التدخل الأمني -المنتظم داخل الحاضنة النقابية- ذهب في اتجاه تطويع الفضاء الثقافي وفقا للحاجيات المادية للقاعدة الأمنية، من خلال فرض الدخول المجاني للأمنيين وعائلاتهم. ثم وفقا لمدى استجابة الخطابات الفنية وآراء أصحابها للمعايير الأخلاقية والذوقية المنسجمة مع “هيبة رجل الأمن” وموقعه المبجل. هذا الامتزاج الشديد بين التنظم النقابي واستخدام السلطة الأمنية كأداة لفرض التوجهات بالقوة، بات يطرح سؤالا مُلحّا حول استقلالية الفضاءات المواطنية (من ضمنها الفضاء الثقافي) عن الجهاز الأمني، وأي تأثير لاكتساح أعوان الأمن لهذا الفضاء –بنقاباتهم وسلطتهم الضابطة- على حرية الأفراد وحق الفاعلين الفنيين في إنتاج خطاباتهم بكل حرية وبمعزل عن رقابة البوليس؟

بَولسة الفضاء الثقافي

تشهد الفضاءات الثقافية –خاصة المهرجانات- تحولا في علاقة رجل الأمن بالفضاء الثقافي. إذ أن الأمنيين الذين يتواجدون في المهرجانات، وظيفتهم الأساسية حماية تلك الفضاءات تحت مشروعية حمل السلاح، مقابل الاعتراف المُجتمعي لهم بهذا الدور وهذه السلطة. ولكن السياسات النقابية دفعت القوات الحاملة للسلاح إلى أن تحتل مقاعد لها على مدارج المسارح وتشارك الجمهور انفعالاته وتقييماته، ولما لا تضغط على إدارة المهرجانات لإلغاء العروض أو لتوفير تذاكر مجانية لأعوان الأمن وعائلاتهم.

تَلُوح هذه السياسة ناجعة في ظل التواطؤ الذي تبديه وزارتي الثقافة والداخلية، إذ خضعت إدارات المهرجانات للحملة التي قادتها النقابات الأمنية ضد مغني الراب كلاي ب ب جي وألغت كل العروض دون صدور قرارات قضائية. وفي ذات السياق لم تتدخل وزارة الداخلية لضبط حدود التدخل الأمني للقوات الحاملة للسلاح في الفضاء المواطني وعدم تحويله إلى إطار للانفعال والاحتجاج.

إرادة الهيمنة على الفضاء الثقافي تكشف عن استمرار استراتيجيات الرقابة السلطوية على الفعل الثقافي، ولكن بأشكال جديدة. إذ لم يعد التدخل مقرونا بالمنع أو القمع المادي المباشر للمواد الثقافية التي تزعج النظام السياسي، وإنما يجري التدخل الجديد تحت مظلة النقابات الأمنية التي تشهر المقايضة الآتية: الامتِثال مقابل الرضاء الأمني. وفي هذا السياق اشترطت النقابات الأمنية على مغني الراب “كلاي ب ب جي” الاعتذار العلني مقابل التراجع عن موقفها.

سلوك النقابات الأمنية الذي ترتبت عنه قرارات عملية تراوحت بين إلغاء العروض والانسحاب، جعل الفضاء الثقافي إطارا للمصادرة الفردية والجماعية. لأنه حَاكم شكلا من التعبير الفني (الراب) تحت قوة الترهيب والضغط الممنهج، وصادر حق شريحة اجتماعية في التعبير عن تفاعلاتها مع هذا الشكل سواءا بالرفض أو القبول الطوعيين. وفي حالة الفنان نبراس الشمام تحول الفضاء الثقافي إلى إطار للتشفي وتصفية الحسابات، لأنه سبق لنبراس الشمام أن دخل في خلاف مع أحد أعوان الأمن بسبب اعتداء هذا الأخير على ابنته الفنانة عبير الشمام.

احتجاج نقابي بأداة “الدولة”

انبنى الخطاب الأمني المناهض لمغني الراب “كلاي ب ب جي” وللفنان نبراس الشمام على اعتراضات أخلاقية متعلقة عموما برفض “التشهير بالأمنيين وثلبهم” سواء عبر التعبير الفني أو عبر التدوينات “الفايسبوكية”. المفارقة أن الدولة شكلت أداة لتفعيل هذه المناهضة من خلال استخدام أحد أجهزتها الكبرى، وهو الجهاز الأمني. وفي هذه الحالة أخضَع العمل النقابي الدولة -كإطار كلي- إلى مصالحه الاجتماعية والقطاعية الجزئية، وأصبحت (الدولة) وعاءا للانفعالات الذاتية والأخلاقوية وناطقا باسم قطاع تضخمت داخله هواجس المنع والرقابة والتسلط.

على مر التاريخ البشري، طالما مثلت الدولة أو السلطة موضوعا للنقد والسخرية من طرف الفاعلين الاجتماعيين بصيغ تعبير مختلفة، فنية وأدبية وفكرية وسياسية…وفي ركاب التقدم الحضاري توصلت البشرية إلى صيغة تفاهم أكثر عقلانية و”أَنسنة” لتأطير هذا التنازع التاريخي بين الدولة والمجتمع، تضمنته التشريعات المتمثلة بالقوانين والدساتير. في السياق التونسي قام دستور 2014 بتأطير هذا التنازع ضمن مبدأي الحرية والاعتراف. الحرية من خلال الفصل 31 الذي يقر بأن “حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات”. أما الاعتراف فهو تسليم بدور القوات الأمنية في الحماية تحت شرطي الحياد واحترام الحرية، وهو ما نص عليه الفصل 19 من الدستور الذي ينص على أن “الأمن الوطني أمن جمهوري، قواته مكلفة بحفظ الأمن والنظام العام وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات وإنفاذ القانون، في كنف احترام الحريات وفي إطار الحياد التام”.

هذا الأساس الدستوري غاب كمرجعية مُنظمة للدولة والمجتمع عن الذهنية الأمنية، بل غَلُب الاحتكام إلى مرجعيات ثقافية وسياسية سابقة لمقولات “الدولة الحديثة” و”الحرية” و”القانون”، تمظهرت أساسا في التضامن القطاعوي والفئوي الذي يحاكي في آلياته روابط اجتماعية قديمة (القبيلة، العرش…). وقد غاب عن الخطاب النقابي الأمني الأساس القانوني والدستوري وتضخمت الحجج الأخلاقية والانفعالات الذاتية.