بقلم عماد الدائمي *

لا زالت الانتخابات لم تجر بعد في البلاد ولكن نتائجها باتت معروفة مسبقا لدى كل التونسيين والمراقبين المتابعين لسلوك النظام الحاكم طيلة الحملة الانتخابية والاسابيع التي سبقتها. لم تحصل المعجزة التي كان يحلم بها البعض (معجزة الانفتاح النسبي واحترام الشكليات)، ولن تحصل، لأن الخلل بنيوي وعميق ولأن ميزان القوى بين السلطة وقوى المجتمع الحية لا زال مختلا لصالح الأولى، كما لايزال الضغط الخارجي من أجل احداث حدود دنيا من الانفراج والاصلاح ضعيفا أو ربما منعدما تماما.

وصمة عار جديدة هي بصدد الاضافة الى سجل بلادنا، وأغلب التونسيين مشدوهون يتابعون الأوضاع بكثير من الأسى والاحباط والخجل. ولا عجب أن يخجلوا ونخجل جميعا لأن فصول المهزلة فاقت حدود التصور والتحمل. وفيما يلي غيظ من فيضها.

1 ـ اخراج ردئ لمسرحية عفا عنها الزمن

لم يكن لدى المتابعين الذين يعرفون النظام التونسي جيدا وهم أن تكون هذه الانتخابات مختلفة في النتيجة عن سابقاتها في تاريخ البلاد الحديث. غير أن الكثير منهم توقع أن تغير السلطة من تكتيكاتها هذه المرة وأن تعد لعبتها جيدا حتى لا تقع في الأخطاء والفضائح التي وقعت فيها في المرات السابقة، خصوصا وأن هرم السلطة والمقربين منه انطلقوا في الاعداد لهذه المسرحية الانتخابية منذ زمن طويل. وكلفوا لاخراجها فريقا من الأمنيين والقانونيين والسياسيين والدوائر النافذة أطلقوا يده منذ أول يوم في موارد الدولة وامكانيات الادارة، وأعطوه بطاقة بيضاء للتعامل مع مختلف الفاعلين والمفعول بهم بكل الأشكال المناسبة ترهيبا وترغيبا، ضمانا للولاء أو دفعا للبلى.

وقد حدد لهذا الفريق من المخرجين هدف شديد الوضوح غير قابل للتأويل وبدون أي هامش للتصرف. فاجتهدوا كيفما يقدرون، وفتحوا أرجلهم بأكثر مما يقدرون ليصلوا طرفي موازنة مستحيلة شعارها: ضمان النتيجة مع المحافظة على الديكور.
غير أن ما خفف الوطأة عنهم وجود قاعدة ذهبية للتحكيم عندما تتشابك الأمور، شعارها: أولوية النتيجة على الديكور، مع التعويل على الزمن كي ينسى الناس ويتعودون وتستقر الأوضاع كما خطط لها دون تنغيص أو حاجة لتنفيس ..

ولكن رغم الاستعدادات والامكانيات والجنود المجندة، لم تخرج المسرحية حتى الان، ولن تخرج، عن المنتظر المألوف الذي يمكن أن يتنبأ به أي مواطن عادي: كل شيء فيها معروف مسبقا: الأبطال والكومبارسات والادوار المختلفة .. وموقف الأبطال من الطامعين والمشاغبين والمترددين .. وفكي التنين المشرعة على المناوئين الساعين لافساد الحفلة واثارة الفتنة. ولم يبق في علم الغيب الا موقف الجمهور من مسرحية بهذه التفاهة واخراج بهذه الرداءة، هل سيقاطعونها بكثافة كبيرة كما ينتظر، أم أن الخوف سيقود أعدادا منهم الى مسارح التصويت كما يفعل عادة في مثل هذه المناسبات.

2 ـ هل هي انتخابات حكم أم انتخابات خلافة؟

عودوا الى كتب التاريخ وتجارب الأمم ولن تجدوا موقفا انتخابيا أشد غرابة من الذي تعيشه بلادنا هذه الأيام. ففي الوقت الذي تستعد فيه حثيثا للتجديد للمرشح لخلافة نفسه في ظل صخب اعلامي وغطاء سياسي ونداءات وتحالفات والتحاقات (شملت حتى الطامعين من الضحايا السابقين)، ينسحب هذا البطل الأوحد فجئيا من المشهد، ويتقلص حضوره، وتشتد الريبة حول مصيره، مع بروز مؤشرات متواترة على فقدانه للسيطرة على المافيات صنيعة يده، وعلى احتدام صراع الأجنحة لخلافته، ومع سيل الشائعات المتعددة حول المؤمرات التي تحاك على الزعيم الحاضر الغائب من داخل قصره وحول الصفقات التي تعقد من وراء ظهره ..
فأي وضع سريالي هذا : رئيس ينتخب بنسبة تقترب من الاجماع ولا أحد يدري ان كان سيحكم غدا، أم أن صفحته ستطوى قريبا انتزاعا أوضغطا أو اضطرارا.

3 ـ غياب الناطق الرسمي والخوف من تمثيل النظام

في كل الدكتاتوريات عبر التاريخ يحتكر الدكتاتور تمثيل الدولة والكلام باسم الحزب الحاكم، ولا يسمح عادة لوجوه أخرى بالبروز الشديد وملء الساحة مهما كانت درجة وفائها له.
أما في بلادنا فاننا نعيش وضعا شاذا يكاد لا يكون له نظير … فدكتاتورنا لا يتقن فن الكلام، ولم يعرف التونسيون عنه يوما أنه تكلم من غير ورقة أو كتب مجرد فقرة ناهيك عن المشاركة في ندوات صحفية أو حوارات تلقائية ..
ومع ذلك اعتمد منذ وصوله للحكم قبل 22 سنة سياسة تكميم الأفواه من حوله، تحجيما لطموحات معاونيه المقربين، ومنعا لاضفاء أي شرعية تمثيلية أو سلطة تقديرية لأي من وزرائه أو مستشاريه. وقد أنتج هذا الوضع أمرا واقعا غريبا لنظام أبكم يتهرب كوادره من الكلام خوفا من البروز الذي قد يثير حفيظة الزعيم الأوحد، وخشية من الخروج ولو قليلا عن المرجعية التي يحددها القائد الملهم والاجهزة الاستشارية والامنية التي تنال ثقته وتعمل تحت ظله.

وأمام الحاجة الماسه لحدود دنيا من الحضور الاعلامي، الخارجي أساسا، للدفاع عن خيارات النظام والتهجم على معارضيه وصد الهجمات المتزايدة التي تأتيه من كل صوب، اعتمدت السلطة سياسة التمثيل غير الرسمي المرتكز على بعض الوجوه ذات حدود من الكفاءة الاعلاميه ومن القدرة على المراوغة واتقان اللغة الخشبية، وتكليفها بمهام محددة دون أي هامش للاجتهاد والتصرف. وتحرص هذه الوجوه دوما، للأسباب المذكورة أعلاه، على دفع “تهمة” تمثيل النظام بكل قوة. وفي هذا الصدد لا يفوتني التذكير بالموقف الطريف الذي حدث منذ أيام خلال ندوة حول الانتخابات التونسية نظمتها جمعية طلابية بمعهد الدراسات السياسية بباريس وحضرها مع ممثلي المعارضة الوطنية بعض المكلفين بمهام اعلامية وامنية من قبل النظام التونسي، حيث احتج أحدهم بشدة على عبارة “قريب من النظام” التي اعتمدها أحد المنظمين للتعريف به، مؤكدا أنه يعتبر نفسه “قريبا من الطبيعة ومن الحيوانات .. لا قريبا من النظام” !!
ولعل كل ما سبق يقدم لنا عناصر لتفسير السياسة الاعلامية للنظام القائم خلال هذه الانتخابات المبنية على ملء المشهد الاعلامي بالمكلفين بالمهام مع اجتناب السقوط في فخ الحوارات المباشرة أو التصريحات التلقائية التي تفترض دوما حدودا من هوامش التصرف لا يمتلكها في البلاد غير هرم النظام.

4 ـ المشاركة في اللعبة المغشوشة … لاثبات أنها مغشوشة!

في أغلب بلدان العالم التي يمارس فيها التزوير الانتخابي وتنتهك فيها ارادة الناخبين، ينقسم موقف الأطراف السياسية المعارضة عادة بين توجهي المشاركة طمعا في الحصول على فتات الموائد، أو المقاطعة ورفض المشاركة في تزييف الارادة الشعبية.
أما في بلادنا فينضاف الى هذين الموقفين الواضحين موقف ثالث يسميه اصحابه موقف المشاركة الاحتجاجية الذي تمارسه وتدعو اليه أحزاب وقوى يضم بعضها خيرة المناضلين الذي لا يشكك أحد في وطنيتهم واخلاصهم. والهدف المعلن من موقف البين ـ بين هذا استثمار هذه اللعبة للوصول للناس، حيث تنعدم فرص التواصل في الأيام العادية، ثم كشف خور الانتخابات واظهار زيف الادعاءات بالتعددية والشفافية. غير أن بعض المشككين يضيف الى هذه الأهداف أخرى أقل نضالية كالحصول على المنح المادية التي تهبها الدولة للقوائم المشاركة والحرص على عدم قطع شعرة معاوية مع نظام يعتبر المقاطعة خطا أحمرا لا يسمح للأحزاب “القانونية” تجاوزه.

وبقطع النظر عن أهداف تلك الأطراف وتخطيطاتها، فان الواقع يثبت أن النظام يمتلك وحده خيوط اللعبة الانتخابية حيث يستثمر في كل مرة مشاركتها “الاحتجاجية” بأقصى قدر ممكن لتزيين الديكور واضفاء الشرعية والتعددية الوهمية أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، وفي نفس الوقت يضع الحواجز والعراقيل أمام تلك القوى لحرمانها من التواصل مع المواطنين ومنعها من تحويل المشاركة ـ الديكور التي يريد الى مشاركة حقيقية.
وهكذا تجد تلك الأطراف نفسها كل مرة مضطرة في اخر المطاف اما للانسحاب بكف فارغة وأخرى لا شيء فيها عدى الصراعات الداخلية والخلافات مع بقية مكونات الساحة الوطنية المعارضة، واما مواصلة المشاركة في المهزلة الى النهاية وقبول كل التنازلات المهينة التي تفرضها سلطة حريصة على النتيجة أكثر من حرصها على الديكور، دون أن يكون لديها أي وهم في الحصول على أدنى مكسب انتخابي … ويا خيبة المسعى.

وهكذا يخرج النظام في كل مرة الرابح الوحيد من منطق المشاركة الاحتجاجية، حيث يسحب نسبة معتبرة من المعارضة من خندق المقاطعة الى مسرح المشاركة قبل أن يلفظها كالنواة ويواصل مسيرته المظفرة نحو تأبيد الدكتاتورية ..
فمتى تكسر تلك الأطراف هذه المعادلة الخاسرة وتقطع مع نظام متهالك لا يلقي لها أي اعتبار، ولا يتعامل معها بغير عقلية القمع والابتزاز والاذلال

ان السبيل الوحيد للتصدي لسياسة التزييف والاقصاء التي تنتهجها السلطة، هو التقاء مكونات الطيف الوطني المعارض وقوى المجتمع المدني الحية في استراتيجية نضالية موحدة وابداع أشكال جديدة وجريئة لكسر الحصار المضروب على المجتمع والتواصل مع عموم التونسيين.
ان الحاجة باتت ملحة، والنظام يستعد للتجدد ومن ثمة للتوريث، لنبذ الخلافات الهامشية وتنسيق الجهود من أجل اعادة الاعتبار للتونسيين ونفض الغبار عن كرامتهم وغسل العار الذي ألحقه ببلادنا نظام متخلف حول تونس لأضحوكة في المجالس ومضرب للمثل في الدكتاتورية واستبلاه الشعب.

* كاتب من تونس