فبالرغم من طغيان حدث الإعلان عن حكومة المشيشي على باقي الأحداث السياسية، إلا أن ارتباط دعوة الغنوشي لتغيير النظام الانتخابي بالأزمة السياسية الحالية بسبب اعتماد نظام انتخابات يقوم على التمثيلية النسبية ولا يترك لأي حزب أغلبي الحكم لوحده بأغلبية مطلقة، فتح الباب أمام تساؤلات مشروعة عن خلفيات تلك الدعوة ومدى جدّيتها وواقعيتها. وما إذا كان تغيير القانون الانتخابي هو الحل للأزمات التي تعيشها البلاد؟ وهل في دعوة الغنوشي تقاطع أو تنافر مع مطالب قيس سعيد بتغيير النظام السياسي؟

خلفيات تصريحات الغنوشي

قفز رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في تصريحاته التي دعا فيها لاعتماد النظام الانتخابي الذي يقوم على فكرة الأغلبية المطلقة، على أغلب المحطات السياسية التي حصل فيها حزبه في الحكم على نصيب الأسد من وزراء وكتاب دولة وتعيينات ثقيلة في مؤسسات وأجهزة الدولة. وذلك منذ فترة الترويكا إلى حكومة إلياس الفخفاخ المستقيلة، دون تحمّل مسؤولية عدم التوصل لحل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية، ودون تقديم بدائل وبرامج سياسية لتحسين المؤشرات الاقتصادية والحد من المديونية وإيجاد حلول عملية ودائمة لمشكلة البطالة التي وصلت لـ17.15 % ونسبة الفقر التي وصلت لــ15.2 بالمائة حسب آخر إحصائيات.

كما أن تجاوز كل هذه التركة الحكومية المثقلة بالأخطاء والارتجالية وسوء الإدارة والحوكمة من أجل تعليق فشل الحكومات المتعاقبة على شماعة النظام الانتخابي النسبي والعتبة الانتخابية المشتتة للحضور النيابي في البرلمان، وإن كان يطال جزءا من الحقيقة، إلا أنه لا يكشف عن الحقيقة الكاملة وراء فشل الحكومات السابقة التي شاركت فيها النهضة بشكل أغلبي وتتحمل جزءا هاما من فشلها.

وإن كانت حركة النهضة تبرع في القفز على أخطائها وتحميل أوجه فشلها على فاعلين سياسيين واجتماعيين آخرين سواء ممن شاركوها في الحكم (نداء تونس، المؤتمر من أجل الجمهورية، حزب التكتل، الرئيس السابق المنصف المرزوقي، اتحاد الشغل، الإعلام المناوئ..) إلا أن هذه المناورات لا تعفيها من تحمل مسؤوليتها في ما آلت إليه البلاد من صعوبات في جميع المجالات. ومثلما يحدث في جميع الدول الديمقراطية في العالم فإن المسؤولين في الحكم هم من يتحملون مسؤولية قراراتهم وبرامجهم السياسية.

المشكلة الرئيسية في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعيشها البلاد تعود لثقافة الديمقراطية التي لم تتطور بعد في عقل وسلوك الفاعلين السياسيين الذين تداولوا على الحكم في العشر سنوات الأخيرة لتتحول لسلوك سياسي ناضج يمكّن من إدارة الخلافات داخل النخب الحاكمة وإيجاد حلول للملفات الاقتصادية الحارقة لعلّ أهمها الملف الطاقي في ارتباط مباشر بملفات اجتماعية أخرى من بينها البطالة والفقر والتفاوت الجهوي. هذا دون إسقاط قضية تغيير النظام الانتخابي ومدى مساهمته في تطوير الحياة السياسية في تونس والمحافظة على استقرار البلاد.

مقاربة قيس سعيد لتغيير النظام السياسي

قال سعيد في حديث سابق لقناة “فرانس 24” بتاريخ 23 جوان 2020، ” يجب المضي قدما باتجاه تعديل النظام السياسي في تونس، بعد طرح مشروع قانون الصلح الجزائي مع من تورطوا في الفساد وتعديل القانون الانتخابي حتى يكون الاقتراع على الأفراد “.

وأكد سعيد على ضرورة إيجاد حل للوضع الذي تردت فيه تونس، مشيرا الى أنه لن ينشئ حزبا سياسيا، وأن الأطراف التي تتبنى أفكاره لا تمثله، معتبرا أن الأحزاب ستندثر بعد عقد أو عقدين من الزمن.

تصريحات قيس سعيد حول التصويت على الأفراد بدل القائمات الحزبية أو المستقلة نابعة من رؤيته المجالسيّة المتأثرة بنقاط في الاشتراكية الأناركية التي تعارض المركزيّة الديمقراطية وتحتقر الأحزاب وتعتبرها مشاريع ديكتاتورية مؤجلة، وبالتالي الحل يكمن في المجالس الجهوية والإقليمية والعمالية التي تقدم المقترحات والمشاريع بمصعد اجتماعي لامركزي ينطلق من القاعدة نحو القمة.

رؤية سعيد تقوم على عدم الاعتماد على الأحزاب والحكومة المركزية لتقديم الحلول والمقترحات، بل إن الشباب والعمال والفئات الاجتماعية الدنيا هي المطالبة بالاقتراح وتقديم المشاريع فيما يشبه الديمقراطية الشعبية. وهذا هو جوهر حملته الانتخابية الرئاسية التي لاقت رواجا لدى فئات الشباب والعاطلين عن العمل خصوصا في الجهات المهمشة.

موقف كل من سعيد والغنوشي من تغيير القانون الانتخابي والنظام السياسي وإن يلتقيان في عدم رضاهما على النظام الانتخابي الحالي إلا أنهما يختلفان كليا في رؤيتهما الشاملة للنظام السياسي المنشود، مثل الخطان المستقيمان اللذان لا يلتقيان.