عندما نفقد السيطرة على واقعنا نهرب منه، قد نهرب إلى جسد يحتوينا، إلى مكان يُعيد إلينا الإحساس بالأمان، إلى عالم مواز مُتخيّل أو إلى فكرة جامحة تغذّي وهما نحبّه، هذه هي الفكرة الأساسيّة التي تدور حولها مسرحيّة “الهربة”. ما يجمع شخصيّات المسرحيّة الثلاث، غازي الزغباني في دور المتشدّد، نادية بوستة في دور عاملة الجنس ومحمد حسين قريّع في دور الحريف، هو القهر. المتشدّد الدينيّ مقهور من التضييق البوليسيّ ومن واقع لا يستطيع تثويره، عاملة الجنس مقهورة من ظروفها الاجتماعيّة التي دفعتها إلى فتح فخذيها بمقابل زهيد في بلد لا يمكن أن يكون فيه البغاء اختيارا، والحريف مقهور من زوجته التي لم تُغدق عليه عطاء اللذة والمتعة الجنسية. قد تبدو ميكانيزمات الدفاع عند الشخصيات الثلاث مختلفة لكنّ الهروب من الواقع والخلاص منه هو الغاية والمُنتهى. عادة ما يقترن فعل الهروب بالجبن والاستسهال والخوف، لكنّه في مسرحيّة “الهربة” مَنَح الشخصيّات وهم السيطرة فتكوّنت علاقات تحكّميّة متشابكة في عالم ضيّق، عاملة الجنس تتحكّم في مصير المتشدّد الدينيّ الذي وَجد نفسه هاربا من البوليس داخل ماخور، والحريف يتحكّم في عاملة الجنس ويحاول أن يفرض فنتازماته عليها لأنه يمتلك أجرة جَسدها. شخصيّتا الحريف والمتشدّد لا تلتقيان فوق الركح، ما يجمعهما هو عاملة الجنس التي جسّدتها نادية بوستّة بكامل جرأتها وطغيانها وأنوثتها.

الواضح أنّ شخصيّة المومس في مسرحية “الهربة” مختلفة كثيرا عمّا اعتدنا عليه في بعض الأعمال الفنيّة. كسرت نادية بوستّة الصورة التقليدية للمومس التي التصقت في مخيّلتنا الجمعيّة بامرأة تَلوك علكة في فمها، ترتدي لباسا غير متناسق يُظهر مفاتنها بشكل فجّ، وتضع الكثير من مساحيق التجميل التي تُخفي ملامحها الأصليّة. ظهرت نادية بوستة بشعرها القصير الشائب، ترتدي ثياب نوم عادية، دون بهرجة، دون اكسسوارات ودون ماكياج. أتقنت لعب دورها وكشفت لنا عن موهبة ظلّت مغمورة وبعيدة عن الركح. شخصيّة المومس هي شخصيّة محوريّة في المسرحيّة وقد حاولت من خلال لقائها مع المتشدّد الدينيّ أن تفكّك المخيال الذكوري عن المرأة بفطرتها وذكاء قلبها. في العادة يكون الحديث مع شخص متشدّد دينيّا أمرا صعبا، لكن المومس في “الهربة” اقتحمته واجتاحته بتعليقاتها الطريفة وأفكارها التحرّريّة ودهائها الطازج.

عرّت عاملة الجنس التناقضات في شخصيّة المتشدّد الدينيّ الذي يرى في جسد المرأة “عورة” وظلّ في جزء كبير من المسرحية يغضّ البصر ويتفادى التقاء الأعين لكنّه يستسلم في النهاية للشهوة ويلبّي نداء المتعة “المحرّمة”. استطاعت عاملة الجنس أن تُحرّك سواكن المتشدّد الدينيّ، أن تفهم عداوته لذاته وتحاول تخليصه من مخاوفه الدفينة بالحديث والثرثرة والتداعي الحرّ والجنس وحتى بلعب الورق. جاءت شخصيّة الحريف لتعطي أبعادا أخرى لشخصية المومس ولتقرّبنا أكثر من عالمها وتقدّم للناس صورة مختزلة عمّا يَحصل داخل المواخير. نفهم من خلال الحوار بين الشخصيتين كيف يتعامل الحريف باحتقار مع عاملة الجنس المُشتهاة سرّا والتي تبيع له متعة يفتقدها مع زوجته “الطاهرة” و”العفيفة”. كما نفهم من خلال حوارها مع المتشدّد أنّ المتعة الجنسية بالنسبة لها أمرٌ يكاد يكون مستحيلا، تحدّثت كيف أنّها لا تُقبّل شفاه حُرفائها وكيف تَحوّل جسدها إلى آلة تضخّ متعة زائفة.

طَوَّع غازي الزغباني فضاء الأرتيستو ليتماشى مع الحبكة الدرامية لنص “الهربة” فكان الديكور بسيطا ومُعبّرا بعمق عن واقع عاملات الجنس، سرير يُصدر أزيزا عند كل عمليّة جماع مدفوعة الثمن، مرحاض قديم، ثلاّجة فارغة من الطعام، ولعبة في شكل دب يُذكّر شخصية المومس بطفولتها الغابرة. ومعروف أن فضاء الأرتيستو صغير وهو ما يضع الممثّلين أمام مهمّة صعبة، فالمتفرّج قريب من الممثّل ويكاد يكون جزءا من الديكور. الهربة إذن نصّ تونسي عبثي بامتياز وقد اشتغل غازي الزغباني على العديد من النصوص العالميّة التي تنضوي تحت مسرح العبث الذي يجسّد بحق القلق الأبديّ من المجهول. مسرحيّة “الهربة” ستتحوّل قريبا إلى فيلم سينمائيّ مُستلهم من روح النصّ الأصليّ ومن رواية “ماكينة السعادة” لكمال الزغباني، التي تعدّ من أهمّ الروايات التونسيّة المعاصرة لما أحدثته من تغيير كبير في أسلوب السرد والوصف الروائيّ.