بقلم فوزي الصدقاوي

إنفطرت قلوب أهالي مدينة بنزرت لدى سماعهم نبأ سقوط ضحية جديدة من فلذات أكباد إحدى العوائل البنزرتية المعروفة، فالأهالي جميعهم يمكنهم أن يعددوا جرائم القتل التي إستهدفت أبناءهم في وضح النهار، طوال هذه السنين الأخير، حتى جرائم السرقة التي تتسع لها السجلات الكثيرة، لم يعد أحد يهتم بالحديث عنها، فجميع الأهالي قنعوا أنّ السرقة، على شرّها، شرٌ لابد منه، لكن أن يَطال القتل الأبرياء من أبناء المدينة و عائلاتها الآمنة، فتلك جرعة لم يكن ليستسيغها أحد.

فبعد ظهر يوم الخميس 25 نوفمبر2010 تعرضت سلوى نعمان، صاحبة محل هاتف عمومي، إلى الطعن غيلة بسكين شاب، ترصّد ومرافقيْن له ، المنطقة وحركة الشارع أياماً قليلة قبل أن يقتحموا عليها المحل ويردوها قتيلة، ويأخذوا ما بحوزتها من بطاقات شحن و يَخلعُوا أجهزة الهاتف و”يـفوزوا” بما تجمّع بها من مال.

هزّ أهالي بنزرت الحدث فسارع بعض الشباب إلى نشر الخبر على الفايس بوك، ودعوة أصدقائهم إلى تقاسم الخبر والتعليق عليه، آخرون دعوا إلى التزيّ بزي أسود أو شارة سوداء ليوم الأحد 28 نوفمبر 2010 ، قبل مباراة كرة القدم للنادي الرياضي البنزرتي، بعضهم الآخر دعا إلى دقيقة صمت يقفها أحباء النادي الرياضي البنزرتي قبل إنطلاق مقابلة كرة القدم، لكن هناك دائما من له مصلحة في وأد جميع تلك المقترحات والأفكار فعالجوا الرغبة في الإحتجاج بصد وحزم مخافة أن تتحول المسألة إلى قضية رأي عام.

لكن أحداً لا يمكنه أن يئد الذاكرة، فهي لا تنسى ألامها ولا تطمر أسماء المغبونين من أحبابها، وسلوى نعمان لم تكن أول من سُفح دمها عند ركن متين من أركان المدينة، لأجل الفوز ببضع بطاقات شحن، ولا كان محمد دحّام أخر من طعن بسكين في سوق السمك ببنزرت ، ولا كانت آخر القائمة إيمان بوهلال التي كانت بين أهلها تسير عند أكثر أركان المدينة حيوية في ليالي الصيف( طريق سيدي سالم)، وهو الذي تقصده العائلات للفُسحة والترويح عن صغارها، فتُطعن بسكين حين تحاول منع أحد المجرمين من انتزاع هاتفها المحمول من يدها(..إلخ…).

سيُقال لنا، حين يُراد لَحْسَ عقولنا.. إنّ هذا يَحدث…نعم يَحدث، حتى أنه يَحدث في المجتمعات الراقية أيضاً و أن جريمة كل ربع ثانية تحدث في الولايات المتحدة الأمريكية و جريمة تحدث في أوروبا في كل ثلاث ثوان…سنقول حينئذ أن بنزرت وأهلها كانت سابقاً و منذ عقود طويلة من تاريخها المعاصر واحدة من أرقى المجتمعات المحلية التونسية وكانت الجريمة مع ذلك، فيها معدومة، لأن الرقابة المشددة على من يدخل المدينة و يخرج منها سابقاً ، تتم بترتيبات سلسة تراعي حرمة المدينة و سلامة متساكنيها، وتوفرالأمن والسلم الإجتماعيين لأهلها. أما اليوم فإن حالة من التخلي تكاد تصيب عموم المؤسسات المحلية وبعض مسؤوليها، وبات يمكن أن يستخلص المواطن وحده من خلال معاملاته الخاصة مع سائر المؤسسات العمومية، دروساً مفادها، أنها “بلاد بلاش اُمالي” وهو تعبير يعكس المرارة والخيبة التي تـَقطع أفئدة أبناء المدينة وهو أيضاً تعبير يـُقدم توصيفا مختزلاً للأزمة التي تعيشها مدينة بنزرت وأهلها.

كانت هذه الجريمة، على غير العادة، مشحونة بدلالات ما كان للوعي الجمعي لأهالي مدينة بنزرت أن يبلغ بدونها لحظة كشف المعنى وجوهره، إلا حين سقطت سلوى نعمان قتيلة على مقربة من مقر إقليم الأمن الوطني، فمنحت بسقوطها حيث هي ، قوة المعنى و معنى الحجة على أن للدم المسفوح قائمة من ضحايا أبناء المدينة تـُشهرها في وجه من تراخى وتحتجّ بها على من خطّ للفوضى طريقاً إلى المدينة وأرسى للرداءة فيها قواعد مكينة.

ففي فضاء إقليم الأمن الوطني ببنزرت، عند حوزته…على عتباته….عتباته الخلفية تحديدا…! تـُقتل إحدى بنات عائلات المدينة، ممن سخّرت للبلاد رجالا ونساءً للعلم والتعليم. وهوما مثـّل الحجة القاطعة لدى عموم من هاله القتل المجاني في مدينته…لذلك هاج الناس وماجوا..وأرادوها مناسبة للحداد ليس على سلوى نعمان وحدها بل لسابقيها من ضحايا المدينة… ووقفة تيقظ إلى أن مناسبات لاحقة للحداد يُخشى عقدها..إن لم يتوقف الدم المسفوح عند أركان المدينة.

ورغم أن سلسلة جرائم العنف التي لم يعتدها أهالي المدينة، قد تـَلاحق حدوثها بوتيرة غير مألوف تسارُعَها، فإن أكثرها غرابة، أن المواطن في مدينة بنزرت بات يُمكنه أن يرى بأمّ عينه في أوقات متفرقة من نهاره، شباباً لا يُعرف لهم أصلٌ ولا فصلٌ ” يُهاجمون” بسكاكين و سيوف مسلولة أهدافاً بشرية، طلباً لثأرأوانتقاماً لأمر، أوهم يقتحمون محلا عموميا نهباً لمال وقتلاً لنفس، أو يجوبون شارعاً جولاً وصولاً استعراضا لقوة.

ويَغفل من يعنيه أمر سلامة الناس في هذه المدينة وغيرها من بلاد الله أن لا يرى من بين أدوات الجريمة و غالب الجرائم.. تلك العقاقير التي لا يخفَى على أحد كيف تُسوّق ومن يُروج لها ومن يتعاطاها، فعصابات الإجرائم إعتاد أفردها أن يستعدوا لـ”غزواتهم” تلك بما يكفيهم من عقاقير الهلوسة يتجرّعونها، فتطيّرهم في السماء من غير أجنحة، وتشحنهم بقدرات وهمية يثقبون بها الأرض ويخرقون بها الحيطان من غير آلة وتفقدهم الإحساس بفداحة القتل بعد السرقة.

فدون أن نرى تدخلاً أمنياً يليق بحجم التشوهات الحضارية التي لم تعرفها المدينة قبل الآنَ، و دون أن نتدارك عنفاً بات منفلتًا في الشوارع والمدارس والمعاهد والملاعب، ودون أن تـُسخَـر مؤسسات الدولة وما أمكن من مقدراتها من أجل الإلتفاف على جميع ظواهرالعنف الشعبي في الخطاب والممارسة، وتستبق عنفاً شارداً يوشك أن يكون الوسيلة الوحيدة للتخاطب بين التونسيين ودون أن تُفتح للثقافة والفكروالإبداع منابر، وللعلوم والمناشط الشبابية المنتجة والمثمرة فضاءات، ودون أن يُهيأ للمثقفين والباحثين مراكز بحث و مساحات حوار، ودون أن يكون للمعدمين خبز وزيت وشغل وكرامة. ودون أن يبلغ الردع مداً يقطع دابر مظاهر الصعلكة في منابتها و يوقف آثارها، ودون غلق “حوانيت” بيع عقاقير الهلوسة ومنع وصولها إلي أيدي وجيوب المتعاطين من صعاليك المدينة والمتمردين فيها، فإن الجريمة لا محالة سيتزايد عددها، ويتعاظم حجمها، وتتكاثر فواجعها. ودون أن يتوقف هـدر جهود أعوان الأمن وأعدادهم الغفيرة ممن يرابطون منذ سنين على أعتاب مقر فرع بنزرت للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وممن يلاحقون النشطاء الحقوقيين من أبناء المدينة في غدوهم ورواحهم، وممن يترصّدون الشباب المتدين مخافة أن ينشأ عندنا إرهاب ما..! لم يكن نشأ قبلَ الآن ولن ينشأ بعده، كما نحسبُ… بدون ذلك كله، لن يتحقق للمدينة أمنُها، وبدونه ستظل المدينة مستباحة للعنف الشارد وستظل سلوى نعمان علامة مضيئة في ذاكرة أحباء مدينة شوهتها الفوضى وإجتاحتها الرداءة وتهاوت أجمل قيمها المدنية الأصيلة./….