بقلم عماد الدائمي

شكل إطلاق مبادرة “حق العودة للمهجرين التونسيين” منذ بعض الأشهرحرجا شديدا للعقل الأمني للسلطة التونسية وتحديا كبيرا لخطته المرحلية المبنية، كما وضحت في مقال سابق(1)، على شعار “ضمان تجديد شرعية النظام في إنتخابات 2009 دون الحاجة لإحداث أي إنفتاح سياسي غير محمود العواقب، ودون قلاقل داخلية وفضائح خارجية تذكر”. حيث طرحت تلك المبادرة على طاولة المسؤولين الأمنيين، أصحاب القرار الحقيقي في البلاد، ملفا شديد الحساسية لم يعهدوه سابقا من حيث طبيعة التحرك وميدانه وهوية القائمين عليه.

جاء هذا الملف ليربك حسابات هؤلاء المسؤولين ويدفعهم الى إعادة النظر في خطتهم بعدما خالوا لوهلة خلال الصائفة الماضية أن الأمور بدأت تستتب لهم بفضل سياسة إخماد الأصوات المزعجة، ووأد التحركات الاجتماعية الشعبية في المهد والحيلولة دون توسعها، وتصفية ملفات “الارهاب”، ورواج بضاعة “العودة الفردية المشروطة” لدى بعض أوساط اللاجئين التونسيين في أروبا.

تأنت الأجهزة الأمنية لبعض الوقت قبل أن تبادر للرد على المبادرة عبر ناطقها غير الرسمي (2). وجاء الرد عموميا فضفاضا محسوب الكلمات، فيما يبدو أنه عملية ربح للوقت وجس للنبض حتى تتوضح الصورة أكثر وتكتمل معالم الخطة البديلة. في ظل تقدم أصحاب المبادرة بأشواط عديدة أمام تلك الأجهزة في فهم المشروع وتنضيجه وتوسيع دائرة المنخرطين فيه والمتعاطفين معه وافتكاك زمام المبادرة وتحديد أرضية “المعركة” وتوقيتها، واستيعاب إمكانيات الخصم وتعطيل عدد من “أسلحته”.

وبرزت خلال هذه الفترة مؤشرات عديدة على أن الملف بصدد التفكيك والدراسة من طرف وحدة أمنية متخصصة عاكفة على مراكمة المعلومات ودراسة الملفات والتخطيط للمناورات.

ويبدو لنا من خلال هذه المؤشرات، وإنطلاقا من فهمنا لمنهج العقل الأمني وتحليلنا لطريقة تعامله مع الساحتين الحقوقية والسياسية في البلاد، أن معالم خطته التي هي بصدد إنهاء الإعداد وبدء التنزيل لن تخرج كثيرا عن السيناريو التالي : السعي عبر كل الوسائل الممكنة لتفجير المبادرة من الداخل أو على الأقل إضعافها عبر تشويه صورتها وعزل القائمين عليها عن الجسم العام للمهجرين وسحب البساط منهم دون استبعاد التفاوض معهم في آخر المطاف إن فشلت في مساعي التدمير.

سأبدأ أولا بتعديد الوسائل المنتظر إنتهاجها من قبل الجهاز الأمني المكلف بمتابعة المبادرة ومحاربتها، وبعضها صار فعلا طور التنفيذ، ثم أرد لاحقا على تلك الوسائل واحدة واحدة، قبل أن أختم بتقدير للموقف وإستقراء لمصير تلك الخطة المفترضة في ظل الالتفاف المتزايد للمهجرين التونسيين في مختلف المنافي حول مبدأ “المطالبة بحق العودة الآمنة والكريمة “.

أوهام العقل الأمني

مناورات، محاولات إختراق، تفتين، تشويه، إبتزاز … تلك هي الكلمات المفاتيح لأي خطة أمنية في ظل الدكتاتوريات المتخلفة، وذلك هو ديدن العقل الأمني التونسي في تعامله مع أي مشروع أو أية مبادرة في الفضاء الوطني المعارض. وقد تواترت المؤشرات والدلائل على أن طريقة التعاطي مع ملف “عودة المهجرين” لن تشذ عن هذه القاعدة، حيث ستعتمد بالضرورة على الأشكال التالية:

1 ـ سياسة الالتفاف على المبادرة عبر الاتصال بموقعين فيها والضغط عليهم بمزيج من الترغيب والترهيب للانسحاب منها ووعدهم بتسوية الوضعية وضمان عودة آمنة في حالة سحب أسمائهم من العريضة والتهجم عليها على الملء. وقد تم الاتصال فعليا بعدد من الموقعين، كما سئل الكثيرون ممن قصدوا السفارات لتسوية الوضعية عن موقفهم من “حق العودة” وعلاقتهم بالمبادرين.

2 ـ محاولة إختراق المبادرة عبر زرع مخبرين أو مهجرين واقعين تحت سيف الابتزاز الأمني المهين لنقل الأخبار والسعي للتخريب من الداخل.

3 ـ السعي لتشويه المبادرة عبر الترويج لوجود عناصر مشبوهة الارتباطات أو ذات سجل غير محمود في قائمة الموقعين، من مثل دعوى الزور والبهتان التي تم تسريبها الى أحد الاعلاميين حول تسرب “.. أسماء لاعلاقة لها بالشأن السياسي التونسي، فأحد الممضين متورط في شبكة راهنت على زعزعة الأمن والاستقرار بمنطقة المغرب العربي ، بل انه وبحسب هذه المصادر المطلعة مطلوب في قضايا شبكة ارهابية خطيرة … شخص اخر أمضى على العريضة متورط هو الاخر وبحسب نفس المصدر المطلع في قضايا حق عام”.

4 ـ دفع بعض المتقدمين لتسوية الوضعية بصفة فردية والماضين في خيار العودة المشروطة لمهاجمة المبادرة كشرط لفتح باب العودة أمامهم. والهدف من هذا الأمر التفتين بين المهجرين وعزل أصحاب المبادرة ونزع صورة التمثيلية للجسم المهجري عنها.

5 ـ العمل، ربما، على تسوية بعض الملفات الفردية وطلبات العفو والعودة لعدد من المهجرين في بعض العواصم الاروبية المقدمة منذ أشهر عديدة وبعضها منذ بضع سنوات، لسحب البساط من المبادرة واقناع الجسم المهجري بأن السبيل الوحيد للعودة هو عبر التماس العفو لدى السلطات والقبول بالشروط المطروحة وأخيرا لإقناع الرأي العام الداخلي والخارجي بأن سبل العودة مفتوحة لمن يرغب في ذلك.

6 ـ ربط المبادرة في الخطاب الرسمي وشبه الرسمي بحركة النهضة: بأزمتها الداخلية والتحديات المطروحة عليها، ومحاولة إيهام الرأي العام أنها لا تعدو أن تكون مناورة لتلك الحركة في سعي مفضوح للحد من التعاطف الكبير مع “حق العودة” داخل البلاد وخارجها.

7 ـ ولعل أخطر بنود الخطة الأمنية المفترضة لضرب مبادرة “حق العودة”، وشل الحراك الوطني المتصاعد في البلاد، يتمثل في تصعيد القمع على الفاعلين السياسيين والحقوقيين والنقابيين داخل البلاد خلال الأشهر القليلة الماضية وخصوصا إعادة السيد صادق شورو الرئيس السابق لحركة النهضة الى السجن والاحكام القاسية جدا التي صدرت بالتزامن على مناضلي الحوض المنجمي. حيث لا مجال للشك أن من بين الأهداف المركزية لهذا التصعيد المجاني دفع الساحة الحقوقية والسياسية إلى إعادة اعادة ترتيب الأولويات لتقديم النضال من أجل إطلاق سراح المساجين مجددا على التحرك في ملف العودة، ثم دفع المهجرين أنفسهم إلى تأخير مسعاهم للعودة لعدم ملاءمة الظرف …

كشف الأوهام وتهافت المقاربة الأمنية

غريب أمر الأجهزة الأمنية، تبدو أحيانا شديدة الذكاء وفائقة المناورة عندما توجه الساحة حيث تريد وتفرض أجندتها وأهدافها، غير أنها تبدو على غاية من الغباء عندما تعيد تكرار الأخطاء ولا تستفيد من دروس الماضي، وخاصة عندما ترسم الخطط والمناورات دون فهم دقيق للجهة المقابلة ونوعية أفرادها ودرجة إلتفافهم حول مشروعهم ومقدار التفاعل مع قضيتهم، وهذا ما يبدو أنها مقدمة عليه في ملف “عودة المهجرين” من خلال ما سبق تفصيله. وهو ما ينبئ بفشل ذريع لتلك الخطة المفترضة.

وفيما يلي رد مفصل على بنودها المعددة سالفا واحدة بواحدة، يكشف أوهام العقل الأمني ويبين تهافت مقاربته.

1 ـ الالتفاف على المبادرة لن ينجح نظرا لاقتناع جميع الموقعين بعدالة القضية ومشروعية التحرك ومناسبة اللحظة، ولرفضهم المطلق لأي نوع من أنواع المساومة حول حقهم في العودة الآمنة والكريمة دون شروط. وكل ما يمكن أن تحققه السلطة في هذا المجال إقتناص بعض المناضلين على أطراف المبادرة ترغيبا و ترهيبا ومنحهم تسوية مستعجلة وعودة سخية، وإن حصل هذا فقد يكون دافعا لبعض الراغبين في تسوية الوضعية بشكل فردي للامضاء على العريضة بنية المساومة عليها إثر ذلك، حيث يبدو أن هذا هو الطريق الأقصر والأضمن للعودة حاليا.

2 ـ الاختراق الأمني، الذي هو أول ما يفكر فيه العقل الأمني بداهة ، هو آخر ما تخشاه هذه المبادرة باعتبار أنها ليست إطارا تنظيميا متشعب الهيكلية، ولا إطارا مفتوحا لعامة الناس على أسس الايديولوجيا أو الالتقاء الفكري والسياسي (وهذه مداخل الاختراق الرئيسية)، بل هو إطار متخفف الهيكلة ليس لديه ما يخفيه وجمهوره من المهجرين (اللاجئين السياسيين وغيرهم) وهو جمهور محدد أفراده يعرف بعضه البعض الآخر. إضافة إلى أن تحديث العريضة مركز بيد الثلة المبادرة التي تقوم بجهد كبير للتدقيق في كل إمضاء يرد، وقد أحبطت محاولات عدة لتسريب أسماء وهمية أو غير متأكد من صدقيتها. وحتى إن تمكنت الأجهزة من تسريب إسم أو إسمين إلى القائمة فلن يؤدي ذلك إلا إلى زيادة عدد الموقعين …

3 ـ كم كان سخيفا وأحمقا إتهام المبادرة بتسرب إسمين “مشبوهين لاعلاقة لهما بالشأن السياسي التونسي” إليها، لأن هذا الاتهام يبطن اعترافا بأن ال194 المتبقين لا شبهة عليهم وأنهم في صلب الشأن التونسي. وهكذا يتحول ما أريد له أن يكون مثلبا للمبادرة إلى تنويه بها. واهمة تلك الأجهزة وأذنابها إن ظنت أنها قادرة على النيل من هذا العمل بمثل تلك الترهات. فالجميع يدرك أن القاسم المشترك بين المبادرين عاملان فقط أنهم جميعهم تونسيون وأنهم محرومون عمليا من العودة إلى بلادهم، ولن يتردد أحد منهم في الدفاع عن حق الآخرين مهما كانوا في العودة الآمنة والكريمة إلى بلادهم، ثم ليتحمل كل واحد مسؤوليته أمام قضاء عادل ومستقل ببلادنا أو حتى أمام القضاء الدولي إن كان للأمر بد.

4 ـ لن يضير المبادرة ـ إطلاقا ـ أن تقع مهاجمتها من طرف مهجرين واقعين تحت سطوة الابتزاز الأمني. ولن ترد في الأغلب على من تسمح له نفسه أن يسلك هذا الدرب، بل ستعتبره ضحية للابتزاز، كما ستعتبر نفسها معنية بالدفاع عنه إن عاد للبلاد وتعرض للمضايقة ولو لم يطلب منها ذلك.

5 ـ حول إمكانية تسوية وضعية المهجرين المتقدمين بصفة فردية بطلبات العودة بنية سحب البساط من المبادرة، نشك في إمتلاك الأجهزة الأمنية لهامش الفعل والشجاعة الكافية للإقدام على هذا الأمر. وإن تجرأت وأقدمت على ذلك فسيكون المبادرون أول المهنئين لمن شاركهم يوما محنة التغرب عن الوطن وسيعتبرون أنفسهم معنيين بالدفاع عنهم كذلك إن هددت سلامتهم أثناء عودتهم. وستؤدي تلك الخطوة إلى نتيجة عكسية تماما عن تلك التي قصدتها السلطة، حيث ستثبت للجميع أن الضغط هو السبيل الوحيد لدفع السلطة لتحريك الملف الراكد

6 ـ إن مسعى السلطة لتسويق المبادرة على أساس أنها “مناورة جديدة للنهضة” متهافت بالضرورة في ظل توسع رقعة المشاركة في هذا الجهد الوطني ليشمل كل أطياف الجسم المهجري التونسي، وفي ظل الحرص المطلق للمبادرين من مختلف المشارب على إستقلالية قرارهم وتبنيهم لسلوك ديموقراطي شفاف سيفضي قريبا إلى بناء منظمة وطنية ممثلة للجسم المهجري وعلى علاقة ممتازة بكل الأطراف في الساحتين الحقوقية والسياسية التونسية.

7 ـ إن ظن العقل الأمني بالبلاد أنه سيعيد ترتيب أولويات المهجرين ويدفعهم إلى التخلي عن طرح “حق العودة” كهدف مركزي لهذه المرحلة، بعد جريمة إعادة الدكتور صادق شورو إلى السجن وبعد الأحكام الجائرة التي استصدرها ضد زعماء ومناضلي حركة الحوض المنجمي الاحتجاجية فهو واهم. لأن قطار العودة إنطلق أصلا في أذهان المنخرطين في المبادرة ولن يتوقف إلا في محطة تونس في وقت يرونه بعيدا ونراه قريبا. ولن يزيد التعنت الأمني والتصعيد البوليسي ضد جماهير الشعب وقواه الفاعلة المهجرين الا حرصا على خوض “معركة العودة” بكل ما أوتوا من جهد وعزم وحكمة حتى يحققوا عودة ليس فقط لتقبيل تربة البلاد ومعانقة الأهل والأحباب كما يرغب في ذلك الكثير من المهجرين بل أيضا للاسهام الفعال في في الدفاع عن الحرية ومحاربة الدكتاتورية وإحلال الديموقراطية.

الحل الوحيد

تأكد من خلال ما سبق أن السياسة الأمنية المفترضة لمواجهة مبادرة “حق العودة” آئلة للفشل لا محالة، وأنها لن تحقق للأجهزة صاحبة القرار أي مكسب، عدى ربما في أحسن الحالات، تأجيل عودة مئات اللاجئين الذين الذين بدأوا يدقون أبواب الوطن لبعض الوقت. غير أن ثمن ذلك “المكسب” سيكون بلا شك مرتفعا لتلك الأجهزة، حيث ستستنزف طاقاتها وامكانياتها مع تصاعد تحركات المهجرين وأنشطتهم وستزداد عزلتها وتتسارع أزمتها مع تعاظم التعاطف الداخلي والخارجي مع هذه القضية العادلة، وستجد نفسها حتما ذات يوم، نراه قريبا، مضطرة للتقهقر والتسليم تحت ضغط الداخل والخارج.

لذلك فليس أمام السلطة، المعنية بتهدئة الأوضاع وتقليص عدد وحدة بؤر التوتر المتزايدة قبيل الانتخابات التي أضحت على الأبواب، والمطالبة بتوفير الشروط اللازمة لتجديد الشرعية دون فضائح وبلابل وقلاقل، ليس أمامها إلا انتهاج حل سياسي لهذا الملف .وهذا الحل يتطلب فقط شجاعة في إتخاذ القرار وتقديما لمصلحة البلاد والعباد وتأخيرا للاعتبارات “الأمنوية” الخانقة للفعل والمبادرة. لذلك فالكرة الآن في ميدان السلطة إن هي آتتها حقها وأحسنت التصرف فيها، برفع الحواجز عن المهجرين قسرا من البلاد ليعودوا بكل كرامة وأمن وبدون شروط وبترتيبات يتفق عليها، حلت المشكلة ورفعت الغمة واُطفئ الفتيل. وإن واصلت غيها تحولت الكرة الى ميدان المهجرين ليفرضوا نسقهم ويُسمعوا صوتهم ويخوضوا معركتهم حتى يحققوا هدفهم في العودة الكريمة والآمنة والمسؤولة الى بلدهم.

ملاحظة: كتب هذا التحليل منذ عدة أسابيع. وقد جاءت الحملة التي أطلقتها الوحدة الأمنية المكلفة بملف “منفيون” أخيرا على صفحات تونس نيوز الغراء لتؤكد صحة ما ذهبنا اليه من توتر أصحاب القرار الأمني وتخبطهم في ادارة هذا الملف الشائك. كما تردنا أخبار متواترة ومؤشرات عديدة تؤكد انطلاق تنفيذ أغلب بنود الخطة الأمنية المفترضة المفصلة أعلاه. وكلنا أمل أن يدرك أصحاب القرار الأمني اليوم أنه لا طائل من مواصلة خطة آئلة للفشل لامحالة.

——–

(1) – “العقل الأمني للسلطة وسياسات المرحلة” ـ جوان/يونيو 2008 ـ عماد الدائمي- http://www.dctcrs.org/s4272.htm

(2) – انظر كلام برهان بسيس في ” تونس: انقسام الإسلاميين حول مسألتي “العودة” و”المصالحة – صلاح الدين الجورشي – http://www.swissinfo.ch/ara/front.html?siteSect=105&sid=9307061&cKey=1218178592000&ty=st”