بعد أكثر من سنتَين من تعيينها مديرة لديوان رئيس الجمهورية في 28 جانفي 2020، تركت نادية عكاشة قصر قرطاج يوم 24 جانفي 2022، إثر مرور ستّة أشهر على اتّخاذ التدابير الاستثنائيّة. وقد ورد بالرائد الرسمي الصادر بتاريخ 25 جانفي الجاري إنهاء تكليف نادية عكاشة بمهامّ مديرة الديوان الرئاسي، في حين أنّها تقدّمت باستقالتها إلى رئيس الجمهورية رسميًّا. وقد عبّر عدد من الفاعلين السياسيّين عن مواقفهم من هذه المغادرة، حيث اعتبر محمّد المسليني عن حركة الشعب  هذه الاستقالة ”مسألة عاديّة“ ليس من شأنها تعطيل الحياة السياسيّة، في حين اعتبرها رضا الشعيبي عن حركة النهضة ”دليلا على حالة الاضطراب“ التي يعيشها ديوان رئيس الجمهورية. ويُتداول أنّ سبب الاستقالة يعود إلى تسلّل ”الشقوق“ إلى قصر قرطاج، في الوقت الّذي وعد فيه رئيس الدولة في أكثر من مناسبة بعهد جديد يضع مصلحة الوطن فوق كلّ اعتبار.

خلافات متتالية مع المستشارين

بملامح صامته وباردة، وابتسامة تكاد لا تكشف عنها أسارير وجهها المتكتمة، ولباس محافظ يلازمها في غالب الأحيان، تستقبل المستشارة الأربعينيّة ورئيسة ديوان قيس سعيد نادية عكاشة ضيوف القصر الرئاسي وتحضر جلسات واجتماعات الرئيس بالمسؤولين والوزراء والوفود الزائرة لتونس من الخارج، أو هكذا يتراءى لنا المشهد من الداخل حسب ما نقله لنا قسم الاتصال بالقصر. على خلاف المكلفة بالاتصال سابقاً في رئاسة الجمهورية رشيدة النيفر التي كانت تردّ في غالب الأحيان على الانتقادات التي تطال عملها وتمسّ مؤسسة الرئاسة، ركنت رئيسة الديوان نادية عكاشة للصمت والتحفظ عن الرد عن التهجمات والانتقادات للأدوار التي تلعبها داخل قصر قرطاج، وفي علاقة بنشاط الوزراء وملف التعيينات.

وقد عبّرت النيفر عن عدم رضاها على طريقة العمل داخل الديوان الرئاسي بعد إستقالتها في 22 أكتوبر 2020 وتساءلت عن دور مدير الديوان في حوار مع مجلّة ”جون أفريك“ نُشر بتاريخ 11 جوان 2021:

لا يمكن لمدير الديوان أن يعوّض رئيس الجمهورية. ولكن يبدو الآن أنّنا نتعامل مع شخص يريد أن يحلّ محلّ الرئيس، وهو ما من شأنه أن يخلق نوعا من الخلط.

وفي حوار لها مع نواة، في ديسمبر 2020، تقول رشيدة النّيفر إن الخلاف بينها وبين نادية عكاشة كان حول ”جزئيات غير مهمّة“ تتعلّق بطريقة العمل دون التطرّق إلى التفاصيل.

في جامعة سابينزا الإيطالية التي سلمت لسيس سعيد دكتوراه شرفية. روما، جوان 2021.

ويتقاطع نقد النيفر لطريقة تعامل عكاشة مع منصبها مع تصريح المستشار السابق لديوان رئيس الجمهورية عبد الرؤوف بالطبيب تعقيبا على نصّ استقالتها. أشار بالطبيب إلى ”مبالغة“ نادية عكاشة في التدوينة التي نشرتها. وقال إنّها كانت موظّفة سامية تدير الدّيوان تحت إمرة رئيس الجمهورية، ولم تكن منتَخبة من الشعب لإدارة شؤون البلاد حتى تتحدث عن ”اختلافات جوهرية“، داعيا إلى التحلّي بـ”شيء من التواضع“.

للإشارة، فقد كانت عكاشة باحثة زميلة في معهد ماكس بلانك للقانون العام والقانون الدولي المقارن في هايدلبرغ بألمانيا، وتهتمّ في أبحاثها ومنشوراتها العلميّة بالعدالة الدستورية والقانون الدستوري الدولي. كما تابعت عملية الانتقال الديمقراطي في تونس من خلال عملها كمحلّلة قانونية لبعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات في تونس سنة 2011 ومستشارة لبعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات في سنة 2014.

تحصلت نادية عكاشة على الأستاذية في العلوم القانونية سنة 2004 من كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس، إلى جانب شهادة الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري (جويلية 2005)، وعلى الماجستير في القانون العام والمالي (جوان 2006) وتحصلت على الدكتوراه في القانون (أفريل 2017). وتولّت التدريس كأستاذة مساعدة قارة بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس منذ جويلية 2017. كما كانت باحثة في مخبر القانون الدولي ومخبر القانون الدستوري المقارن مختصّة في العدالة الانتقالية. يقول رافع بن عاشور لنواة إنّه قام بتشريكها في عدة ندوات ولقاءات علمية خارج تونس بصفته المشرف على مخبر القانون الدولي.

”مثابرة لكنها غير استثنائية“

لئن كان واجب التحفظ الذي تقتضيه المهمة الموكولة لعكاشة في ديوان رئيس الجمهورية يدفعها لعدم الرد على منتقديها، فإنّ سلوكها المتحفظ لا يبدو أنه من باب التكيّف مع الوظيفة فقط. فقد حدثنا أستاذها في الجامعة الذي أشرف على أطروحتها في الدكتوراه رافع بن عاشور عن طباع رئيسة ديوان الرئيس، إذ يصفها بأنها ”خجولة ومنطوية، من أولئك الذين تنحصر حياتهم بين الكليّة والمنزل“. ويضيف ”لقد كانت جدّية ومنضبطة. لم تكن فعلا استثنائية لكنها كانت مثابرة“. ويضيف بن عاشور:

لم تكن بالمرّة مسيّسة ولم تكن من أتباع قيس سعيّد في الجامعة بما أنها لم تكن ضمن طلبته ولم تتعامل معه كأستاذة مساعدة في الكلية. إن علاقتها به حديثة العهد، برزت في السنتين الأخيرتين.

هذا الوصف ينطبق بطرق مختلفة على أغلب رجالات ونساء قيس سعيد الذين اختارهم للعمل معه في خطط مختلفة داخل القصر الرئاسي أو خارجه. فأغلبهم مختصّون في القانون، لا تاريخ سياسي أو نقابي لهم. لا شيء استثنائيّ في مسيرتهم، عدا مثابرتهم في العمل والتحصيل الأكاديمي، مع شي من الرتابة والغموض والمحافظة.

يقول أحد زملاء نادية عكاشة السابقين في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس، اختار عدم الكشف عن هويته، إنّ نادية عكاشة كانت ”جدّية في عملها وكتومة“، وأنّها كانت من المقربين من الأستاذ رافع بن عاشور، قبل أن تصبح ”من المغضوب عليهم“: ”كان لرافع بن عاشور حاشية في الكلّية. إلّا أن نادية عكاشة كان لديها رصيد من الاستقلالية في علاقتها ببن عاشور، وهو ما لم يرق له“.

يقول زميلها السابق إنها لم تكن تهتم بالشأن العامّ، وإنّها لم تشارك ولم تدعم أي تحرك احتجاجي داخل الكلية، مُضيفا أنّها لم تكن داعمة بأي شكل من الأشكال للاتحاد العام لطلبة تونس على عكس ما تم تداوله في الإعلام:

كانت نادية عكاشة من الذين يكتفون بالتدريس والجانب الأكاديمي فقط ولم تكن لها أنشطة اجتماعية أو سياسية نظرا لطابعها الميال إلى التحفظ. عكاشة شخص محافظ بالمعنى الكلاسيكي، وهي نقطة مشتركة مع قيس سعيّد إلا أنها أقل تشددا منه في المسائل المجتمعية.

مسيرة ومواقف

سبق أن اتّهمت نادية عكاشة الأستاذة المساعدة في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية والمستشارة القانونية لرئيس النواب السابق محمّد الناصر، منى كريم، بسرقة مقتطفات من مذكرة بحثها العلمي وإدراجها في مقال لها. ولكن قرار اللجنة المحدثة في الكلية للتدقيق في ذلك لم يكن في صالح مديرة الديوان السابقة. ”لقد شعرت نادية عكاشة بالضيم حينها وهو ما جعلها تلتجئ للقضاء“، يضيف مصدرنا. في نفس الوقت، رفعت منى كريم قضية بنادية عكاشة واتّهمتها بـ”نسبة أمور غير قانونية لموظف عمومي دون أن يدلي بما يثبت صحة ذلك، والثلب بادعاء أو نسبة شيء غير صحيح بصورة علنية“. وتلقت عكاشة استدعاء في هذا الغرض للمثول أمام المحكمة الابتدائية بتونس يوم 28 أكتوبر2020، ولكن تمّ تأجيل النظر في قضيتها. وقالت الأستاذة منى كريّم في تصريح لنواة إنّ القضيّة مازالت جارية وتمّ تأجيلها إلى 8 أفريل 2022.

وصفت مجلّة جون أفريك نادية عكاشة بـ”المرأة الحديدية“، التي لا يمكن تجاوزها لمن يرغب في لقاء الرئيس. هذه الصورة يُنسِّبها نوعا ما مصدرنا إذ يصف عكاشة بالمرأة ”القوية التي تعمل دائما على تحقيق أهدافها ولكنها من غير المتوقّع أن يكون لها تأثير كبير على قيس سعيد. فكلّ من تعامل معه يؤكّد أنّه عنيد ولا يغيّر مواقفه بسهولة“.

أمّا عن أبرز مواقفها السياسيّة النادرة، فقد عبرت نادية عكاشة عن رفضها لقانون تحصين الثورة، في إطار ندوة صحفيّة نظّمها حزب نداء تونس يوم 13 ماي 2013 لحشد الجهود السياسيّة من أجل إسقاط هذا المقترح، الّذي يهدف إلى  تجميد النشاط السياسي لأعضاء حزب التجمّع الدستوري الدّيمقراطي المنحل. وفي تدخلها خلال الندوة، قالت نادية عكاشة إنّ ”قانون تحصين الثورة لا يمثل ممارسة قانونية سليمة، بل هو قانون يهدف للانتقام والإقصاء“.

تتعدد دلالات الاستقالة العاشرة في مؤسسة رئاسة الجمهورية منذ بداية عهدة قيس سعيد، أي منذ سنتين. دون حزب أو تنظيم، دون تحالفات سياسية، تزداد عزلة قيس سعيد الذي فقد تدريجيا سواء أصدقاء مقربين جداً رافقوه منذ شبابه كعبد الرؤوف بالطبيب أو زملاء سابقين شاركوه المشروع السياسي كعكاشة والنيفر. ليبقى الرئيس اليوم وحيداً مستنداً فقط على مساندة شعبية واسعة… وطاعة القوات المسلحة.