نحن العرب، شعوب بلا دول في مواجهة دول بلا شعوب,مما أدي ولا يزال إلى وضعية لا تحسد عليها، لا الدول ولا الشعوب ، من أهم ملامحها ما يلي:

1-تفاقم عجز أنظمة فاقدة الهيبة، فاقدة الشرعية، فاقدة الكفاءة ،عن القيام بأبسط إصلاح أو مدّ حتى ولو جسر من القشّ بينها وبين القوى السياسية الممثلة … بل إمعانها في الفساد والتزييف والاحتماء بالأجنبي ومواصلة تطويقها المجتمع من الجهات الأربع بالقمع ، في الوقت الذي يحاصرها نفس هذه المجتمع بكرهه من الجهات الأربع أيضا … ولا منفذ لأي طرف .

2- تفاقم مفزع للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية ، في ظل غياب أي أفق لحل الأزمة السياسية التي هي أهم عامل في استفحال بقية الأزمات.

3-تبين خواء أحزاب معارضة عاجزة عن فرض أي إصلاح ،ناهيك عن كون أغلبها لا تفكر لحظة في أن تكون بديلا وإنما تحلم أن تكون شريكا.

4- الصدى الهائل للانتصار العظيم الذي أحرزته المقاومة اللبنانية، دون نسيان بسالة وتضحيات المقاومة الفلسطينية، ومن ثمة تصاعد إغراء المقاومة المسلحة لوضع حدّ للاحتقان والانسداد والجمود.

كل هذا يضع شعوبنا وأمتنا أمام تقاطعات طريق مصيرية، مما يفرض إحكام التفكير وتعميق النقاش بيننا ، وتحديدا في هذه المرحلة توضيح مصطلح المقاومة، بما أنه بصدد فرض نفسه كالمفهوم المحوري في الخطاب السياسي العربي مستقبلا.
هل ثمة دلالة أبلغ من سماعنا وريث جملكية سوريا يتغنى به ويمجده!!
نحن مقدمون إذن، كما حدث مع كل المصطلحات الكبرى، على عمليات استيلاء وتفويض وتقويض وتمييع … ومن ثمة هذه المحاولة لتعريف المصطلح و اقتراح كيفية تفعيله.
هذا النص ليس فتوى إنما لحظة من لحظات تفكير جماعي محتدم على صفحات الجرائد وعلى الفضائيات . هو رؤوس أقلام لاجتهاد يستند على تجربة ربع قرن في النضال الفكري والسياسي ضد الاستبداد ،ودعوة منذ سنوات في بلدي تونس للمرور من المعارضة إلى المقاومة ،وعمل متواصل من أجل نقل الفكرة من الشعار إلى البرنامج …قد تكون فائدة الأفكار التالية في بلورة أرضية فكرية مشتركة بين كل المقاومين العرب

1- المقاومة خيارنا الوحيد المتبقي .

لم تعد مقولة ” أنظمة لا تصلح ( بفتح الياء) ولا تصلح” (بضمها )بحاجة إلى مزيد من التدليل. فكل طبائع النظام العربي -دكتاتورا وحاشية – تمنع شيئا مثل الإصلاح والصلح والمصالحة. ومن الأسباب: العجرفة، نسيان مبدأ لو دامت لغيرك لما آلت إليك، الخوف من المحاسبة نتيجة حجم الجرائم المرتكبة، ، الحقد الشخصي على المعارضين الذي يدفع للتعامل معهم بقوة الضغينة ، الجهل نتيجة العيش في عالم سحري يتعهده المتزلفون، البارانويا الطبيعية أو المكتسبة بحكم طول البقاء في السلطة المطلقة، سهولة الهروب إلى الأيام وصعوبة المراجعات المؤلمة، المرض الجسدي والنفسي للدكتاتور …وإحقاقا للحق صعوبة الحكم ، حتى ولو كان النظام سليما والشخص سويا، فما بالك إذا غاب الشرطان.
الأهم من هذا كله أن المستبد يفهم ما لا يفهمه دعاة المصالحة : الإصلاح الكفيل بإنهاء الأزمة يمر حتميا بإنهاء الفساد والتزييف والقمع… وهم دعامة سلطانه. من أقنع يوما خصمه بأن من مصلحته الانتحار؟ مما يجعل انتظار الإصلاح في أحسن الأحوال سذاجة…وفي أسوأها جبن يتغطى برداء الحكمة. هكذا وضعنا ولا نزال أمام الخيار الاستسلام أو المقاومة.أما الاستسلام فغير وارد لأنه يعني بالنسبة للمجتمع والدولة الانحطاط إلى مستوى من العفن غير مسبوق. لذلك لا حلّ غير المقاومة.

2-المقاومة قطع مع المعارضة

إن المكان الطبيعي للمعارضات في ظل دكتاتورية دون مساحيق، هو المقابر أو السجون. أما في ظل دكتاتورية بمساحيق كما هو الحال في ملكيات وجملكيات العرب، فهامش ضيّق للغاية من الساحة السياسية ومحاصر بجحافل بوليس مجنّد كل لحظة لعرقلتها وأضعافها وتصفيتها إذا تجاوزت خطا أحمر.
ما لا تفهمه المعارضات العربية أن المعارضة (بما هي تكوين أحزاب قانونية وتشغيلها بحرية، لمراقبة أداء السلطة والضغط عليها لتحسينه، وتقديم البديل إلى الشعب في إطار انتخابات حرة سعيا للتداول على السلطة) لا تكون إلا في ظل النظام الديمقراطي… الذي هو الشرط الأولي لوجودها وعملها وليس المحصلة النهائية لنضالها كما تتوهم.
معنى هذا أن الصبر عليها في مصر أو تونس وغيرها، هو فقط لتساهم في الديكور الديمقراطي، خاصة عندما تقبل بالمشاركة في الانتخابات وهي أحسن من يعلم أنها مزورة.
المعارضة إذن طريق مسدود، أيا كانت حدة لهجتها واستقلاليتها ونزاهة أصحابها،وأحزابها بالضرورة حوانيت مفلسة تستثمر في حليب الثور وهي تصرّ على التعامل مع الاستبداد كأمر واقع لا مردّ له هو للمداهنة والترويض والتحسين.خلافا لها على المقاومة أن تتعامل مع الاستبداد، كاحتلال داخلي، كما تعامل آباؤنا مع الاستعمار كاحتلال خارجي … أي بالرفض المطلق لوجوده وجعل القضاء عليه هدف الأهداف.

3-المقاومة ليست الإرهاب أو العنف

المقاومة مسلحة بالضرورة أين نواجه جيشا أجنبيا غازيا، لكن مقاومة أنظمة الاحتلال الداخلي يجب أن تكون سلمية أو هي دواء أمر من الداء.
من بين الأسباب الكثيرة للخيار السلمي: أن العنف يمدّد في عمر الاستبداد بإعطائه ذريعة محاربة الإرهاب، أنه يكفل له مزيدا من دعم الأوصياء الأجانب، أنه ينفّر جزءا من المجتمع ويضعه في جانب التسلط ، أنه يستهدف أبرياء، أنه يزيد من معاناة المجتمع ، أن من يتحمّل التبعات الاقتصادية له هم أفقر الناس …أن فعاليته معدومة كما دلّ على ذلك فشل التمرد المسلح في الجزائر.
ثمة أيضا سبب تكتيكي هام . فآلة القمع للمحتل الخارجي ترحل معه لأنها منه وإليه . لكن آلة القمع للمحتل الداخلي تبقى معنا إذ هي منا وإلينا. فأفرادها ضحايا مثلنا وولائهم للعصابات الحاكمة اضطراري ومرحلي وبالغ الهشاشة. مما يعني أن الأجهزة الرهائن( الجيش والأمن والقضاء) حليف ممكن للمقاومة وفي كل الأحوال أداة النظام الجديد. لذلك يشكل استهدافها بالعنف خطأ فادحا.

4- المقاومة تواصل المشروع التحرري وتحقيق حلم الآباء والأجداد.

هناك إجماع على أن الهدف الأصلي لمعركة التحرر الوطني أي بناء دول مستقلة في خدمة شعوب حرة قد فشل، أو قل توقف، لأن دولة الاستقلال الأول خانته عندما تحولت إلى دولة خواص في خدمة حزب وعائلة وشخص. هذا ما يحمّل المقاومة مسئولية استئناف مشروع لن يتقدم إلا بتجاوز الأسباب التي أجهضته وليس فقط استبدال شخص بآخر وسياسة بأخرى في إطار نفس المنظومة السياسية التي أدت إلى الكارثة .

5- الرسالة الأولى للمقاومة وضع حد للاستبداد

تبيّن بصفة لا تقبل الجدل أن سبب هذا الإجهاض، والقاسم المشترك بين الملكيات والجملكيات الفاسدة ، بين التي تنادي بالوطنية أو بالقومية …أو بالديمقراطية ، هو الآفة والعاهة : الاستبداد.
مما يعني أنه لا قيمة ولا دور للمقاومة خارج هدف تفكيك الاستبداد سواء في مستوى بنيته الفوقية ( البوليس السياسي ، التعذيب، المحتشدات، قمع الحريات الفرية والجماعية، الانتخابات المزيفة) وأيضا في مستوى بنيته التحية (برامج التعليم والتربية، العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة والمدرسة والمصنع )

6-الرسالة الثانية للمقاومة منع تجدد الاستبداد من داخل النظام المتعفن

إن إحدى الوسائل الأكثر احتمالا لمواجهة النظام العربي الحالي لمصيره المحتوم ، التخلص من الزعيم الأوحد وعائلاته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالح عديدة ومتشعبة، أصبح بقاء الدكتاتور أهم خطر يهددها.
والسيناريو محبوك وربما جاهز في أكثر من قطر: بدفع من بعض القوى داخل النظام، وبمباركة الأوصياء الأجانب، يزاح الدكتاتور، فيتنفس الناس الصعداء ويتقدم رجل “جديد” من صلب المنظومة القديمة ليعد بنهاية الظلم وبداية عهد جديد الخ . ما هي إلا أشهر إلا والرجل الجديد القديم قد أعاد وضع النظام على السكة لجولة استبدادية جديدة هو قائدها.
والعادة أن يهرع الجزء الانتهازي من المعارضات لمباركة ” التحول” و”استقراء الخير فيه ” و”إعطاء الفرصة” و”العمل على التغيير من الداخل” وكل الخزعبلات الأخرى التي تخفي طمع المشاركة في سلطة طال ترقبها. إن دور المقاومة هو الاستعداد لمثل لهذا السيناريو عبر سيناريو مضاد يمنح القيادة الجديدة – إن لم يكن هذا برنامجها كما حصل في موريتانيا- مهلة بضعة أشهر لإعادة السيادة للشعب عبر تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية حقيقية… والسلطة الانتقالية منظّم لها لا طرف فيها . أما إذا رفضت فدليل على أن الأمر خدعة حرب وأن على النضال أن يتواصل بقوة أكبر حيث لا أخطر من إعطاء المهلة للدكتاتورية الجديدة لكي تثبت مواقعها.

7-الرسالة الثالثة للمقاومة منع تجدد الاستبداد من داخلها

إذا لم تفهم القوى السياسية البديلة – خاصة الإسلامية- أن الفشل المخزي للوطنية والقومية والاشتراكية لم يكن بسبب الأهداف والأيدولوجيا والاستعمار والصهيونية ولا حتى بسبب الأشخاص إنما نتيجة المنظومة الاستبدادية ككل ( فكرا ومنهجا ووسائل ) … وإذا أعادت، بأهداف وتبريرات أخرى، إنتاج نفس المنظومة ، فإنه لن يمضي عقدان ،على أسوأ التقدير، قبل أن تفلس هي الأخرى وأن تبغّض الأمة- إذا كان البديل إسلاميا- في الإسلام السياسي وحتى في الإسلام. مما يعني أن منع تجدد الاستبداد داخل المقاومة في زمن الصراع، وإعادة إنتاجه عند التمكن، قضية مصيرية بالنسبة لها وللمجتمع.

8- المقاومة جبهة وطنية واسعة …..ومؤقتة

إن تعدد مكونات الساحة السياسية أمر طبيعي يعكس تعدد التيارات السياسية التي تشق المجتمع، وهذه التيارات هي التي ستتصارع سلميا عبر الانتخابات الحرة لتمرير رؤاها وبرامجها، لذلك لا يجوز، لا رفض تباينها هذا بحجة وحدة المقاومة، ولا التوقف عند الاختلافات في مرحلة النضال التحرري
و إلا تبعثرت القوى. الحل هو الاعتراف بالتباين من قبل كل الأطراف وتجميده مرحليا حتى تستطيع المقاومة فرض الإطار السياسي العام الذي يعطي لوجود الأحزاب والتيارات الفكرية المكونة لها معناه ويسمح لها بالقيام بوظيفتها.
لا يجب إذن على المقاومة أن تكون نواة للحزب الواحد مثل جبهة التحرير الجزائرية وإنما تجمع مرحلي لإنهاء الاستبداد تنتهي مهمته بوضع أسس النظام السياسي الذي يعيد للشعب سيادته وللمواطن كرامته وللدولة شرعيتها ودورها الطبيعي في خدمة شعب لا خدمة شخص.

9-المقاومة شبكات مواطنين تعدّ للعصيان المدني السلمي

تنظيميا يجب أن تكون المقاومة شبكات وطنية، ومحلية، تنسق بينها وتحركها شخصيات قوية وصلبة أغلقت مؤقتا الحوانيت الحزبية أو جمدت نشاطها فيها، وتعتمد خطابا تعبويا وتحريضيا، وتعوّل أساسا على الاعتصام والتظاهر ورفض دفع الضرائب والإضراب تحضيرا للإضراب العام…كل هذا إلى انهيار النظام الاستبدادي وانتصاب النظام الديمقراطي على أنقاضه.

10- المقاومة صلابة في الأهداف ومرونة في التكتيك

خلافا للدكتاتورية التي لم تترك منفذا لها ولغيرها، على المقاومة أن تحافظ دوما على مخرج للمورطين في النظام ، طالما ساعد هذا في حقن الدماء، كأن تتعهد بعدم محاسبة كل القوى من داخل السلطة التي تلتحق بها أو التي لا تدخل في إزهاق الأرواح لتمديد احتضار أنظمة ماتت في العقول والقلوب ولم يبق سوى مواراة جثمانها غير الطاهر في مزابل التاريخ .
*
السؤال الأزلي: نكون أو لا نكون…والرد الوحيد نكون بالمقاومة وبالاستقلال الثاني … ولا نكون بكل شيء آخر.

www.moncefmarzouki.net