تونس، 20 جويلية 2022. صورة لطارق العبيدي

بعد تجربة أولى سنة 2002 تحت حكم بن علي لإدخال بعض التنقيحات على دستور 1959، يجد التونسيون أنفسهم أمام استفتاء فرضه الرئيس قيس سعيّد حول مشروع الدستور. فمنذ سنة 2011 إلى اليوم، تعاقبت أزمات الحكم وتفاقمت معها أزمة الثقة بين السياسيّين والنّاخبين. أمر منطقيّ في ظلّ تقهقر ظروف المعيشة وارتفاع نسبة البطالة وغلاء الأسعار وارتهان الأمن الغذائي الوطني للدّول والجهات المانحة. لكن رغم ذلك، قد يلوح الأمل في تغيّر المعطيات عندما يتنوّع العرض السياسي، ولكنّ الأمور تبقى نسبيّة، خاصّة إذا قارننا حجم الدّعم والثقة التي يحظى بهما قيس سعيّد مع نسبة المشاركة في الاستشارة الوطنيّة التي مهّد بها مشروعه السياسيّ الجديد.

العزوف عن الاقتراع: موقف سياسي

من خلال المؤشرات العددية، يمكن قراءة مدى إقبال التونسيّين على الاستفتاء يوم 25 جويلية 2022. حملة الاستفتاء نفسها كانت باهتة وبطيئة، فالأماكن المخصّصة للمشاركين في الحملة بقيت فارغة على الجدران وهيئة الانتخابات بدت مرتبكة في عملها، خاصّة مع بروز بعض الخلافات داخلها. فقد مهّد قيس سعيّد لمشروعه السياسي باستشارة وطنيّة لم يُشارك فيها سوى 415 ألف شخص تتراوح أعمارهم بين 16 و ما فوق الستين سنة، بما يمثّل 6.14% فقط من جملة المتساكنين، رغم أنّه يتصدّر قائمة السياسيّين الّذين يحظون بثقة التونسيّين.

صورة لسيف كوساني

وفق أستاذ علم الاجتماع محمد الجويلي، تختلف الانتخابات عن الاستفتاء في طريقة تمثّل الناخبين لهذين الحدثَيْن. “في الانتخابات، هناك علاقة شخصية بين القائمة المترشحة- حزبيّة كانت أو مستقلّة- والناخب، من حيث الوعود والمشاريع التي يمكن أن تتحقّق. ولكن مع الاستفتاء الأمر يختلف”، يقول أستاذ علم الاجتماع محمد الجويلي لنواة، معتبرًا أنّ الاستفتاء بنعم أو لا على مشروع الدستور يُعدّ “عمليّة غامضة” لأنّه اقتراع على “مسألة دستورية”:

الدستور فكرة هلاميّة، فلا قيمة اعتباريّة له لدى عموم الناس. التونسيّون لا يعرفون الدستور ولا معرفة قانونية لهم. فهم يعتبرون أن الدستور لا يمكن أن يُغيّر واقعهم، ولا يرون مبرّرا كافيا للاقتراع.

فالعزوف، حسب محدثنا، هو “موقف”من المشهد السياسي في مُجمله أو من العمليّة الانتخابيّة تحديدًا، حتّى وإن تعلّق الأمر بمن يعتبرون أنفسهم غير معنيّين بالشأن العامّ بشكل مباشر. ويضيف:

هناك موقف عالمي إزاء الديمقراطية التمثيليّة التي أصبحت تعيش أزمة. ففي انتخابات 2019 مثلا، شارك 11% فقط من فئة 18-25 سنة في عمليّة التصويت.

وفي تصريح سابق، اعتبر الباحث ماهر حنين أنّ “جزءًا من الناشطين الشّباب لا يؤمنون بأنّ التغيير يبدأ من المؤسسات، بل يتمّ عن طريق الشارع، الذي يمثّل شكلا من أشكال الفعل السياسي”.

 

العزوف في أرقام

 

4.300.000مقترع شاركوا في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011، بنسبة 51.97% من جملة المسجّلين الّذين توافدوا منذ الصباح الباكر على مكاتب الاقتراع ليضربوا موعدًا مع التاريخ في أوّل انتخابات ذات مصداقية في تاريخ البلاد. ولكنّ ذروة المشاركة في الاقتراع شهدتها الانتخابات التشريعية لسنة 2014، حيث بلغت نسبة الاقتراع 68.36%. هذا الإقبال مردّه رغبة الناخبين في القطع مع فترة التأسيس للجمهورية الثانية من 2011 إلى 2014 التي شهدت أحداثا إرهابيّة واغتيالات سياسيّة، وقطع الطريق أمام حركة النّهضة وحلفائها خلال تلك الفترة. أما الانتخابات الرئاسية فقد استقطبت بدورها عددا هاما من المقترعين سنة 2014، بلغت نسبة مشاركتهم 62.9% خلال الدّور الأول، و60.1% خلال الدّور الثاني، في نطاق الاستقطاب الثنائي بين “الرجعيّة”التي تمثّلها حركة النهضة وحلفاؤها، و”الحداثة” التي تجسّدت في حزب نداء تونس. وبعد سنوات من التّوافق المفاجئ بين النهضة والنّداء في فترة 2014-2019، تراجع منسوب ثقة الناخبين في الفاعلين السياسيّين التقليديّين وصعدت القائمات المستقلّة في الانتخابات البلديّة التي حظيت بـ32.9% من الأصوات، رغم أنّ نسبة الإقبال على التصويت لم تتجاوز 35% من إجمالي المسجّلين.

صورة لسيف كوساني

وفي سنة 2019، سجّلت نسبة الإقبال على التصويت في الانتخابات التشريعية 41.7%، وهي نسبة ضعيفة بالمقارنة مع انتخابات 2014، قد تكون ناتجة عن خيبة الأمل الأولى التي توافق فيها النهضة والنداء. ولم يتغيّر الوضع كثيرا بالنسبة إلى الانتخابات الرئاسيّة في دورها الأوّل، حيث شهدت إقبال 49% من المقترعين. ومع صعود قيس سعيّد ونبيل القروي إلى الدّور الثاني، ارتفعت نسبة التصويت لتصل إلى 55%، ثقة في أحد المترشّحين. ولكنّ الملاحظ أنّ نسبة الإقبال في تراجع، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نسبة المُسجّلين في سجلات هيئة الانتخابات.

 

العزوف عن الاقتراع، ترجمة للثقة والتشاؤم

 

نشرت جريدة المغرب يوم 18 ديسمبر 2019 نتائج سبر آراء أعدّته شركة “سيغما كونساي”، رصدت فيه “ارتفاعًا قويّا في تشاؤم التونسيّين”. فـ72.4% من المُستجوَبين يعتبرون أنّ “البلاد تسير في الطّريق الخاطئ”و80.4% “غير راضين على الطريقة التي تسير بها البلاد”. ومع تفاقم الوضع الوبائي في ماي 2021 وتدهور الوضع الاقتصادي، الّذي لم يتعافَ إلى الآن، تقول نتائج سبر الآراء إنّ 90% ممّن تمّ استجوابهم يعتبرون أنّ تونس تسير في الطّريق الخاطئ.

وبعد  25جويلية 2021، وبتغيّر المشهد السياسي، اعتبر 74% من المستجوَبين في سبر آراء أنّ تونس تسير في الطّريق الصحيح، فيما رأى 61% أنّ الوضع ما قبل الثورة كان أفضل. وتراجع منسوب الثقة في مارس 2022، حيث اعتبر 52.4% من المُستجوَبين في سبر آراء أنّ تونس تسير في الطريق الخاطئ. من جهتها، أصدرت مؤسسة “آمرود” المختصّة في سبر الآراء إحصائيات حول “درجة الرّضا عن أداء رئيس الجمهورية”، أفادت أنّ قيس سعيّد يحظى بثقة 59% من مجموع العيّنة التي تمّ استجوابها في أفريل 2022، في حين كان يحظى بنسبة ثقة بلغت 81% في أوت 2021.

إزاء تفاوت موازين القوى بين حماسة مساندي مشروع قيس سعيّد وتراوح المعارضين له بين موقف المقاطعة والتصويت بلا، قد لا ننتظر رهانا حقيقيا أو غموضا في علاقة بنتائج الاستفتاء. استفتاء تشرف عليه هيئة غير الرئيس تركيبتها أشهر قليلة قبل موعد 25 جويلية. وأمام العرض الباهت لمحتوى فقرات التعبير الحر التي تبثها التلفزة الوطنية، تُطرح تساؤلات حول سلامة المسار الانتخابي يوم الاقتراع، وجدية النتائج و النسب التي ستفرزها، خاصة وأن الرئيس لم يجد حرجا في دسترة استشارة الكترونية رغم تدني نسبة المشاركة فيها واعتماد مسانديه لعبة التخويف بعودة غول المنظومة السابقة في صورة فشل العملية و سقوطها.