتتكلم بنصفها، تثبت البصر على المستقبل وتلتزم بأكرا هات الحاضر وحكم الضرورة .

تونس ومربع التغيير الجديد :

إننا اليوم أمام أجيالا جديدة تصنعها العولمة وتصنع لها أياما وأحلاما، وعلى السياسة إن كانت جادة في إحداث التغيير، أن تلتقط الجوهري والصميمي من هواجس ومطالب هذا الجيل .
لقد راهنت السياسة بتحتياتها الاديولوجية التقليدية على الفقير والمعدم والمحروم والمهمش لانجاز مشاريعها ، وهي اليوم أمام رصيد بشري جديد، وفاعل اجتماعي قادم، لم تنجح بعد في ضبط موقعه من ديناميكية التغيير الديمقراطي المنشود، فضلا على ابتكار لغة تواصل معه . فالمستثمر، أو المقاول، أو رجل الإعمال، هو الفاعل الاجتماعي الجديد، الذي لن يتأخر كثيرا في التحول إلى فاعل سياسي، يطلب حصته من السلطة، فهو سياسي بالقوة، بفعل وحكم الموقع الذي يشغله من علاقات الإنتاج القائمة والمعممة داخليا وخارجيا . فهو الذي يوفر الشغل، ويدفع ثمن التأمين والصحة والتعليم، وهذا مستجد نوعي تحاول السلطة التعمية عليه، فانسحاب الدولة من السوق يفرض تخفيف حضورها في المجال العام لصالح القوى الجديدة، بمعنى أن تحكم اقل، إلا أنها مازالت تتحايل على الواقع، بل وتتشدد أكثر في فرض رقابتها، وتصفية منافسيها بقوة العنف الرسمي، وتحت غطاء الاستقرار الاجتماعي، ومقاومة تطرف لم يعد أحدا يراه ولا ندري كيف تراه ….
إن اجتماعنا الوطني محتقن وملغوم بمجموع انفتاح السوق وانغلاق السياسة، وفي تجربة نمور جنوب شرق آسيا، ما منه يعتبر.أما تحريك مفاعيل تلك المفارقة فهي مهمة عينية وملموسة أمام السياسة، كي تستثير وتبتكر لغة جديدة تستجلب بها العمود الفقري للنسق الاجتماعي القائم، وهو رجل الأعمال الذي تعمل ديناميكية الدولنة والتأميم والاحتكار للفضاء العام لإبعاده واستبعاده من ساحة المشاركة في صنع القرار .

إن الضحية الجديدة التي بدأت تطفو على سطح النسق الاجتماعي المحايث للنظام السياسي ببلادنا هو المستثمر، هو جيل جديد من الشباب سيعلن في المستقبل المنظور حقا في اقتسام الثروة، وموقعا في عملية الإنتاج، ودورا في علاقات القوة والسلطة .

إن المستثمر الوطني اليوم بين نارين، فهو من جهة عاجز على مسايرة المنافسة الخارجية المتوحشة، وهو من ناحية أخرى يكابد ويختنق أمام ممارسات وضغوط حفنة من السماسرة والنهابين المرتبطين بالعائلات الثرية، والقريبة من مؤسسة الرئاسة المتنفذين في أجهزة الدولة ، والساهرين على ديناميكية جديدة مضمونها تفسيخ القانون لصالح العرف ، واستئصال المواطن لصالح المستهلك، لتبقى السلطة كل السلطة والدولة كل الدولة في يد وبذمة وعلى خدمة من يملك الدينار .

إن بؤس الصورة يكمله مشهد انمحاء الطبقة الوسطى، والضعف الفادح للطاقة الشرائية لعموم الناس، وانسداد الآفاق أمام جيش جديد من حملة الشهادات العليا، وظاهرة الهروب المتزايد إلى مجهول الجريمة والمخدرات والهجرة السرية، وتزايد التفكك الأسري والتفسخ الأخلاقي وحداثة مشوهة ومغشوشة تتساكن فيها مظاهر الغناء الفاحش مع تمثلات الفقر المدقع . والسجون التي استقبلت في العقديين الماضيين أفواجا من المناضلين السياسيين، تستقبل اليوم جيشا جديدا من أصحاب الشيكات بدون رصيد، أو الديون الغير مسددة وبلدان الجوار تعج بالمنفيين الجدد الهاربين من أحكام جائرة بعشرات السنين ، إنهم في أغلبهم ضحايا _ لان فيهم السارق والمحتال والنصاب_ ترسانة من القوانين الجزائية التي تضيق على الشباب شق طريق نجاحه الاجتماعي، وتحرمه من حقه في منافسة كهنة السوق الجدد.

ولعلنا لن يجنح بنا التأويل بعيدا عن الحقيقة إذا قررنا ، أن السوس الجديد الذي يهدد اليوم ويلغم أرضية اجتماعنا الوطني، ليس المخبر والجلاد، بل هم كهنة السوق وحراسه الجدد، فهم يتقدمون ببطء وبثبات وتخفي للالتفاف على أجهزة الدولة وإفتكاك السلطة ، والمسافة اليوم في تونس تتسع بين من يحكم ومن بيده السلطة، ورجل الدولة يدفع في كل يوم أكثر إلى الهامش.
إن السلطة تتخفى في دهاليز غير مرئية، والحاكم الجديد أمير غائب يمسك بخيوط التوازنات، ويوجه السياسات، ويرمي برجل الدولة خارج مناطق نفوذه، يستبدل القانون بالعرف، ويستعمل لغة مرمّزة ومشفرة بدأت بعض مفرداتها تشيع في الشارع، لتعلن عن ميلاد شرعية السلطان الجديد.

وهكذا يضاف اسم جديد في قائمة ضحايا النظام ببلادنا، فبعد السياسي والفقير والمستثمر تعزز القائمة بقادم غريب اسمه رجل الدولة. والسياسة هنا أمام تعقيد جديد، يتصل بكيفية المسك بخيط التوازن بين مصالحا مختلفة، وأحيانا متناقضة، لتصبها في إستراتجية موحدة.
في تقديرنا إن ما يمكن أن يستوعب ويمتص تلك التناقضات، هو اتفاقنا على ضرورة حسم معركة الديمقراطية والتعددية والشفافية والتناوب، في إطار مصالحة وطنية شاملة تجد في مربع التغيير الجديد محتواها الوجودي، ومضمونها الوطني، وعمقها الاجتماعي، وتحتها الثقافي وعنوانها السياسي.
إن مواجهة التحديات الصميمية الملموسة والمحسوسة والمتصلة بالهم الوطني العام تفرض هذا اللقاء الصعب والقلق بين السياسي المناضل والسياسي الرسمي لان محل الرهان بحساب اليوم هو الوطن.

فالمصالحة الوطنية ليست علاجا لتونس السجينة، على أهمية أفراغ السجون من مساجين الرأي وليست علاجا لقضية الحريات العامة، على حيويتها كشرط ومقدمة لأي خطوة صحيحة نحو الأمام، ولكنها في جوهرها أرضية لاستنبات مقومات ثقافة سياسية جديدة، يتحول فيها رجل الدولة من عدو خالد للسياسة المناضلة، إلى خصم مرحلي، ثم إلى مشروع حليف إستراتيجي في مسيرة استكمال مشروع تحررنا السياسي والاجتماعي .
إن العرف الخصم التقليدي للعامل، ورجل الدولة العدوالثابت للسياسي المعارض، هما اليوم في موقع الحليف الكامن، ولا بد للذكاء السياسي من أن يستحث كمونهم ليطفو على السطح ويعبر عن نفسه ، أي لابد من إجتراح مجال تواصل معهم، لا لإقناعهم بضرورة الديمقراطية والشفافية وسيادة القانون، فهذه مفردات مدرسية لا يناقشها إلا جاهل أو غبي، وإنما لإقناعهم بأن مصلحتهم ومستقبلهم في مشروع وطني بديل . فليست هناك سياسة بدون مشروع، إذا وبالضرورة بدون المسك بسيولة الزمن الاجتماعي وصبها في كأس المعنى..والمعنى اليوم يتصل بحال مجتمع ومآل دولة.

لقد آن الأوان لتجاوز حالة التواطىء التاريخي التي تعيشها البلاد، والتي تتقاسم المسؤولية عنها المعارضة و السلطة . فالمعارضة الوطنية بقيت سجينة الحسابات الاديولوجية والنخبوية والحزبية الضيقة، ونخرتها شيخوخة الاطمئنان الزائف على أنها قامت بالممكن، لتغطي على شلل مخيالها النضالي، المتجمد على عناوين وإشكال حركية تقليدية، تساهم بهذا القدر أو ذاك في تأبيد الحالة. والسلطة ما زالت تعاند منطق التطور وهواتف الواقع، ويبدو أن همها الوحيد هو تأبيد لحظة الصفر الديمقراطي. إن حوار الصم بين الجانبين تدفع البلاد ثمنه بالحاضر والتقسيط .
إن أزمة اجتماعنا الوطني تكتب سطورها السلطة، ويضع المعارض النقاط على حروفها وقراءتها وفك رموزها وحل تعقيدها لا يحتاج إلى عبقرية خارقة، بل يحتاج إرادة صادقة وشجاعة متواضعة وعقل حكيم. ونحسب أن الوقت قد حان للقيام بمبادرات سياسية حقيقية تتجاوز الموجود، فالوضع التونسي في حاجة إلى صدمة قوية وهزة عميقة تضج هدوء النفوس المطمئنة على سرير الحسابات التقليدية.
فما العمل الآن وهنا ؟

قافلة العودة: تونس لكل أبناءها وإن اختلفوا

إن طرح سؤال المبادرة على أرضية السياسة، يفترض إجابة تتأطر ضمن نسق الحسابات الدقيقة وإكراهات التخلي ن مسبقات القيمة، وتهويمات وفروض الواجب والمطلوب بحساب المطلق، وهي عملية عسيرة ودقيقة لا تترحم من لا يحترم شروطها و إلزامياتها، وهي عملية حسابية قد يسهل تقريرها نظريا ، ولكن تنزيلها عمليا مسألة أخرى تتصل بالآن وهنا ، بمعطيات الممكن والمتاح في ضل الواقع ومعادلاته المستقلة عن تمثلات الذات له، وهي عملية نسبية يفترض أن تضع ممكنات الربح والخسارة، فالخطوة السياسية مهما كانت الحسابات التي تؤطرها تبقى دائما مفتوحة على المغامرة والمفاجأة، ونحسب أن السياسي الموفق والناجح هو الذي يستجمع ممكنات إدارة الفشل والخسارة في أي مناورة أو مبادرة أو إستراتجية يقوم عليها . فالسياسة إدارة لممكنات الواقع عندما يقوم عليها رجل الدولة، وفن لإدارة الصراع عندما يقوم عليها السياسي المناضل، ومقولة الفن تثوي جوهرا ميتافيزيقيا بالضرورة.
وبالعودة إلى الحالة التونسية، يجب أن نذكر بداية وقبل طرح أية مبادرة، على أننا سنمارس بمنطق فن إدارة الصراع، لان جانبا من معطيات المبادرة لا نتحكم فيه ، وهو الجانب المتصل بردود أفعال خصمنا والتي قد ننجح في قراءتها ضمن الافتراض ، ولكننا لن ننجح في ضبطها ضمن منطق الضرورة والحتمية
أن التخلي عن وهم التحكم الكامل في تداعيات المبادرة السياسية، هي الخطوة المنهجية الاولى في نجاح المبادرة ذاتها، فالسياسة في مواجهة الأنظمة المغلقة مغامرة توازي العملية الانتحارية في حالة المواجهة العسكرية، ومن يقوم عليها يجب أن يضع في حسابه أنه يلعب ورقة الكل ضمن منطق وديناميزم السياسة لا الحرب، والفارق الجوهري بين الانتحاري والسياسي أن الأول ينفي الجسد لصالح المعنى، والثاني ينفي القدر لصالح التاريخ .

والسياسة في الحال تنحاز إلى مقدمة كييركيقًَارد في أن “الخوف هو صداع الحرية” لأنه ببساطة وعي بفقدان المصير.

إن هذا التأكيد على طبيعة المبادرة السياسية في مواجهة الأنظمة المغلقة، غرضه ليس التوضيح النظري ـ على أهميته ـ ولكن للتأكيد على أن مساحة المغامرة في الحالة، هي زينة الفعل السياسي، الذي وأن كان يذكر المناضل الحالم ـ على لسان نيتشه ـ إن الوجود بدون إكراه هو مجرد فكرة وليس حقيقة ( حرا من ماذا ..أسأل نفسك حرا لماذا ..) فإنه يذكر العبيدـ على لسان روسوـ أن أبشع ما في الاستعباد هو غياب الإرادة للخروج منه، فالسياسة حتى وأن فشلت في تحقيق العيني والمحسوس تنجح في انتزاع الزمن الاجتماعي من يد الخصم وتحوله من قدر إلى تاريخ، تماما كما تنجح في تكسير زمن الرعب والصمت، واختراقه بلحظة لحساب الإرادة والحرية، وذلك هو جوهر ومعنى المبادرة، لا بحساب التاريخ فقط بل بحساب الآن وهنا، وبشرط واحد ووحيد أن تلتزم السياسة بالممكن لتحقيق المطلوب .

فما هو الممكن اليوم على الساحة التونسية؟؟
تستعد بلادنا لاحتضان القمة الدولية لمجتمع المعلومات في منتصف شهر نوفمبر القادم وتنظيم الحدث في ذاته نسعد له كتونسيين ونهنئ من شرّف بلدنا الصغير باحتضانه.

ولعل أهم ما أثار ردود الأفعال حول تنظيم هذا المؤتمر هو استدعاء إسرائيل لحضوره، وقد أجمعت أطراف المعارضة الوطنية على التنديد بهذا الحضور ورفضه من حيث المبدأ ، خاصة وأن إسرائيل ربما ستكون ممثلة برئيس وزراءها شارون، مع ما يثيره اسم المعني من قرف لمسؤوليته المباشرة على أبشع المجازر في حق الشعب الفلسطيني.

وهذا الرفض لتلك الدعوة مفهوم بمنطق مخزون الانتماء الحميمي للقضية الفلسطينية ، وما التحركات الميدانية التي تجرأ عليها الشارع التونسي عشية الإعلان عن ذلك، إلا مؤشرا على ردود الأفعال المحتملة خلال تلك الزيارة .

كل هذا وغيره صحيح ومفهوم ومطروح أمامنا ، غير أننا نرى في الحدث مفاعيلا أخرى أهم بكثير من الاحتجاج ـ على أهميته طبعا ـ على “مشاركة إسرائيلية عادية”، بحكم انتماء تلك الدولة للمنتظم الدولي، واستدعاءها لا يعدو أن يكون أمرا إجرائيا لا علاقة له بضجيج التطبيع والعمالة للصهاينة كما تروج له بعض الأصوات الشعبوية داخل أوساط المعارضة .

إن التحدي الحقيقي المطروح أمام الحاسة السياسية هنا، هو كيف تحول مفاعيل الغضب على محور قومي أو مافوق وطني إلى إطاره الوطني ؟ أي كيف ندرج تلك المفاعيل ضمن نسق أولياتنا المرحلية كما تطرحها يوميات المطارحة مع خصوم الديمقراطية بالبلاد؟؟؟

إن السياسة تسأل هنا كيف تحول غضبا للمعنى إلى توتر من اجل المصلحة ؟؟ أي كيف تحول طاقة رفض على محور لا تملك خيوط تحريكه والتحكم في مساره لتصبها في صيرورة واقع تملك مداخله وترفض تصميماته وتسعى إلى حلحلتها في اتجاه ما تريد ؟؟

إن الحدث بحساب زمننا النضالي، يأتي في توقيت مهم من حيث إجماع الأطراف المعنية بالتغيير الديمقراطي على محاور وعناوين مقبولة ومتوافق عليها، كالعفو التشريعي العام والإصلاحات السياسة المتعلقة بالحريات والحقوق العامة، والانفتاح، والتعددية، وتنقية المناخ العام عبر مصالحة وطنية شاملة .

والحدث بحساب التوقيت الإقليمي والدولي، يأتي في مناخ عام مشجع ودافع في اتجاه الإصلاح السياسي والديمقراطي بدول الجنوب .

والحدث بحساب تاريخنا السياسي هدية القدر، لننتقل بمسار نضالنا من منطقة الدفاع ورد الفعل، إلى أرضية الخصم لصنع ديناميكية تغيير حقيقية ومن موقع المبادرة والهجوم .

إن ما نقترحه على جميع أطراف المعارضة الوطنية، هو أن تتعاون بالداخل والخارج لتنظيم قافلة عودة جماعية لعدد كبير من المنفيين والصادرة في حقهم أحكاما قضائية جائرة ـ فإذا تعذر ذلك لعدد أ صغر فإن تعذر فعلى الأقل لواحد منهم يمثلهم و ينوب عنهم ـ وذلك عشية انعقاد تلك القمة ، قافلة تضم إلى جانب من يمثل المنفيين بعض الوجوه الوطنية والحقوقية ذات المصداقية والحضور الدولي ، تقبل على البلاد بمطالب معقولة ومقبولة، وفي حدود ما يتحمله الواقع تتصل أساسا بضرورة أفراغ السجون من مساجين الرأي، والقيام بمبادرات جادة للإصلاح السياسي المنشود، وتطالب بمقابلة رئيس الدولة لعرض مطالبها عليه مباشرة وتشهد العالم على ذلك
هذا وأقترح أن ندمج مطلب العفو عن جل ـ وليس كل ـ المحاكمين بإحكام قاسية في القضايا ذات الصبغة المالية، وتسهيل عودة الفارين منهم، ومراجعة التشريعات والقوانين الجزائية ذات الصلة بالأمر، وتخصيص يوما للتبرع الوطني لتسديد ديونهم، إنقاذا للعائلات التي خربت بيوتها لهذا السبب، واستعادة لطاقات وكفاءات نحسب أن البلاد في حاجة إليها، وليكن ذلك في إطار حملة التبرع لمؤسسة الصندوق الوطني 26/26 بشرط أن تشرف عليه لجنة وطنية مستقلة متفقا على مصداقية ونزاهة ونظافة أعضاءها .

والمبادرة إذا أحكم تنظيمها، واستعانت برصيد علاقاتنا الإعلامية والحقوقية والسياسية، مغاربيا وعربيا ودوليا، لا يمكن لها إلا أن تثمر فهي ستضع السلطة أمام ثلاثة اختيارات :

فهي أما أن تتعقل وتستقبل العائدين وتحاورهم ـ وهو الاحتمال الأضعف ـ وعندها سيربح الوطن، ولن يخسر أحدا، وسنبدأ معا كتابة صفحة جديدة في تاريخنا الوطني، عنوانها “تونس لجميع أبناءها وان اختلفوا”
في الاحتمال الثاني ستمارس السلطة سياسة النعامة بتجاهلها للقافلة ومطالبها ـ وهو احتمال ممكن ـ وعندها سنسجل نقطة فاصلة في ملف الحريات عموما وفي ملف اللاجئين أساسا فنوقف نزيف “الخروج الكبير ” ونجعل من العودة أفقا جديدا نعمل في اتجاهه في المستقبل المنظور.
في الاحتمال الأخير سندفع السلطة إلى ممارسة غباءها ـ وهو الاحتمال الأقوى ـ فتزج بالعائد أو العائدين في غياهب السجون بدعوى صدور أحكاما غيابية في شأنهم، وهو خيار قد تدفع السلطة ثمنه غاليا أن عاجلا أو آجلا، ثم وإن كان لا بد من السجن فإن من يقبع فيه اليوم لم نوكله ليدفع عنّا ضريبة التحرر، والشرف كل اشرف أن نشاركه يوميات صموده النبيل ومعاناته الجميلة، هذا دون أن ننسى أن السياسة قد تطلب السجن ـ استثناءا ـ إذا قدّرت فيه كلفة للخصم لا يتحملها وإن كابر، أو رأت فيه معبرا ممكنا لفجر قريب .

والخلاصة من السابق أن المبادرة إذا صدقت النوايا حولها، واستجمعت شروط نجاحها، ستكون سابقة في تاريخ حركات التغيير ومنارة يهتدى بها، وستبث روحا جديدة في الصف الوطني الديمقراطي، وتستعيد السياسة نبلها المطلوب في هذه المرحلة من نضالنا الوطني، كما أنها ستفتح أفقا لديناميكية جديدة أرضيتها هجومية ورهانها التغيير وعنوانها سياسي بامتياز.

لقد بحت الأصوات الخيرة في الداخل والخارج، وترجت في أكثر من مناسبة مؤسسة الرسالة كي تتدخل لحل ملف الحريات ومنع التجاوزات ولكن لم يزد ذلك السلطة إلا تعنتا ـ وفي خطاب عيد الجمهورية ما منه يعتبر ـ وقد حان الوقت ليفهم الجميع أن نساء ورجال البلاد لم يقولوا كلمتهم الأخيرة، وأن من غادر بالأمس بيته وأهله وماله لم يغادرا فرارا وجبنا، وإنما حفاظا على مخزون بشري كان ومزال وسيبقى على ذمة الوطن .
إنني أدعو كل الفاعليات الوطنية والجمعيات والأحزاب بالداخل والخارج أن تلتف حول هذه المبادرة، وتستجمع لها كل مظاهر النصرة الإعلامية والحقوقية والسياسية أي أن تصنع منها حدثا نوعيا في مسار نضالها حتى تكون العودة فاتحة خير على الجميع دفعا للقطار على السكة لاستكمال رحلة التحرر التي بدأها جيل الاستقلال ويدعي جيلنا أنه على نفس الأثر يحث الخطى ويستحث الهمم نحو مستقبل تكون فيه تونس قولا وفعلا لجميع أبناءها وإن اختلفوا.
والله والحرية والوطن من وراء القصد

نورالدين ختروشي

باريس في 26/07/2005

Noureddine_khatrouchi@yahoo.fr