لقد نجح النظام في عزل الحركة الإسلامية، وألب عليها المعارضة، أو قل أذناب المعارضة المتمعشة التي زينت للنظام دك حصون هذه الحركة، وساعدته ولمدة 15 سنة أملا منها بأن يخلو لها المقام، ولكنها هي الأخرى لم تسلم من جبروته، ودارت على الباغي الدوائر، وانقسمت المعارضة إلى قسمين: قسم يمجد ويسبح باسم النظام، وقبل بالعظم الذي رماه إليه النظام.. وقسم فيه بقية من حياء لم يعجبه توزيع الكعكة، فخرج عن النظام وتوقف عن سب الإسلاميين وتجريمهم، ومع الأيام وزوال الغشاوة عن عيونهم ـ نحكم على الظاهر والله يتولى السرائر ـ أحسوا بعمق المعاناة التي تكبدها جيل من أكرم وأنبل شباب تونس.. وعلى مطلب إطلاق المساجين، جاء إضراب الثمانية الذي يعكس شعورا وطنيا، عاما بأن الخرق قد ترامى على الراتق، ولا بد له من وقفة جماعية.. و نسيان المصالح الضيقة..

فبورك في هذا التحرك، وبورك في رجاله، وبورك في هذا التحول الذي فاجأ الجميع، فأن تلتقي مجموعة تمثل مختلف الطيف السياسي، فهذا حدث نوعي في تاريخ تونس.. وأن يدافع حمة الهمامي المعروف بكرهه للإسلاميين عن المساجين، فهذا شيء يحير ونحن نعرفه.. فسبحان مغير الأحوال.. أم إنها السياسة التي لا تعترف بالثوابت !!
يجتمع ثمانية من مختلف الحساسيات، هذا شيء ممتاز نباركه، ونشد من أزره ونريده حدثا متواصلا لكي يؤتي أكله.. حدث مؤسس يحمل رؤية ومشروعا، وليس ردة فعل مربوطة بحدث تشهده البلاد..
ينقطع الإضراب وتحل محله أشكال أخرى من النضال.. والدوام ينقب الرخام، طالما ظلت المعارضة متماسكة بأهدافها النبيلة ومحافظة على وحدتها.. ويكفي هذه المجموعة شرفا أنها حركت ماء آسنا وراكدا بل ماء مجخيا لم يتحرك منذ سنوات.. وخلخلت جدران الصمت المضروب على التونسيين، وحتى الإسلاميون ورغم كثرتهم بالمنافي، لم يتحركوا من قبل، مثلما تحركوا هذه الأيام، وكأننا لا نتحرك إلا إذا دفعنا الآخرون..

إذن أن تغيب المصلحة الحزبية الضيقة، ويغيب العداء الإيديولوجي.. وتحضر الحكمة والمبدئية، ومصلحة البلاد العليا، فهذا عمل جيد.. وأن يلتقي أعداء الأمس على كلمة واحدة.. وعلى قاسم مشترك.. من أجل وطن حر، ومن أجل خضراء حرة، ومن أجل مواطن كريم وسيد في بلاده، فكل هذا جيد…

نُـثـمـّن هذا الحدث، ونشد من أزره، ونساهم فيه، و نحكم على الظاهر والله يتولى السرائر… فاليسار يوزع الأدوار.. والإسلاميون عاطفيون.. والعاقل من يسامح ولكن علينا ألا ننسى.. فمن هو الذي يعذب إخوتنا في السجون ؟ ومن هو الذي يج! فف الينابيع ؟ ومن هم مستشارو الرئيس بن علي ؟
أليس أغلبهم من اليسار البراغماتي..بالأمس كان الشرفي وزيرا وها هو اليوم معارضا.. وعجبت ذات يوم حين جاء الشرفي إلى باريس، وتسابق بعض الرموز من النهضة لمقاسمته المنصة..

علينا أن نكون متيقظين لكل الطوارئ، والمفاجآت، والألاعيب التي تدور خلف الستار، فالحكيم لا يلدغ من الجحر مرتين.. فقد يعود النظام مغازلا لبعض هذه الأطراف.. و قد تلتقي المصالح، فيرتد اليوم إلى صف النظام، من كان بالأمس يشتمه ويسعى لتشويهه..
إذن قد يمد النظام من جديد إلى بعض هؤلاء عظما من جديد، فيعودون لهش أذنابهم، ويعودون للدفاع عنه، وتعود ريمة إلى عادتها القديمة.. فتونس فيها الكثير من يمشي على الحبلين.. والسياسة عفنة تربطها المصالح…

وأخيرا فإن إضراب الجوع وما رافقه من مساندة، ومن تحركات، يقول إنه بإمكان التونسيين عامة أن يفرحوا، لأنه مازال في تونس من رموزها، من يقدر المصلحة الجماعية والمصلحة الوطنية..

ولكن هناك سؤال يلح علي: ما الذي ستجنيه النهضة من هذه التحالفات، مع اليسار و مع غيره من المعارضة.. أما كان الأجدر بها أن تذهب مباشرة إلى رأس النظام.. وتعرف ماذا يريد ؟ و ماذا يجب على النهضة أن تفعل من أجل توفير الأرضية المناسبة للمصالحة الوطنية ؟ لأن المشكلة الحقيقية في الأخير، هي بين النظام والإسلاميين، ولأن بقية فسيفساء المعارضة التونسية، لا تشكل ثقلا في الشارع العام، وبالتالي فهي لا تشكل هاجس خوف بالنسبة للنظام مثلما يشكله الإسلاميون ؟؟؟