يعتبر تشكيل الهيئات الدستورية في الآجال المحددة من أهم رهانات المرحلة المقبلة. وتكمن أهمية هذه الهيئات في ضمانها لإحداث توازن جدي لتركيز الديمقراطية بالتوازي مع عمل السلطات الثلاث، البرلمانية، والتنفيذية، والقضائية، خصوصا مع سيطرة حزب نداء تونس الفائز في الإنتخابات التشريعية والرئاسية على أغلب هذه السلطات.

تختلف البنود المنظمة لتشكيل وعمل الهيئات الدستورية في ما يخص آجال إنشائها وتركيبتها وأهدافها وسنذكّر في هذا المقال بمختلف هذه الهيئات وببعض الإشكاليات التي تشوب مسار إحداثها.

إشكاليات تلاحق عمل الهيئات الدستورية “المؤقتة”

يختلف مهتمون بالشأن السياسي حول إمكانية اعتبار بعض الهيئات المنبثقة عن المجلس الوطني التأسيسي والتي شرعت فعلا في القيام بمهامها هيئات دستورية من عدمه. ويعود هذا الخلاف لعدم استمرارية هذه الهيئات نظرا لكونها هيئات وقتية حددت مهامها حسب طبيعة عمل كل منها. وهذه الهيئات هي: الهيئة العليا المستقلة للإتصال السمعي البصري الحالية، الهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية القوانين وهيئة الحقيقة والكرامة.

عرفت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري منذ تشكيلها عديد المواجهات مع عدد كبير من الأطراف السياسية والإعلامية ووصلت الخلافات إلى حد التشكيك في دستوريتها. وقد عرفت هذه الهيئة التي تم تكوينها على أساس الفصل 127 من الدستور الجديد، اعتراضا واسعا على عدد من قراراتها المتعلقة بغلق بعض المؤسسات التي لا تستجيب لكراس الشروط الذي وضعته. واعتبر بعض المعنيين أن هذه القرارات جائرة ولا تتناسب مع طبيعة المرحلة خصوصا أنها تمس من الوضعية الإجتماعية للإطار الصحفي والإداري العامل بهذه المؤسسات. وكانت رئيسة نقابة مديري المؤسسات الإعلامية آمال المزابي قد شككت خلال تصريحات إعلامية سابقة في دستورية هذه الهيئة التي نعتتها ب”المؤقتة” كما ساندها في هذا التشكيك عدد هام من مديري المؤسسات الإعلامية من بينهم نذكر نبيل القروي عن قناة نسمة. هذا وقد طعن عدد من الإعلاميين المتضررين من قرارات الهايكا في شفافية أعضائها إثر تسجيل مخالفات ضدهم وتغريم مؤسساتهم متهمين بعضهم بالولاء لجهات سياسية بهدف الإضرار ببعض المؤسسات الإعلامية خدمة لأجندات سياسية. وقد واجهت الهايكا هذه الإنتقادات بالمضي قدما في تنفيذ قراراتها والتي تم على إثرها مؤخرا إغلاق عدد من القنوات التلفزية والإذاعية. ودون تحديد إن كانت الصبغة الوقتية للهايكا تنزع عنها صفة الدستورية أم لا فإن التركيبة الحالية للهايكا ستواصل أشغالها إلى حين انتخاب مجلس نواب الشعب لهيئة جديدة و”دائمة”. هذا ولم ينص الدستور الجديد عن تاريخ محدد لهذا الإجراء ولكن من المنتظر أن يقع النظر في هذه المسألة قريبا من طرف البرلمان الجديد. من جهة أخرى عرفت الهياكا طيلة فترة عملها مساندة واسعة من طرف عدد هام من الإعلاميين والصحفيين و الجمعيات المعنية بقطاع الإعلام الذين آمنوا بأهمية دورها في تنظيم القطاع. كما كان لعدد من قراراتها أثرا إيجابيا في وضع حد للفوضى التي يعرفها قطاع الإعلام السمعي البصري، في انتظار أن يتدعم هذا العمل بمنظومة قانونية ناجعة تقطع مع التجاوزات المفتعلة خصوصا منها ذات الطابع السياسي.

نظرا لاستحالة تشكيل المحكمة الدستورية في وقت قياسي تأجل هذا الإجراء إلى حين تشكيل البرلمان الجديد وتم عضوا عن ذلك تكوين هيئة مؤقتة لمراقبة دستورية القوانين قام المجلس التأسيسي بالمصادقة عليها في شهر أفريل الفارط. وتتكون هذه الهيئة المصغرة من ستة أعضاء، وهم الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، والرئيس الأول للمحكمة الإدارية، والرئيس الأول لدائرة المحاسبات (المحكمة المالية)، وثلاثة أعضاء من أصحاب الاختصاص القانوني قام الرؤساء الثلاث السابقين بتعيينهم. وقد واجهت هذه الهيئة المصغرة إشكالات دستورية هامة تمثلت في قيامها بالنظر في تشكيات قدمت للطعن في دستورية بعض بنود مشاريع قوانين نوقشت بالمجلس التأسيسي. وكان الدكتور إبراهيم البرتاجي أستاذ القانون العام قد علق على آداء هذه الهيئة في مقال له بإحدى الصحف اليومية بالقول: “من الواضح أنّ الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، بعد تعثّرها عند نظرها في مشروع القانون الانتخابي ومحاولتها تدارك الأمر عند نظرها في مشروع قانون الطّاقات المتجدّدة، وجدت طريقها للتّقدّم بثبات على درب بناء دولة القانون من خلال قبولها لعدد من الطعون في قانون المالية لسنة 2015. قد تبيّن لنا الأيّام في قادمها أنّ هذه المؤسّسة الوقتية لا تقلّ كفاءة عن المؤسّسات الدّائمة إن لم تكن أحسن منها.”

من جهتها شرعت هيئة الحقيقة والكرامة في القيام بمهامها يوم 17 جوان الفارط وعلى امتداد أربعة سنوات قابلة للتجديد لمدة سنة واحدة. ورغم أن هذه الهيئة غير مضمنة بالدستور كهيكل دستوري نظرا لإنشائها وفق القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها، فإن البعض يعتبرها هيئة دستورية اعتمادا على الفقرة 9 من الفصل 148 من الدستور والتي تنص على الآتي:

تلتزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها، ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعية القوانين أو بوجود عفو سابق أو بحجية اتصال القضاء أو بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزمن.

من جهة أخرى تزامن تشكيل هيئة الحقيقة والكرامة مع موجة رفض لتعيين عدد من أعضائها ووجه الرفض أساسا لرئيسة الهيئة سهام بن سدرين. وقد شكك بعض الإعلاميين وعدد من أعضاء المجلس التأسيسي في أهلية بن سدرين لتولي هذا المنصب بسبب المشاكل القانونية والمالية التي تعلقت بتسييرها لراديو كلمة وقيامها بتسريح عدد كبير من الصحفيين. كما واجهت بن سدرين مشاكل إجرائية خلال محاولتها نقل أرشيف رئاسة الجمهورية إلى مقر هيئة الحقيقة والكرامة وما صاحبه من اتهام لها بمخالفة القانون وبمحاولة التغطية على أخطاء الرئيس السابق المنصف المرزوقي وغيرها من الإتهامات التي انتهت بمنعها من نقل الأرشيف.

الهيئات القضائية وتحدي الآجال الدستورية

يتضمن باب السلطة القضائية في الدستور التنصيص على إحداث هيئتين دستوريتين قضائيتين هما المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء. وينص الدستور على أن يتكوّن المجلس الأعلى للقضاء من أربعة هياكل هي مجلس القضاء العدلي، ومجلس القضاء الإداري، ومجلس القضاء المالي، والجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة. ويتركب كل هيكل من هذه الهياكل في ثلثيه من قضاة أغلبهم منتخبون وبقيتهم معينون بالصفة، وفي الثلث المتبقي من غير القضاة من المستقلين من ذوي الاختصاص، على أن تكون أغلبية أعضاء هذه الهياكل من المنتخبين. ويباشر الأعضاء المنتخبون مهامهم لفترة واحدة مدتها ست سنوات. وينتخب المجلس الأعلى للقضاء رئيسا له من بين أعضائه من القضاة الأعلى رتبة. يضمن المجلس الأعلى للقضاء حسن سير القضاء واحترام استقلاله. وتقترح الجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة الإصلاحات، وتبدي الرأي في مقترحات ومشاريع القوانين المتعلقة بالقضاء التي تعرض عليها وجوبا، ويبتّ كل من المجالس الثلاثة في المسار المهني للقضاة وفي التأديب.

أما المحكمة الدستورية فتتركب وجوبا من اثني عشر عضوا من ذوي الكفاءة، ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون الذين لا تقل خبرتهم عن عشرين سنة. ويعيّن كل من رئيس الجمهورية، ومجلس نواب الشعب، والمجلس الأعلى للقضاء، أربعة أعضاء، على أن يكون ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون. ويكون التعيين لفترة واحدة مدتها تسع سنوات. وتعمل المحكمة الدستورية على مراقبة دستورية مشاريع القوانين ومشاريع القوانين الدستورية والمعاهدات التي يعرضها عليها رئيس الجمهورية والقوانين التي تحيلها عليها المحاكم تبعا للدفع بعدم دستوريتها والنظام الداخلي لمجلس نواب الشعب.

ونظرا لأهمية هاتين الهيئتين وسعيا للتسريع في تشكيلهما لما تقتضيه المرحلة من رقابة قضائية ودستورية فقد تم التنصيص في البند الخامس من الأحكام الإنتقالية بالدستور الجديد على أن يتم في أجل أقصاه ستة أشهر من تاريخ الانتخابات التشريعية إرساء المجلس الأعلى للقضاء، وفي أجل أقصاه سنة من هذه الانتخابات إرساء المحكمة الدستورية. وعليه يترتب على مجلس نواب الشعب تشكيل هيئة المجلس الأعلى للقضاء قبل موفى شهر أفريل القادم كما عليه إنشاء المحكمة الدستورية قبل نهاية شهر أكتوبر 2015 ويعتبر تجاوز هذه التواريخ خرقا للدستور.

هيئة الإنتخابات تستعد لتنظيم الإنتخابات البلدية

بعد نجاحها في تنظيم الإنتخابات التشريعية والرئاسية رغم بعض الإخلالات المسجلة تستعد الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات لإعداد حدث انتخابي هام هو الإنتخابات البلدية. وهيئة الانتخابات هي هيئة تدخل ضمن باب الهيئات الدستورية في الدستور الجديد وتتولى حسب الفصل 129 منه إدارة الانتخابات والاستفتاءات وتنظيمها، والإشراف عليها في جميع مراحلها، وتضمن سلامة المسار الانتخابي ونزاهته وشفافيّته، وتصرّح بالنتائج. وكان المجلس التأسيسي قد انتخب خلال شهر جانفي 2014 أعضاء هيئة الإنتخابات التي يترأسها شفيق صرصار وسط جدل حول اعتماد المحاصصة الحزبية في هذه الانتخابات.

وحول التحديات القادمة لهذه الهيئة قال رئيسها شفيق صرصار خلال ندوة صحفية أن “الإنتخابات البلدية تختلف عن الإنتخابات الرئاسية والتشريعية وعلى الهيئة الاستعداد بشكل جيد لوجستيا وتشريعيا لإنجاح هذه الإنتخابات.” وفي حين يتساءل تونسيون عن إمكانية إجراء هذه الإنتخابات قبل موفى سنة 2015، أكد عضو هيئة الإنتخابات نبيل بفون خلال الندوة الوطنية حول أسس صياغة قانون الإنتخابات البلدية والجهوية التي انعقدت مؤخرا أن “الهيئة ستنكب خلال الثلاثة أشهر الأولى من سنة 2015 على إعداد التقرير المالي والأدبي للانتخابات التشريعية والرئاسية، إضافة إلى أن إعداد التقسيم الإداري وقانون الإنتخابات البلدية والجهوية يتطلب وقتا وبالتالي فإن إجراء هذه الإنتخابات لن يكون في وقت قريب.”

ثلاث هيئات دستورية على رف الإنتظار

تعامل المجلس التأسيسي في التنصيص على تواريخ إنشاء الهيئات الدستورية اعتمادا على أهميتها بالنظر إلى الظرف السياسي والإقتصادي الذي تمر به البلاد. وعلي لم يحدد الدستور تواريخ تكوين ثلاث هيئات دستورية رأى نواب المجلس التأسيسي بأنها ذات طابع غير استعجالي. وفيما يلي مهام هذه الهيئات وتركيبتها حسب ما ينص عليه الدستور في الفصول 128، 129 و130:

هيئة حقوق الإنسان

تراقب هيئة حقوق الإنسان احترام الحريات وحقوق الإنسان، وتعمل على تعزيزها، وتقترح ما تراه لتطوير منظومة حقوق الإنسان، وتستشار وجوبا في مشاريع القوانين المتصلة بمجال اختصاصها. تحقق الهيئة في حالات انتهاك حقوق الإنسان لتسويتها أو إحالتها على الجهات المعنية. تتكون الهيئة من أعضاء مستقلين محايدين من ذوي الكفاءة والنزاهة، يباشرون مهامهم لفترة واحدة، مدتها ستّ سنوات.

هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة

تستشار هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة وجوبا في مشاريع القوانين المتعلقة بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وفي مخططات التنمية. وللهيئة أن تبدي رأيها في المسائل المتصلة بمجال اختصاصها. تتكون الهيئة من أعضاء من ذوي الكفاءة والنزاهة يباشرون مهامهم لفترة واحدة مدتها ستّ سنوات.

هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد

تسهم هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد في سياسات الحوكمة الرشيدة ومنع الفساد ومكافحته ومتابعة تنفيذها ونشر ثقافتها، وتعزّز مبادئ الشفافية والنزاهة والمساءلة.تتولى الهيئة رصد حالات الفساد في القطاعين العام والخاص، والتقصّي فيها، والتحقق منها، وإحالتها على الجهات المعنية.تستشار الهيئة وجوبا في مشاريع القوانين المتصلة بمجال اختصاصها. وللهيئة أن تبدي رأيها في النصوص الترتيبية العامة المتصلة بمجال اختصاصها.تتكون الهيئة من أعضاء مستقلين محايدين من ذوي الكفاءة والنزاهة، يباشرون مهامهم لفترة واحدة، مدّتها ستّ سنوات، ويجدّد ثلث أعضائها كل سنتين.

رغم أهمية دور الهيئات الدستورية في تركيز أسس الديمقراطية بالعمل جنبا إلى جنبا مع السلطات الحاكمة في ضمان إرساء مناخ ديمقراطي ودستوري مثالي ي البلاد إلا أن طريقة انتخاب أعضاء هذه الهيئات يبقى نقطة ضعف من المحتمل أن تساهم في الحد من أدائها. فتعيين تركيبة هذه الهيئات من طرف مجلس النواب الذي يسيطر على الأغلبية فيه ائتلاف حزبي مصغر أو من طرف الرؤساء الثلاث الذين يتبعون نفس هذا الإئتلاف سيخضعها بنسبة كبيرة إلى المحاصصة الحزبية التي لن تخدم استقلالية هذه الهيئات.