يعتبر السجن أسوء مكان إقامة على الإطلاق حتى وإن كان في نزل بدرجة خمسة نجوم , ناهيك إذا كان في مكان تنعدم فيه أبسط الظروف المادية والمعنوية للحياة الكريمة وتغيب فيه المعاملة الإنسانية للسجين من طرف سجانه , بل لعل المعاملة المهينة والقاسية هي القاعدة في تعامل السجان مع المعتقل خاصة في سجون النظام التونسي الذى تفنن في إستنباط أساليب مبتكرة للنيل من السجين السياسي والسعي إلى كسر إرادته وتحطيم معنوياته والتحقير من قضيته التى يعنونها بقضية صبغة خاصة وليست سياسية , وإعتماد سياسة التشفي والإنتقام منه لأنه فكّر في معارضة النظام القائم ونقده وعبّرعن عدم الرضى عن سياساته وإدارته لشؤون البلاد والعباد

إذا كان الإيقاف أو الإعتقال هو بداية محنة السجين السياسي , فإن السجن هو الوجه الآخر لتلك المحنة , وهو بداية حياة أخرى ليس من اليسير على أكثر الناس التأقلم معها سريعا ذلك أن الحياة السجنية تحشر الإنسان في وسط غير متعود عليه يمثل عالما في حد ذاته غير مألوف وغريب على النزيل الجديد وخاصة من لم يسبق له أن دخل السجن قبل ذلك

بعد أن يقضى المعتقل فترة الإيقاف داخل زنازين وزارة الداخلية التونسية والتى وصلت للبعض قريبا من عام , يخضع فيها لصنوف من التحقيقات القاسية والتعذيب الوحشي والبقاء في زنازين ضيقة ومتعفنة ومكتضة , بعد هذه المرحلة التى تطول وتقصر بحسب الأشخاص يقع نقل الموقوف إلى السجن , وهناك يجد إستقبالا من نوع خاص جدا على أيدى أعوان السجن وفرقة تعرف بـ ” فرقة الطلائع ” وهي فرقة مكلفة بمهمات مختلفة تجاه السجن والسجناء منها حراسة السجن ونقل الموقوفين إلى جلسات المحكمة والقيام بتفتيش دوري لغرف السجن وغيرها من المهمات الموكولة لهذه الفرقة التى يتميز أفرادها بالقسوة والشدة وهو ما يعبر عنه حتى لباسهم الرمادي والأحزمة التى تمنطق البدلة التى يحملونها والأحذية العسكرية التى يلبسونها , فبمجرد رأيتهم توحى لك أشكالهم أنهم من طينة أخرى لا تعرفهم في الشارع التونسي ولعلك تكون محقا حين تنكر أنهم من أبناء جلدتك لو أنهم صمتوا عن الكلام , وحديثهم إليك يعكس ثقافة أخرى غريبة ومنحرفة وصادمة للشعور لمن أخذته الأقدار من بين أحضان عائلته الوديعة ومحيطه الأسري المنضبط إلى هذا الجو المشحون بالأفاظ القذرة والشتائم المقززة وعبارات غاية في الفحش والكفر بالله , ولدى هذه الفرقة جيش إحتياط من الكلاب البوليسية المدربة

على باب السجن تكون محاطا بأعداد غفيرة من هؤلاء الرهط الذين يشعروك بأنك في حضرة شياطين ليس لهم من هم إلا أن يمارسوا عليك الإرهاب والتخويف والإذلال , وإذا عبّرت عن تململ و بأنك غير راض على هذا الوضع المشحون بالإرهاب والتهديد والإذلال , عندها سيكون نصيبك أضعاف ماهو مقرر لك . الأساليب المعتمدة في تنفيذ هذا البروتوكول قد لا يصل الإنسان إلى أن يصفها كلها لأن فيها من الأساليب ما يعف اللسان عن ذكرها لأنها فعلا مشينة ولا تنم إلا على خسة السجان , ومن بين تلك الأساليب أن يتعرى النزيل الجديد بإرادته أو بدونها من كل ثيابه حتى مما يستر عورته أمام الجميع ولا فرق في ذلك بين شاب ومسن , كما يفتش تفتيشا حتى ليفتش في عورته ويصاحب ذلك سب وشتم السجين وأفراد عائلته وسب الجلالة بعبارات مقذعة , والتفوه بالكلام البذيء الذى لا أعرف أنني شخصيا سمعته إلا أثناء التحقيق وفي السجن . هذا الإستقبال لا ينتهي بسرعة كما هو مفترض ولكن يأخذ وقتا يكون القادم الجديد أثناء إنتظاره عرضة للإعتداءات اللفظية والمادية من قبل كل من يمر به من أعوان السجن أو أعوان الطلائع وكأنهم في تبار بينهم من يكون الأكثر قدرة على مزيد إهانته . في أثاء كل ذلك يتلقى السجين الجديد الدروس والتحذيرات والتهديدات حول تصرفاته داخل السجن وضرورة إنضباطه والقبول بما هو موجود دون أن يرفع رأسه بل وجب عليه الخضوع لإرادة السجان وقوانين السجن التى تأسست على قاعدة وحيدة هي الظلم وعدم الإنسانية . هذه الأساليب هي رسالة إلى السجين الجديد يراد منها السيطرة عليه منذ الوهلة الأولى لقدومه إلى السجن

نعود أدراجنا إلى الإيقاف قبل المضي قدما والدخول إلى عالم السجون . طرائق الإيقاف مختلفة ولكن الأغلبية منها تتم بالمداهمات الليلية أوالنهارية ومنها ما يتم بالمطاردات وغير ذلك من الظروف التى قد تكون سلسة , وغالبا ما يستخدم العنف في عملية الإيقاف حتى من غير موجب . قد يبدأ التحقيق مع المعتقل حال المسك به وهناك سيارات خاصة مجهزة تمتلكها الداخلية التونسية وهي عبارة على قمرة تعذيب ينطلق منها سلخ المعتقل بالتعذيب والتحقيق معه إلى أن يصلوا به إلى المقر الأمنى المقصود وهناك يبدأ التحقيق معه رسميا بعد أن وقع إفتتاحه أثناء الطريق , وهناك حالات أخرى قد يبدأ التحقيق معها عند الوصول إلى المركز الأمنى وهنا وجب الإشارة إلى بعض الجهات الأمنية التى لاتحصى في تونس ومنها الشرطة والحرس والمختصة والأبحاث والتفتيش والإرشاد وكل الجهات الأمنية هذه تعتمد التعذيب الوحشي أثناء التحقيق

مسرح العمليات هو مقر الجهاز الأمنى الذى يصل إليه المعتقل , فكل المكاتب هي عبارة على غرف تحقيق وتعذيب , وقد ينقل إلى أماكن أخرى وقتية تمارس عليه فيها أشكال التعذيب والتحقيق , ومن الأساليب الشائعة في التعذيب هي ” الروتى ” أي وضع الضحية عاريا كوضع الدجاجة , حيث يجلس القرفصاء وتمرر عصى في أعلى طية ركبتيه ويمسك ساقيه بكلتا يديه ويقع شدهم بحبل ثم تؤخذ العصى من طرفيها وتوضع على طاولتين متقابلتين فيغدو رأس الضحية في الأسفل ورجلاه إلى الأعلى واثناء هذه الوضعية يقع ضربه بالسياط والعصى وصب الماء عليه وغير ذلك من ممارسات التعذيب , وقد يبقى على هذا الوضع أيام بلياليها , الصعود والنزول من على السلّم ( دروج ) مع حمل كرسي في اليدين وليس بيد واحدة فقط , الجلوس على كرسى تحت أشعة ضوء قوية ولفترات طويلة مع عدم النوم , الركل والرفس دون مراعاة أي مكان حساس في البدن , إدخال عصى في دبره أو إجباره على الجلوس على عنق قارورة بلورية , الضرب على الذكر , الضرب على الظهر بالعصي والسياط بعد إجبار الضحية على التمدد فوق طاولة , وضع المعتقل على الأرض وجلوس عدد من الجلادين حوله وإجباره على إختلاق النكاة لهم كي يتسلّوا , ومحاولات السخرية منه الإستهزاء به وغيرها من ممارسات الضغط والتعذيب النفسي ,الصعقات الكهربائية … إلخ , وغيرها من الأساليب التى لاتنتهى . بالرغم كل هذا التعذيب القاسي والشديد فإن الكثير من محاضر البحث يقع تلفيق الجزء الأكبر منها ولا يجد أغلب المعتقلين إن لم يكن كلهم من خيار سوى التوقيع على تلك المحاضر للتخلص من الظروف القاسية للإيقاف لأن ظروف السجن أهون من الإيقاف وفي كل معاناة

الدخول إلى السجن هو الدخول إلى عالم جديد وغريب في كل تفاصيله على نزيل قادم لتوه من مسلخ بشرى تبدو عليه علامات النحافة الشديدة والشحوب المروع وعدم نظافة الهندام والبدن وكأنه خارج لتوه من عصور عفى عليها الزمن , قادم إلى عالم السجن وهو مرهق بدنيا ونفسيا , متوجس من وسط لا يعرفه , مثقل بالأسئلة لإنقطاعه عن العالم وأخبار الأهل فترة طويلة , عالم آخر في نظامه العمرانى , في نزلائه , في القوانين التى تحكمه والمفردات التى يستعملها قاطنوه … كل شيىء فيه يخبرك بأنك ستخوض تجربة صعة ومريرة , والواقع الجديد لا يعطيك المجال لإكتشافه شيئا فشيئا لأن قوانين الحياة السجنية مختلفة . عزاء المرء على الرغم من أنه في السجن هو أنه تخلص من مرحلة الإيقاف وإلتقى بزملاء ومعارف وزملاء قضية واحدة , يجد بعض العزاء في إستقبال وإهتمام إخوانه به فيمنحونه حرارة لقاء الصحبة أو حتى القربى التى تذكره بأيام خلت إنقطعت بالإعتقال , أو حتى لتأسيس علاقات حميمية جديدة . وليس للمساجين السياسيين غرف خاصة بهم وإنما هم في غرف مشتركة مع مساجين الحق العام وهذا يسبب لهم مشاكل مقصودة من طرف النظام

يوضع السجين الجديد في غرفة مكتضة تنعدم فيها أدنى الظروف الصحية وقد يجد نفسه ينام في ” الممشى ” ( أي في الممر بين الأََسِرّة ), أو ينام ” في الثلاثة ” ( أي النوم مع سجينين آخرين هو ثالثهما على سريرين متلاصقين ) . ومع أن الكثير من سجناء الحق العام من المدخنين وبيوت الخلاء داخل الغرف فإن التهوئة منعدمة تماما والإستحمام غير متوفر إلا مرة في الأسبوع وقد يصل في بعض السجون إلى شهر وأكثر وحتى الفسحة في باحة السجن تكون قصيرة وفي بعض الفترات يفرض على المساجين الإنتظام في صفوف للقيام بالدوران في الباحة ويُعادوا على عجل إلى الغرفة التى لا تعرف التهوية إلا خلال ذلك الوقت القصير خلال 24 ساعة كاملة وهذا ما ينعكس على صحة السجناء ويسبب لهم أمراض كثيرة كالحساسية وضيق التنفس . أما ” الصُبة” ( بضم الصاد وفتح الباء ) وهي وجبة الغذاء الذى تقدم إلى السجين فهي كريهة الرائحة خالية من أي قيمة غذائية و تقدم مرتين في اليوم عند الزوال وفي المساء أما فطور الصباح فلا يوجد أصلا , كما لا يقدم أي نوع من أنواع الغلال . أما الرعاية الصحية فهي شكلية للغاية

الزيارة العائلية للسجين السياسي ليست كتلك التى يتمتع بها سجين الحق العام فهناك تمييز بينهما من طرف إدارة السجن , هذه الزيارة قد لا تستغرق في بعض الأحيان عشر دقائق أو ربع الساعة وتدور في ظروف صعبة حيث يحول بين السجين وزائره بسواتر حديدية (قرياج ) وممر بينهما يرابط فيه بعض أعوان السجن لتسجيل محضر الزيارة كما تتم الزيارة لأكثر من سجين في نفس الوقت مما يحدث تشويشا في المكان , ومتاعب الزيارة ليست للسجين فقط وإنما لأسرته التى تتنقل لمسافات بعيدة وتنتظر أمام السجن وقت طويل لإتمام الزيارة والتى بالرغم من كل تلك المتاعب قد لا تتم في بعض الأحيان ويقع إلغاءها كعقوبة للسجين . أما الزيارة من أجل إيصال الأكل وبعض مستلزمات السجين (القفة ) فهي تتم فى أغلب الفترات في يوم آخر غير يوم الزيارة وهناك قائمة في الأغراض الممنوعة تجدد في كل مرة ويحظر على السجين التمتع بها ومن بين تلك الممنوعات القلم والكراس وحتى إذا سمح بها لفترة وجيزة تصادر في أول تفتيش ( فووي) يقع للسجن

يتعرض السجين السياسي داخل السجن ولأتفه الأسباب إلى مختلف المعاملات المهينة والتعديات من طرف إدارة السجن , و التى تعمد إلى التضييق عليه وتعنيفه وإخضاعه إلى عقوبات العزل في زنزانات ضيقة وكريهة ( سيلونات ) وحرمانه من أبسط الحقوق حتى في التواصل مع مساجين آخرين ومشاركتهم في وجبات الأكل أو الصلاة أو الحديث , وهناك أوامر صارمة تصدر من قبل إدارة السجن تحضر الصلاة في جماعة بل في بعض الأحيان تمنع الصلاة في أوقات في الليل وفي الصباح الباكر , كما تمنع الأكل في جماعة أيضا وتضع على ذلك عناصر من سجناء الحق العام يراقبون السجناء في الإلتزام بتلك الأوامر التى تلقى في أغلب الأحيان عدم الإستجابة

جملة الظروف التى يعيشها السجين السياسي داخل السجون التونسية هي ظروف غير إنسانية تنتفي فيها أدنى الظروف الصحية والكرامة والمعاملة الإنسانيتين , ومن الصعب في هذا الإيجاز الوقوف على كل تفاصيل هذا الموضوع ولكن الآثار الصحية والإجتماعية الخطيرة التى تنجم عن ظروف الإعتقال والسجن تعكس مدى المعاناة التى يخضع لها السجين السياسي بتونس والتى تفقده عافيته وحتى حياته ومنهم ما يزال إلى حد الآن يقبع داخل السجون في مثل تلك الظروف الصعبة لأكثر من عقد ونصف . لقد تعرض إلى هذه الظروف القاسية الآلاف من أبناء شعبنا على أيدى النظام التونسي وما تزال آلة القمع تدور لتلتهم كل يوم ضحايا جددا … فمتى تنتهي دوامة الظلم والإستبداد ؟؟؟

صابـر : سويسـرا