في  23جويلية الماضي، يومين قبل الإعلان عن التدابير الاستثنائية، وقف الرئيس قيس سعيد أمام باب الصيدلية المركزية بعد أن أنهى مهمة تسلم هبة فرنسية من التلاقيح، وكان بجانبه جان باتيست لوموان كاتب الدولة لدى وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي، و أمامه كاميرات وميكروفونات وسائل الإعلام، ورمى في وجوههم وعيده قائلا

في شريط الأنباء يوم أول أمس تحدّثوا عن جلود الأضاحي قبل أن يتحدثوا عن مكالمات مع رؤساء دول شقيقة، كأن قضية الجلود أهم. على الأقل، كان عليهم أن يحترموا الدول الأخرى…ولكن سيأتي الوقت الذي يعرف فيه التونسيون الكثير من الحقائق والكثير من الجرائم وسيتحمل هؤلاء الذين أجرموا في حق الشعب التونسي مسؤولياتهم كاملة أمام القانون.

إن الأمر المحيّر هو  أن الرئيس قدّم معلومتين خاطئتين  حين تحدث عن التعتيم على النشاط الرئاسيى وعن خبر جلود الأضاحي الذي سبق خبر تهاني الرؤساء له بالعيد في النشرة الرئيسية للأخبار يوم 21 جويلية الماضي، فبالرجوع إلى فيديو النشرة المذكورة تبين أن الأخبار افتتحت بنشاط الرئيس الذي  حاز على  7دقائق في نشرة تدوم  37دقيقة. في المقابل، لم تبث تلك النشرة أي خبر عن جلود الأضاحي، وجاء خبر تلقيه تهاني العيد في ترتيب منطقي، حيث تلا ذلك الخبر تقارير عن تعليق أيام التلقيح الاستثنائية وعن إدارة الأزمة الصحية وعدد الوفيات بسبب كوفيد 19، إضافة إلى ريبورتاج عن تطوع أطباء تونسيين قدموا من الخارج لدعم المستشفيات الميدانية، وهي أخبار جميعها تهمّ الجمهور بدرجة أولى ومن الطبيعي أن تسبق في الترتيب خبر تهاني رؤساء أجانب لرئيس الجمهورية بمناسبة العيد، وهي نواميس تفرضها قواعد العمل الصحفي بحكم قاعدة القرب في التعاطي مع الأخبار.

أنذر وعيد قيس سعيد يومها، الذي استند إلى معلومات خاطئة ومن المحتمل أن  يكون على علم بعدم صحتها، بحرب قادمة قد يخوضها  ضد وسائل إعلام عمومية، من أجل أن إعادة ترسيخ قواعد نشرات الأخبار الجامدة كالتي يشاهدها الجمهور في دول دكتاتورية، حيث يكون كل ما يفعله الحاكم أهم من أي حدث آخر، ويتحوّل فيها الإعلام من مرفق عمومي في خدمة الصالح العامّ إلى بوق دعاية للسلطة الحاكمة.

ضغط الهياكل المهنية يغيّر المعطيات

أبدى عدد من الهياكل المهنية المهتمة بقطاع الإعلام، وعلى رأسها النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، تخوّفها من الانحرافات التي من الممكن أن تحدث على مستوى التغطية الإعلامية إثر اتّخاذ التدابير الاستثنائية. حيث دعت الهايكا في بلاغ لها صدر يوم 26 جويلية 2021، مختلف القنوات الإذاعية والتلفزية إلى “ضرورة التشبث باستقلالية خطها التحريري والتصدي إلى أي محاولة للاستغلال والتوظيف”. كما دعت “الصحفيات والصحفيين إلى ضرورة القيام بدورهم بكل مسؤولية في هذا الظرف الاستثنائي من خلال الالتزام بقواعد المهنة وأخلاقياتها والتحلي بأعلى درجات الموضوعية والنزاهة”. كما حذّرت في بلاغ ثان لها صدر يوم 28 جويلية 2021 من تفشّي الإشاعات والأخبار الزائفة، مذكّرة بـ” بأهمية دور وسائل الإعلام خلال هذه الفترة الاستثنائية وبمسؤوليتها في المساهمة في الحفاظ على السلم الاجتماعية”.

وتبدو خطوات الهيئة التعديلية استباقيّة تستشرف التجاوزات التي من الممكن أن تقع فيها وسائل الإعلام، خاصّة العمومية منها، واحتمال تحوّلها إلى بوق دعاية، وهو ما رصده التقرير الأخير الّذي نشرته الهيئة بتاريخ 13 سبتمبر 2021 حول التعدّدية السياسية  في القنوات التلفزية والإذاعية في الفترة المتراوحة بين 25 و31 جويلية . فعلى مستوى التعاطي الإعلامي مع الفاعلين المؤسساتيين (تقرير الهايكا، الصفحة 75/25) يوم 25 جويلية، خصّصت الوطنيّة 1 حيّزا زمنيّا يُقدَّر بثلاث ساعات و20 دقيقة للحديث عن رئيس الجمهورية ومستشاريه، منها ساعتان وتسع عشرة دقيقة كان فيها التّعاطي مع ما حدث تعاطيا إيجابيّا، فيما خُصّصت ساعة فقط ودقيقة واحدة للتعاطي المُحايد مع التدابير الاستثنائية، فيما لم تُسجّل الهايكا أيّ موقف سلبي من التناول الإعلامي لهذه التدابير.

وفي الإطار نفسه، كانت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين قد أصدرت بيانا بتاريخ 29 أوت 2021 تطرّقت فيه إلى “تدخل بعض المسؤولين عن التسيير في بعض مؤسسات الإعلام العمومي لتوجيه الصحفيين لخدمة الرأي الواحد والتدخل في اختيار المواضيع وطريقة طرحها”، محذّرة في الوقت نفسه من العودة إلى “إعلام التعليمات” ومن “انتكاسة حرية التعبير”. ونبّه البيان إلى سياسة التعتيم التي تنتهجها رئاسة الجمهورية وإغلاق باب النفاذ إلى المعلومة أمام الصحفيين.

صحفيّو قسم الأخبار وغياب السياسة التحريريّة

غير أن صحفية من قسم الأخبار تحدثت إلى نواة، وخيّرت بدورها عدم الإفصاح عن اسمها، ونفت أن يكون المشرفون على قسم الأخبار قد وضعوا خطوطا حمراء أو أنهم تلقوا تعليمات مباشرة أو غير مباشرة من رئاسة الجمهورية. وتقول “يوم الخامس والعشرين من جويلية كنت قد غادرت مقر عملي قبل إذاعة خبر الإجراءات الاستثنائية، ثم حين انتشر الخبر عدت إلى مقر القناة، أصررت على أن نخرج للتصوير ونبث تقاريرنا في نشرة الساعة الواحدة ليلا . يومها دخلت إلى مقر العمل قرابة التاسعة والنصف مساء ولكن لم أجد كاميرا أو مصورا من أجل العمل”. وتضيف الصحفية أن صحفيي قسم الأخبار لن يرضوا بالرجوع إلى التعليمات وأنهم صارعوا في السابق ما أسمته بـ”قوى الشدّ” في فترة حكم يوسف الشاهد، وأنهم لا يريدون العودة إلى تلك الفترة، وتضيف:

لا يمكن الجزم بوجود تدخل من رئاسة الجمهورية في القناة الوطنية من عدمه. لكنّ صحفيي قسم الأخبار ملتزمون بتطبيق القواعد المهنية رغم كل العراقيل التقنية. فإضافة إلى سياسة التعتيم التي أصبح يمارسها كل المسؤولين، نواجه في قسم الأخبار مشكل غياب البوصلة التحريرية، فكيف لقسم أخبار أن ينجز عمله دون اجتماع تحرير يحدد الأولويات والمضامين؟ شخصيا مللت من طرح مشاكلنا الأزلية التي تبدأ من عدم توفر كرسي لتجلس عليه في قاعة التحرير وصولا إلى القانون الأساسي ومدونة السلوك والأموال المهدورة في القناة. وبالنسبة لي ما يحصل في  التلفزة الوطنية هي نموذج مصغر لما يحصل في تونس. فغياب إدارة حازمة وعدم التغيير المستمر للمشرفين على التحرير بتغير الظروف السياسية المتقلبة، أثرا بشكل كبير على عملنا.

لا تخفي الصحفية المذكورة امتعاضها مما أسمته سياسة “الترضيات” في قسم الأخبار والتي أثرت في النشرات وتقول “هل من المعقول أن يتداول على نشرات الأخبار سبع مقدمين؟ هذه بدعة تونسية لم نرها في أية قناة أخرى”.

يقول صحفي آخر بقسم الأخبار، خيّر عدم الإفصاح عن هويته، إنه منذ أن اتخذ الرئيس قيس سعيد الإجراءات الاستثنائية يوم 25 جويلية الماضي، دخل قسم الأخبار في القناة الوطنية الأولى في تخبط تحريري بسبب صعوبة الوصول إلى مصادر المعلومة، سواء كان ذلك في الإدارات والهياكل العمومية أو الأحزاب. ويضيف:

لا أحد ينكر ذلك التخبط، لكن هناك عوامل أخرى ساهمت فيه، ويمكن أن ألخّص الارتباك الذي يظهر في صياغة النشرة ومحتواها إلى تراكمات أساسها عدم وجود سياسة تحريرية واضحة وغياب أي رؤية بسبب عدم وجود هيئة تحرير في قسم الأخبار، كل ذلك السياق ستكون نتيجته الحتمية نشرة أخبار تعج بالنواقص، فيصبح من السهل أن يقتنص أي طرف بيده السلطة الفرصة للضغط مباشرة على الصحفيين. ومن جهة أخرى يمكن للصحفيين أن يسيروا تلقائيا وبسهولة في اتجاه الطرف الذي يملك السلطة باعتبار أنه لا توجد بوصلة تحريرية توجههم.

ولا ينفي الصحفي المذكور أن الصحفيين في قسم الأخبار انساقوا لا شعوريا بعد 25 جويلية للمزاج الشعبي، وأن ذلك قد يكون إما إبراء للذمة، خاصة أنه لا أحد يريد العودة إلى مربع الاتهامات التي يواجهها صحفيو التلفزة الوطنية بعد الثورة، وميل البعض تلقائيا  إلى الطرف الأقوى بعد تغير موازين القوى.

بين مقاومة الضغوط السياسيّة والعوائق التقنية

استجابة للمطالب المتكرّرة للهياكل المهنيّة المختصّة في قطاع الإعلام، ونظرا لتكرّر الملاحظات حول إمكانيّة تحوّل غرفة أخبار الوطنيّة الأولى إلى أداة دعاية، بثّت الوطنيّة الأولى بتاريخ 2 سبتمبر 2021 تقريرا مدّته 4 دقائق (من الدقيقة 11 و20 ثانية إلى الدقيقة 15 و10 ثوان) بعنوان: “سياسة اتّصالية غائبة.. ضرب لحقّ النفاذ للمعلومة وانتشار الأخبار الزائفة”، تمّ خلاله عرض مواقف عدد من الصحفيين ورؤساء التحرير والخُبراء في الإعلام والاتصال والناشطين في المجتمع المدني، الّذين انتقدوا “الضرب الممنهج لحقّ النفاذ للمعلومة، وحقّ الإعلام في مساءلة المؤسسات. كما دعَوا إلى تحديد سياسة اتّصالية واضحة من رئاسة الجمهورية للحدّ من الأخبار الزائفة والإشاعات وعدم الاكتفاء بإصدار البلاغات على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على فايسبوك.

 تسلمت سعيدة بن حمادي مهامها في الإشراف على التحرير في جويلية الماضي. وترجع بن حمادي في تصريح لـ”نواة” ضعف نشرة الأخبار تقنيا وصحفيا، إلى ما أسمته بالمسائل اللوجيستية ، وتضيف:

تسلمت مهام الإشراف على التحرير وكل ما هو إداري في قسم الأخبار في ظرف يتسم بالضبابية، لكن لم تصلنا أية إشارة من قريب أو من بعيد بالخوض في مواضيع دون أخرى. أما بخصوص عدم استضافتنا مسؤولين سياسيين، فذلك يعود إلى عدم تجاوبهم مع اتصالاتنا، وهو الحال بالنسبة للوزارات والمؤسسات العمومية.

اشتكت بن حمادي ما لا يقلّ عن نصف ساعة من الزمن من الظروف الكارثية التي يعمل بها صحفيو قسم الأخبار بالقناة الوطنية الأولى. ولكنها في المقابل لا تنفي تحملها وزملاءَها المسؤولية وتقول: “عقدنا اجتماعا الاثنين الماضي، وكان مناسبة للنقد الذي وصل حد جلد الذات. نحن واعون بتقصيرنا، لكن ما عمّق الأزمة حقا هو التقاء مجموعة من العوامل الأخرى. فانقطاع التيار الكهربائي طيلة عشرة أيام قد تسبب في إعدام جزء من أرشيف الأخبار، وأصبح نسق عملنا بطيئا وعدنا للعمل بوسائل بدائية جدا، وهو ما أثر في الصورة وفي تسرب أخطاء في عناوين النشرات”.

لا تزال التلفزة الوطنية مطبخا سرّيا حارب من أجله سياسيون طيلة عشر سنوات، وكانت النتيجة محتوى وبرامج لا تستجيب لتطلعات الجمهور. في المقابل، استفادت الحكومات المتعاقبة من تعويم مشاكل القناة العمومية حتى تحصد شيئا من النفوذ من خلالها.