ماي 91 تونس تقاوم ونظامها يرد بالرصاص….
ماي 2006 تونس تعارض ونظامها يرد بلكمات…..
اليوم السبت 28 ماي 2006 :
جرس الهاتف يدق والصوت لصديق يساري يهاتفني من تونس العاصمة، ينقل على المباشر بعض ما يشاهد من “غزوة سبت الرابطة” ،ومن صفاقة ووحشية عصابات الأمن السياسي وجيوش السابع من نوفمبر التي تحاصر الشوارع المؤدية إلى مقر الرابطة.. وحالة الطوارئ.. وقد ختم نقله المباشر لما شاهد باستغرابه ودهشته من حدة قمع السلطة.
أجبت صديقي ببرود محايد: أحمدوا الله فالنظام اليوم يداعبكم ، ويضربكم بقفاز من حرير. أستغرب الصديق ردي ولم يفهم قصدي انقطعت المكالمة، وعبثا حاولت الاتصال به ….بعد المكالمة فتحت الحاسوب وزرت بعض المواقع الإعلامية وفهمت لحظتها إنني لم أحضي بسبق صحفي، فالأنباء تتوارد على المواقع بتفاصيل مملة، من موقع إلى آخر قرأت الأخبار العاجلة التي تتابع لحظة بلحظة كل ما يدور في الحي الكبير الممتد من بنزرت شمالا إلى رماده جنوبا. وتهاطلت البيانات فضحا لأصحاب الفضائح، وتشنيعا وتنديدا بنظام القمع العاري، و من القارات الخمسة …فعاليات، و جمعيات، ومنضمات، وأحزاب وطنية، وأخرى صديقة ،وثالثة صديقة الصديقة والكل يشيد بأبطال الحرية، ويشنع بعصابة الاستبداد…………. والجليلة أحلام بلحاج لم تجد ولا رفيقاتها في”جمعية النساء الديمقراطيات ” مابه تعبر عن هول ماترى ….
أغلقت الحاسوب ،وعدت إلى وريقات كنت قد حبرتها منذ سنتين في شكل “مذكرات ” تحكي أهم أيامي التي أمضيتها في صفوف الحركة الإسلامية…. فيها ما كتبت بشكل تحليلي بارد ،ومنها ما حبرت بصيغة روائية هاوية، وقد أوحت لي مكالمة الصديق نشر صفحة من تلك المذكرات على صلة بما أردت تبليغه للصديق الكريم:
ماي 1991
كان اليوم ربيع ، وكانت الساعة خريف، والموعد بمحطة ” قرطاج درمش” مع أحد الأخوة “بقيادة الجامعة ” ….الحملة على أشدها على أبناء الحركة……المداهمات الليلية والاختطاف من الشوارع، من مقرات العمل ،وحتى من مراسم دفن الأحبة ….كانت الرحى تدور وتطحن ودقيقها من جسد ذنبه أنه توضأ ، وجريمته حلم بسيط بوطن حر، كانت الأنباء تتسارع ولا تأتي بغير أخبار المعتقلين والمنازل المكشوفة …وقائمة شهداء التعذيب تكبر ..وفي كل مرة تدمى القلوب والعيون لا تدمع …. كنا نتألم ولا نبكي….. كنا نتابع، وكنا نلتقي، ونخطط وننفذ ونمضي الى قدرنا ونتهجد الليالي ونتواصى بالصبر ونتعاهد على الثبات وأموال الأخوة على ذمة العمل ومنازلهم على ذمة التنظيم وسواري الحرائر هدايا اليوم الجميل…… وكان الموعد وجاء الاخ العزيز أمطرني بما عنده من انباء كان جلها من محكيات ليل الوطن الحزين، ثم دخلنا في اللب….. أعلمني أن التعليمات قد أعطيت رسميا لاستعمال الرصاص إذا خرجنا إلى الشارع مرة أخرى….. فهل نؤجل التحرك أم نلغيه ؟؟ تشاورنا، وكان العزم منا معقود على المضي قدما مهما كلفنا الأمر، مادامت الخطة تسع الخطوة. أدليت بدلوي ووعد بنقل ما سمع” لمن يهمه الأمر” وتواعدنا على موعد في اليوم التالي، وكان في شارع محمد الخامس.
وصلت قبله وترجلت على عشب الشارع الجميل… وصلت إلى أول الشارع ،ووقفت للحظات أمام الساعة التي عوضت صنما.
يممت الوجه نحوها كسائح يتأمل مأثرة ،وبصري أخترق جدرانا باهتة رمادية أو سوداء تقع على بعد أمتار من الساحة ….جدران “الوزارة “ورأيت ما عرفته هناك، مكاتب التحقيق وعنابر الطابق الأسفل والسفلة غلمان السلطان ،شوارب غليظة، و ذكور من دون رجولة، وسياطهم، وعصيهم، وقواريرهم، وأسلاكهم، وحبالهم، والدم ينزف، ورائحة بول ، وقيح ، وصراخ، وعويل، وتكبير، وصمود الحر.. الرجل الطاهر حبيبي،، يلهج بذكر ربه، ويشبع جلاده رفضا ، ويصمد وينزف ولحمه أزرق،، والساقط يقهقه و أنيابه السوداء،، يرتشف قهوة وينفث أعقاب سيجارة ويطفئها، على جرحه النازف،يطفئها و يبللّها، بالقيح يبللّها المكلوب ويأمر أزرق الوجه أن يفتح فاه….أن يأكل ربع السيجارة المغموس في جرح تقيح…… يصرخ، يضرب بقبضته، بعصاه وبسوطه يضرب وبأسلاكه يصقع….. أفتح فاك “أبن ال…..” وأزرق الوجه يبتسم.. والوغد يصرخ، وأزرق الوجه مبتسم وفي حضن حمزة كان قد ارتمى ،ويودع ويستودعنا الأمانة ويمضي….. وكريه الكره يصرخ، وجسد الشهيد نص الوطن الغريب ……………. ويد الاخ الكريم تربت على كتفي بلطف وتعيدني أليٌ والى الموعد الموعود
جرجرت الخطو على رصيف الشارع الجميل، وقدمت له مخطط المسيرة، نقطة الانطلاق شوارع العبور، ونقطة الانسحاب، واتفقنا على العرض والتفصيل وتواعدنا وتعهدنا و تواصينا وإلى لقاء قريب . في نفس الليلة التقيت بمشرف لجنة الحماية الأخ سعيد وشعره أسود وعيناه من أخضر شجر الصبار وملبسه أنيق، يعرفني ولا أعرفه، وضعنا أخر النقاط على آخر الحروف،،،، كلمة السر، طوق الحماية، واحتمالات الكر والفر وتأمين الانسحاب. عزمنا، وتوكلنا، والخيرة فيما أختاره الله، والكسب بأيدينا، شرا من أنفسنا وخيرا من ربنا….. و”من غبارها يعبق ريح الجنة يا رجل” . ضممته إلى صدري وكان الموعد في الغد الجميل، وجاء الشباب ليفتح الصدر ممرا للرصاص، ولكن بحمد الله وفقنا في اختيار المكان والمسار ،أمٌنا التحرك، وفاجأنا أجهزة النظام، وخرجت المسيرة في أمن وانتهت بأمان على تكبير الأخوة وزغاريد الأخوات،، وكأنها دربة لليوم القاني، يوم 08 ماي 1991. ..حيث كان الموعد بدون تواعد وسال الدم وزغرد الرصاص لزفاف الشهيدين وواجهنا الرشاش بقبضة يد، وحجيرات صغيرة، ومحفظة، وقلم، وكراس…… كان يوما لله كان يوما للوطن…. يا رمله،، يا مداه،،، جميل ذلك اليوم والجرم قبيح،، يا ربنا… يا وحدنا،، قل الزاد، وضعفت الوسيلة ، هذا دمنا وما نملك، ولن نهان ولن نهين ولن نهون….
وهذا المنفي وفيه ليل، و هزيعه جليد… تزورني وجوه الصبح قبل الفجر الهادئ بباريس يزورني الهادئ عبد الرءوف ووجهه نسيم…. يزورني الطيب كمال ووجهه صعب….. يزورني الصامت فيصل [1] ووجهه وسيم……سلام عليكم أحبتي وأنتم في عليين…..
كم يلزمني من الحزن كي أكتب عن نصفكم الذي كتبوه جريمة
كم يلزمني من الورد كي أكتب عن نصفكم الذي كتبناه بطولة
كم يلزمني من الصدق كي أتدثر بكفنك …….. [2]
نورالدين ختروشي
باريس في 30 ماي 2006
[1]
الشهداء عبد الرؤوف العريبي وكمال المطماطي وفيصل بركات ثلاثتهم سلموا الروح تحت التعذيب في مكاتب تحقيق النظام القائم
[2] هذه الصفحة من تلك الصفحات أهديها لصديقي المنجي عله يفهم ما قصدت قبل انقطاع الخط وأهديها إلى الحرة أحلام بلحاج علها تستعيد الحرف وتجد مابه تصف ما عجزت عن وصفه
iThere are no comments
Add yours