بقلم غسّان بن خليفة،
«أكثر من نقابة كلاسيكيّة وشيء آخر غير حزب سياسي»، هو التعريف المكثّف لـ”الاتّحاد”، الذي قدّمته الباحثة في علم الاجتماع هالة اليوسفي في تعريفها بكتابها الجديد: «اتّحاد الشغل، قصّة شغَف تونسيّة» (تحقيق حول النقابيين في الثورة من 2011 الى 2014)، بمناسبة ندوة خُصّصت لمناقشة الكتاب، نظّمها قسم الدراسات والتوثيق بالاتّحاد العام التونسي للشغل، يوم الثلاثاء الماضي بمقرّ المنظّمة ببطحاء محمّد علي الحامّي بالعاصمة. وقد حضر الندوة ثلّة من النقابيين والمثقّفين، كان من بينهم الفيلسوف يوسف الصدّيق، والمؤرّخ هشام عبد الصمد، الذي أدار النقاش، والصحفي الهاشمي الطرودي، والمؤرّخ علي المحجوبي وغيرهم.
وتطرّقت الباحثة الشابّة المختصّة في علم اجتماع المؤسّسات بجامعة باريس دوفين، إلى التعرّجات التي عرفها أداء الاتّحاد منذ انطلاق انتفاضة/ثورة 17 ديسمبر، مرورًا بمرحلة ما بعد 14 جانفي، ثمّ محطّة ما بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 وبداية المواجهة مع حكومة الترويكا، ووصولاً إلى الحوار الوطني سنتيْ 2013 و2014. وعملت على تفسير تغيّر هذا الأداء عبر تحليل التنوّع المكوّن لنسيج المنظمة، وتفكيك خارطة التحالفات والولاءات والتناقضات التي تشُقها. واتبّعت اليوسفي في عملها تمشّيًا كلاسيكيًا في علم اجتماع المؤسّسات: “مقاربة النقابيين كمنظومة فاعلين مرتبطين ببعض، والبحث في الإكراهات التي يواجهونها بحكم المحيط التنظيمي والسياسي، وتحليل الاستراتيجيات التي ينتهجونها”. وفي هذا السياق، اعتمدت الباحثة “مقاربة اثنوغرافيّة”، ارتكزت بشكل أساسي على روايات مناضلين نقابيين، من مستويات قياديّة مختلفة، قابَلَتهم بالعاصمة وبالجهات الداخليّة. وذلك إلى جانب أسلوب الملاحظة المباشرة ، وتحليل المواقف والإعلانات الرسميّة الصادرة عن المنظّمة.
وتوقّفت هالة اليوسفي في كتابها، وقد أهدته إلى روح والدتها النقابيّة نعيمة اليوسفي التي رحلت عن عالمنا قبل أسابيع قليلة، عند لحظات فارقة في مسيرة المنظّمة منذ اندلاع انتفاضة/ثورة 17 ديسمبر. من أهمّها: كيفيّة تغيّر ميزان القوى داخلها أثناء فترة 17 دسيمبر – 14 جانفي والدور الذي لعبه في ذلك النقابيون القاعديين بالجهات الداخليّة وفي القطاعات الأكثر نضاليّة؛ أداء المنظّمة أثناء الفترة الانتقاليّة ومعالجة الاحتجاجات داخل المنظّمة ومن خارجها على قيادتها السابقة (عبد السلام جراد تحديدًا)؛ كواليس مؤتمر طبرقة نهاية 2011 ونتائجه التي رسمت «الأجندا السياسية والاجتماعية للاتحاد بالنسبة للفترة الانتقاليّة”؛ المواجهة مع حركة النهضة وإعادة تحديد ملامح هويّة الاتّحاد كـ”قوّة توازن» تزاوج بين الضغط الاجتماعي والتدخّل في تفاصيل الرُزنامة السياسيّة، كما تبيَّن بوضوح أثناء الحوار الوطني. وحلّلت من خلال هذه المحطّات، مختلف التجاذبات والآليات التي تحكم عمليّة صنع القرار داخل «الماكينة»، كما يسمّيها مناضلو الاتّحاد.
وتجنّبت الباحثة تقديم تقييمات لمواقف الاتّحاد وأدائه، مفضّلة تبيين العلاقات المركّبة، والملتبسة أحيانًا، للاتّحاد بغيره من القوى الاجتماعيّة بالبلاد. سواء تلكَ التي تغيّر دورها في المشهد، مثل اتّحاد الأعراف، أو الجديدة، كاتّحاد المُعطّلين من أصحاب الشهائد. وخلُصت في خاتمة الكتاب إلى طرح عدد من الاستنتاجات والتساؤلات والتوصيات، لعلّ من أهمّها: أنّه يمكن باستمرار تعريف هُويّة اتّحاد الشغل بأنّها «جبهة نقابية سياسيّة اجتماعيّة» معنيّة أوّلاً بتوفير الشروط السياسيّة للحفاظ على تأثيرها والدفاع عن مصالح منظوريها، وهم بالأساس من مختلف شرائح الطبقة المتوسّطة المُنظّمة. وأنّ الاتّحاد طالما مثّل ساحة فعل سياسي، وصراع، «يهدف إلى مفصلة المطالب الاجتماعية الاقتصاديّة مع الحريّات السياسيّة الفرديّة والجماعيّة».
كما أكّدت اليوسفي على الصفات المميّزة بانتظام للاتّحاد، ومنها نجاحه في خلق التوافق داخله بين المدافعين عن قطيعة جذريّة مع النظام السابق ومناصري التوجّه الإصلاحي. وكذلك قدرته على الضغط على السلطة من أجل اقتلاع بعض المكاسب الاجتماعيّة، مع تفضيله التواصل عبر القنوات المؤسّساتيّة، في نفس الوقت الذي يتجنبُّ فيه المواجهة المفتوحة معها. ثمّ تساءلت في نهاية الكتاب، عن مدى إمكانية استمرار أسلوب «التعديل عبر التوافق» في ضمان وحدة المنظّمة، وعمّا تنوي الأخيرة تقديمه في المستوى التنظيمي لمعالجة الحدود البيّنة لـ«بنيته الهرميّة». وذلك كشروط ضروريّة لينجح الاتّحاد في الحفاظ على دوره التاريخي والوطني وعلى رسالته الأصليّة المتمثّلة في وضع مطلب العدالة الاجتماعيّة، المستندة للسيادة الوطنيّة ، في قلب مشروع «الانعتاق السياسي» الذي طالما دافع عنه.
ولعلّ أفضل تلخيص لهواجس وتوصيات هالة اليوسفي تجلّي في السؤال الذي ختمت به مداخلتها :
كيف سيحافظ الاتّحاد على نفسه من خطر التلاشي، وعلى مكاسب البلاد الاجتماعيّة المُهَدَّدة من الموجة الليبراليّة الجديدة التي تفرضها جهات التمويل؟
المزيد من التفاصيل، في التقرير المصوّر والمقابلة المصاحبيْن للمقال.
iThere are no comments
Add yours