و لئن كان من المتفق عليه اليوم أن يوم 25 جويلية 1957 كان تاريخ سقوط النضام البائد للبايات الأتراك في البلاد التونسية كما أنه تاريخيا نفس اليوم الذي إختارته السلطات الفرنسية لعرض اتفاقية إستقلال البلاد التونسية على مصادقة سلطتها التشريعية بحيث أن إستقلال تونس لم يصبح نافذا و حقيقيا إلا في هذا التاريخ، فإنه من الصعب تصنيف جمهورية الإستقلال سواءا في صيغتها الإولى في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة أو في صيغتها الحالية في عهد الرئيس زين العابدين بن علي في خانة النظم الجمهورية حسب المعايير الثابته و المألوفة لهذا الشكل من تنضيم السلط العمومية.
فالجمهورية تعني قبل كل شيئ سيادة الشعب بمعنى عدم الإعتراف بأي امتياز أو أفضلية لفرد أو مجموعة تخولها إحتكار السلطة أو الحصول على نصيب من االثروة يتجاوز ما هو معترف به لكل فرد من أفراد المجتمع. كما تعني سيادة الشعب إخضاع سلطة الدولة لسلطة المواطنة، فالمواطن هو الذي يختار من ينتخبه لفترة محدودة لممارسة السلطة باسمه و هو الذي يحدد ما يطلب من السلطة أن تقوم به و تضطلع بإنجازه و هو الذي يقوم بمحاسبة القائمين بها. كما أن سلطة الشعب عندما يمارسها منتخبيه لا تعني إعطاء هؤلاء تفويضا مفتوحا لممارستها مدة نيابتهم لأن السلطة في النظم الجمهورية ليست سلطة أفراد و لا تمارس إلا من خلاال المؤسساسات و حسب التراتيب و الشروط الموضوعة لعمل هذه المؤسسات بحيث أن تداول الأفراد عليها لا يتيح لهم تغيير طبيعة سير عملها أو الإنحراف بها عن الأغراض المحددة المرسومة لدورها.
و لعلنا كلما تقدمنا في استعراض الركائز الحقيقية للأنظمة الجمهورية نلامس مستوى التناقض بين قيم الجمهورية و هذا المسخ من الأنظمة التي خلفها الإستعمار و الذي يشترك معه في القيام على إقصاء الجماهير العريضة من أفراد الشعب عن ممارسة مقومات سيادتها و الإستفادة على قدم المساواة من ثروة و خيرات بلادها. و لئن كانت جمهورية الإستقلال جمهورية بلا سيادة فإنها أيضا جمهورية بلا شرعية و جمهورية بلا قاعدة وطنية حقيقية. فهي جمهورية قائمة على التعتيم و تزييف الحقيقة ومؤسسة على ثقافة التملق و الخضوع و عاجزة على استيعاب القوى الحقيقية الحية و الفاعلة داخل المجتمع و هو ما يجعلها جمهورية سبكت منذ ولاداتها داخل قوالب الإستبداد حتى أصبحت مرادفا للقمع و انتهاكات حقوق الإنسان و محاصرة القوى الحية و معادات القوى الصاعدة و تكميم الأفواه و مصادرة كل مجالات الممارسة الحقيقية للحريات.
و من الطبيعي أن نجد اليوم هذا التناقض الكبير بين من يدافعون على جمهوريتهم و من خلالها على امتيازاتهم و احتكارهم للسلطة و بين من يكافحون من أجل جمهورية لا تقوم على إقصائهم و حرمانهم من حقهم المشروع في مواطنة غير مشروطة تتيح لهم التمتع بنفس الوسائل و الضمانات بحقهم في وطنهم و الذي لايمكن لأي شريعة أو قانون إقناعهم بالتخلي عنه أو صدهم على الكفاح من أجل تحقيقه.
و لكن الغريب حقا في هذه المرحلة التي نحن بصددها حالة الضبابية التي يهيم داخلها جانب كبير من النخب الوطنية و ما تفضحه من عجزهم عن الإرتقاء من أجنداتهم الفئوية و الحزبية الضيقة إلى أجندة وطنية و تجعلهم يتوهمون إمكانية تغيير الأوضاع عن طريق التلائم مع شروط المحتكرين للحكم و المستبدين بالسلطة و الحال انهم لايمنحون لهم من إعتراف أو مجال للعمل إلا بالقدر الذي يجعل منهم طرفا في خدمة استبدادهم و تواصل احتكارهم.
فالجمهورية لا تقوم بالدعوة للمشاركة في انتخابات خارج المقاييس الإنتخابية و معروفة النتائج سلفا و لا يتجاوز دورها إطالة عمر الإستبداد. و الجمهورية لا تقوم على أحزاب يمولها الإستبداد مقابل المحاصصة معه لإعطائه صورة الأنضمة التعددية. و الجمهورية لا تقوم على نظام يحاصر حرية الكلمة و الحق في التعبير والتعتيم الإعلامي و علق مختلف مجالات الحوار الحرحول القضايا الوطنية. و الجمهورية لا يمكن أن تقوم بدون قضاء مستقل يكرس حكم القانون و برلمان تونسي يشرع إرادة الشعب و مؤسسات دستورية ترتقى فوق مستوى الأفراد و المصالح الخاصة و تفتح مجال التداول و المنافسة على ما فيه خير الوطن و المواطنين…
بصراحة نحن لا يمكن أن ننسى وضع الإستبداد لنحتفل بذكرى الجمهورية حتى ولو كانت الذكرى الثانية و الخمسين لإعلانها.
المحتار اليحياوي تونس في 25 جويلية
iThere are no comments
Add yours