قرأت الرسالة المفتوحة للمجهول “أبو سيرين”، وليس من عادتي أن ادخل في ردود على رسائل أو نصوص أشباح المجال السبراني، ولكن ما جاء فيها تزامن مع العديد من التساؤلات التي طرحها البعض، ومنذ بدأت توقيع البيانات والمواقف السياسية بصفتي الشخصية، وكانت الأسئلة في البداية من جهات متسيسة، وهي في المدة الأخيرة من إخوة في الوطن يريدون معرفتي، وخاصة معرفة علاقتي بحركة النهضة، وكنت في كل مرة أتجاهل الرد عليها لتقديري انها غير مفيدة، ولا تعني إلا شخصي، وأن الوقت ليس مناسبا للحديث عن تجربتي مع النهضة .

وقد قررت هذه المرة أن أرد بصفة رسمية، فمن لا يعرفني ويريد ان يتعرف علي ببراءة، أقول له أنني بدأت مسيرة الانخراط في العمل السياسي المنظم مع الحركة الإسلامية في أواخر سنة 1979 ، وكانت وراءها حكاية بسيطة، حيث كنت أدرس بالسنة الثالثة ثانوي بمعهد بقرية مطماطة ، ونجحت بمعية صديق في إيقاف المعهد عن الدراسة وتنظيم إضراب لمدة يومين أو ثلاثة على ما اذكر، وكانت وسيلتـنا في” الإقناع” العنف الجسدي المباشر وترهيب التلامذة، وكان المطلب يومها هو ببساطة توفير حجرة ملابس، حيث كنا نغير ملابسنا في العراء لممارسة الرياضة، وانتهى الإضراب بتحقيق مطلبنا وانتخبت ممثلا عن التلامذة في مجلس المعهد، وداخله تعرفت على أستاذي (فلان)الذي أكن له حبا وتقديرا خاصا الى اليوم، فقد استدعاني إلى منزله و أهداني كتيب عنوانه “ردة ولا أبا بكر لها” وكتاب “أيام من حياتي” لزينب الغزالي، وقد اكتشفت بعد سنوات أنه كان من الرعيل الأول للحركة الإسلامية وبدأت من هناك مسيرتي،مع الحركة، وأمضيت في صفوفها حوالي 10 سنوات، وكانت آخر مهمة رسمية توليتها عضويتي للمكتب السياسي لفصيلها الطلابي سنة 1988 ، واستقلت منه ومن الحركة في نفس السنة لأسباب تتعلق بقلق شخصي من روتين العمل الحركي، وخاصة في مستوى ما دون العضوية والتي كانت قيمتها لا تتعدى عندي علاقتها بحقي في السير بجانب مع من أعمل لا وراءه ـ والسبب كان تدخين سيجارة أو سيجارتين في اليوم لم يتعب الجماعة في معرفة ذلك المعطى الخطير والذي لولا يقظة جنود الليل وفرسان النهار لتسلل السيد كريستال الى بيت الحرمة فهنيئا لمن حقق هذا النصر المبين ا فقد أعان علي الرفيق إبليس وهو يحسب أنه قد أحسن صنعا ـ مضاف الى ذلك عدم رضا عن صك الثقة الذي أمضته الحركة للرئيس الحالي يومها، حيث رأيت ومنذ كنت في السجن أن الرجل سيكون أخطر على الحركة والحريات العامة من بورقيبة، ولم يكن ذلك رأيي فقط، بل كان رأي العديد من الأخوة. المهم قدمت استقالتي الرسمية من الحركة بهدوء ثم توجهت في نفس السنة إلى الجزائر، وبقيت فيها إلى بداية سنة 1990 ، وكتب لي أن اشهد مباشرة التحولات التي عاشتها الجزائر بعد أكتوبر88 ، وقد كانت أياما تاريخية تنقلت فيها من شرق الجزائر إلى غربها، وتعرفت فيها عن قرب عن العديد أبناء ذلك البلد الطيب، وألقيت فيها بعض المحاضرات حول التجربة التونسية في جامعات الجزائر ومساجدها .
ولما انطلقت الحملة الأمنية على الحركة في صيف 1990 واستجابة لخلق ريفي يقول بواجب نصرة القريب عند الشدائد وضعت نفسي على ذمة الإخوة ولكن على أساس وضيفي فقط وليس تنظيميا ــ واعتبرت وما زلت أرى وقد أخطأ أن خروج مورو والبلدي والدمني قد يكون مبررا سياسيا ولكنه مدانا أخلاقيا ــ وساهمت بما تيسر في تأطير بعض التحركات الشعبية والطلابية الميدانية، لخبرة بسيطة اكتسبتها من تحركات سنة 1987 غادرت بعدها في شهر أكتوبر1991 البلاد، ولتـقـف علاقتي الرسمية مع حركة النهضة عند ذلك الحد( [1]) .
استأنفت العمل العام من موقع الاستقلالية عن أي انتماء حزبي بفرنسا سنة1993 ساهمت فيه بما تيسر من وقت وجهد بالقلم وبالتحركات الميدانية على الملف الحقوقي مع وجوه متعددة من الساحة الوطنية إلى حدود سنة 1999 ، حيث أطلقت مبادرة اقترحت فيها تأسيس منبرا للحوار الوطني، كتتويج لذلك النضال الحقوقي، والنقلة به إلى أرضية السياسة، ثم توالت بعدها المقالات والتحاليل والمداخلات العامة واللقاءات الخاصة مع أغلب الفاعليات الوطنية يومها بالداخل والخارج كنت ألح فيها على ثلاثة قضايا مركزية : أولها ضرورة النقلة من رخوية الحقوقي إلى صلابة السياسي مضمونا وخطابا وأسلوبا وأفقا، وثانيها ضرورة قيام مختلف الأطراف بنقد ذاتي، لنعرف على أية أسس نعيد بناء بيتنا من الداخل، وثالثها عدم التسرع في طرح أي عمل جبهوي، و البدء بتأسيس فضاء للحوار الوطني، يعيد لحم عناصر التواصل بين الجميع، بآلية ثابتة ومستقرة وعلى محاور واضحة، تمهد لبلورة مشروع وطني جامع وبديل، ولما تأكدت أن المانع أمام تلك النقلة ليس الوعي بها، فقد بدت واضحة خاصة بعد حدث بن بريك، وإنما غياب الإرادة لإنجازها، انسحبت من الساحة سنة 2003 وكان المقال المنشور في تونس نيوز بتاريخ 05.03.2003 آخر ماحبرت في نقد ومتابعة الساحة الوطنية، انكفأت بعدها على نفسي أقاوم جهلي بالبحث والدراسة وبقيت مراقبا للساحة عن بعد إلى يوم الناس هذا.
ولا يفوتني هنا أن أعترف للأخ صالح بشير بفضله في توسيع وتعميق آفاق رؤِيتي للعالم وأشيائه، وللأخ أحمد المناعي بأنه عرفني بصميمية تونس السياسية والحاكمة منها خاصة .

وبالعودة الى السيد الشبح، أذكره أن في حركة النهضة من القيادات والكوادر من يزن ألفا من مثلي، ولو كان فيها بن علي بنفسه لما حل ملفها مادام خصمها نظام فيه رهط من مثله .
وأعتقد أن الحركة لم تخطأ يوم سحبت ثقتها من النظام الحالي في بداية التسعينات، وشخصيا وبقطع النظر عن خروجي من التنظيم في تلك الفترة، فلم أندم يوما، ولن أندم أبدا على انخراطي في تلك المعركة النبيلة، و رغم أنني لم أكن أملك المعطيات الكاملة على حقيقة إمكانيات الحركة يومها، ورغم ما بدى للجميع في مابعد من سوء إدارة للحيثيات و التفاصيل، فإنني أتحمل مسؤوليتي كاملة أمام الله، والوطن، وأمام شهداء الحركة، ومساجينها، ومن أطرته من أبناءها في إدارة يوميات المواجهة مع النظام من ديسمبر 1990إلى ماي 1991 . وأعجب لبعض الأصوات التي جرمت نفسها وأبطال الحرية بالبلاد، وبرأت القتلة والمجرمين ومغتصبي الحرائر، وانتقمت من تاريخها شطبا بثمن بخس، وركعت أمام جلادها تطلب عفوا ،ولو تذكرت للحظة عظمة ربها لرأته فأرا … فلا نامت أعين الجبناء وضعاف الهمم.
هذا وأحي الطاقم القيادي الذي أدار مرحلة ما بعد المواجهة، واثمن جهد من أشرف على المؤِتمر الخامس للحركة بالمهجر، وأسجل نضج الخط السياسي الذي أعقبه، والذي سهل على المجموعة الوطنية انخراطها من جديد في معركة الحريات بعد أن تأكدت من الطبيعة التسلطية للنظام، مع اختلافي طبعا في تفاصيل تنزيل ذلك الخط، وهو اختلاف عبرت عنه في أكثر من نص مكتوب ومنشور، أسجل أنه رغم أنني كنت أحيانا قاسيا ولاذعا في نقدي لم ألحظ تقطيب جبين أو ضيق صدر من أحد، بل بقيت علاقتي طيبة مع الجميع وإلى يوم الناس هذا .

فلا داعي أيها السيد الشبح للمجاملات الفارغة، وأنصحك ومن وراءك بأن تكفوا عن مثل هذه الدناءات التي لا معنى لها ولا تغري إلا مرضى السياسة، أما شخصي البسيط وبعد حوالي ربع قرن من العمل العام فقد خبرت أمثالك من ما سحي أحذية السلطان وأعلمك إذا كنت لا تعلم أن أصدقاءك ــ قالوا يومها أنهم مبعوثون من القصر الرئاسي والفرق الوحيد انهم لم يكون أباءا لنسرين ــ قد اتصلوا بي مرتين بعد مبادرتي بتأسيس منبر الحوار الوطني سنة1999 ودعوني للعودة بإغراءات مباشرة وكبيرة، وكانوا يومها يبحثون عن” حامدي 2 ” ، وكان ردي لهم بالأمس هو نفسه ردي عليك اليوم: إنني أفضل أن أكون جوارب خرقاء على رجل متوضئة وسائرة في طريق الحرية على أن أكون مديرا في ورشة استبداد، ولتطمئن إنني وأن خرجت من حركة النهضة فلم أخرج عليها، ومازلت أذكَـُر كل من أراه من أبناءها بضرورة الالتفاف حولها، ولم شملها ، والتمسك بوحدتها، وتجميد الخلافات إلى يوم العودة الى الوطن وإعادة بناء مؤسسات الحركة، وبأن من يمشي همزا وغمزا في رفاق دربه هو بالضرورة في خندق عدوه أو خصمه، وان تفتت النهضة لا يخدم سوى مشروع الاستبداد بالبلاد، وتفككها خسارة، لا بحساب حزبي بل بحساب تاريخي ووطني ، كان ذلك موقفي بالجزائر لحظة صدمة الفشل، وهو موقفي اليوم.
فأنا لست ممن ينتقم من تاريخه، بل أسجل أمام المجموعة الوطنية فخري واعتزازي إنني أمضيت أبهى أيام شبابي في صفوف تلك الحركة، ومازلت أذكر أنني كلفت سنة 1980 بانجاز دراسة حول شؤون المسلمين بجنوب شرق آسيا، ومن مدينة قابس وجدت نفسي في أدغال الفلبين و جبال كشمير، وجزر ماليزيا، ولم أبلغ من العمر سوى الرابعة عشرة ،كما أذكر أنني في السنة الخامسة ثانوي، كنت أدرس الفلسفة لأصدقائي في منزلنا وهم في سنتهم النهائية، وكل ذلك الفضل فيه لله، ولجهد تربوي وتأطيري من رجال منهم من أختاره الله شهيدا( كمال المطماطي رحمه الله)، ومنهم من أبتلاه بالسجن شاهدا، ومنهم من يشاركني محنة المنفى، ولهم جميعا أجدد تحية أمتنان واعتراف بأنهم علموني حب الوطن على معراج العبادة لله، أما اختلافي معهم فلن يفسد للود بيننا قضية اليوم وغدا وبعد الغد.
أما ما تقوله عن رموز الحركة الوطنية بأنهم تجارا فلا أسمح لك بذلك وأذكرك ان سهام بن سدرين وراضية والنصراوي ونايلة بن حشيشه وأم زياد و الغنوشي والمرزوقي والمناعي وبن جعفر والهمامي واليحياوي والمستيري وبن سالم وصفر وحسني وعبو والجندوبي وغيرهم أسماء متلأ لئة في سماء وطن، أردتموه أن يكون لكم وحدكم وأرادوه لنا جميعا، فهم معلقة الشرف على جبين الخضراء، وعناوين لكرامة شعب، فلا تحاولوا دغدغة نرجسيتي، لان ما فيٌ منها لن يكفيكم لبلوغ مرماكم
اما دعوتك لي بتسوية وضعيتي، فردٌي على حلول الخلاص الفردي كان سنة99 بعريضة كنت وراءها، وتكفل بها الأخوة محمد المستيري والطاهر العبيدي، ووزعوها يومها علي الإعلام، أعلنا فيها ردا واضحا على مبادرة الحامدي، وما اقتراحي الأخير بتنظيم قافلة عودة إلا انسجاما مع تلك القناعة، ولتعلم وليعلم من وراءك، إنني في شخصي على الأقل لن أعود للبلاد مطأطأ الرأس بعفو رئاسي، حتى ولو قضيت عمري في المنفى، حتى وأن عاد الجميع، وسأترصد الفرص لأعود للبلاد، لا طالبا لعفو ، بل مصرا على مواصلة مشواري، كلفني ذلك ما كلفني، والأيام بيننا وترونه بعيدا وأراه قريبا .
أما ما ذكرته من رصيد الاحترام الذي أحضى به لدى بعض رجالات الدولة، فهو احترام متبادل، ولكن ليس مع من تقصدهم من أمثالك، بل هم رجال من طينة أخرى أعرفهم ويعرفونني، يعملون ليلا ونهارا حفاظا على ما تبقى من دولة، يهددها رهط من السماسرة مثلك، وهم من قصدت في التحليل، والأكيد إننا سنلتقي يوما لخدمة بلد ذرة تراب فيه أغلى علي من حياتي، فقد ولدت في منزل بربري في باطن جبل من ذلك البلد الطيب، ولم أولد على سطحه، واستـنشقت عطر ترابه لحظة ميلادي ولست في حاجة إلى شهادة في الوطنية تكـتب بحبر وسخ وأنامل مأجورة.
وبالعودة الى قرائي الذين تفاعلوا إيجابا مع النصوص التي حبرتها، أشكر لهم نبل مشاعرهم وأرجو أن أكون قد أجبت عن بعض الأسئلة التي طرحوها حول شخصي، واعترف لهم إنني أحس بضيق، تــتـفـلًت معه مني العبارة وأنا أتحدث عن نفسي، ولا أدري ان كنت قد نجحت في هذا الامتحان ، ولكن الأكيد حاولت، ولمن يرى فيما حبرت جموحا، أو شططا، أو جحودا، فلن أسامحه أمام الله إذا لم يصحح، ففي النفس ضعف ونسيان، والحديث فيها وحولها وعنها فخ أو لا يكون.
ولمن أشاع في المدة الأخيرة عودتي إلى النهضة، أقول هذا شرف لا أدعيه، فلم أعد الى النهضة، ولن أعود لها ، ببساطة لأنني لم أعد مقتنعا أصلا بمشروع الإسلام السياسي .
مع عدم تحياتي للشبح، وجميل التحية لمن سماهم بالتجار، وعطرها لمن تفاعل إيجابا مع ما اقترحت أخيرا، ورمضان مبارك على الجميع.

نورالدين ختروشي

باريس في 05ـ 10ـ2005

[1] حبرت عشرات الصفحات حول تجربتي مع الحركة الإسلامية أنشرها بعد زوال محنتها بإذن الله، فهي ليست ملكي، بل ملك الذاكرة الوطنية، وأدعو كل من ساهم في تجارب ذات صلة بالعمل العام، ومن مختلف المدارس الوطنية، أن يحبر ذكرياته وما كسب، فمصيبة السياسة عندنا، أنها تعمل بدون ذاكرة، وفي أحسن الأحوال بذاكرة مثقوبة، أو كاذبة، أو مزورة، أو متواطئة، وهوما يفسر إعادة إنتاج الأخطاء، والعجز عن المراكمة، والبدايات الصفرية ……