المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
بقلم تونسي و أفتخر،

إن المتمعن في مسار الثورة التونسية في ظل حكومة الباجي قائد السبسي يلحظ نجاح هذه الحكومة في تحجيم المد الثوري وتقليص مطالبه إلى حد بعيد، أحاول في هذه الخاطرة تلخيص الوسائل التي توختها الحكومة والتي جعلتها أنجع من سابقاتها.

1. سياسة الأمر الواقع: على عكس حكومة الغنوشي التي كانت تستجيب تدريجيا لمطالب الثوار ما جعلهم يثقون بقدراتهم وبضرورة مواصلة الضغط لتحقيق جميع المطالب، فإن حكومة السبسي اتسمت بالتعنت والتأكيد على أحقية الحكومة في إتخاذ القرارات التي تراها كفيلة بحفظ الأمن وتجنيب البلاد خطر إنهيار إقتصادي محدق، تجلى هذا التمشي في خطاب السبسي الذي إستبق به إعتصام القصبة الثالث ليؤكد أنه من صلاحيات الوزير الأول تعيين من يشاء في منصب وزير الداخلية، الوزير الذي لقي تعيينه انتقادا شديدا كونه من رجالات أمن بن علي وتعويضه للراجحي الذي لقي تعاطفا كبيرا غير مسبوق من التونسين نحو وزير الداخلية. كان هذا التعيين والتبرير بكونه من صلاحيات الحكومة في مطلع أسبوع إعتصام القصبة الثالث.

في اليوم المشهود كان تكريس سياسة الحكومة الجديدة عبر ثلاث محاور:

أ) إحباط الإعتصام بالقوة من خلال ضرب طوق أمني شديد حول ساحة القصبة ثم تفريق المعتصمين بواسطة الهراوى والقنابل المسيلة للدموع وترويعهم بالدراجات النارية التي كانت تلاحق المتظاهرين، ومن ثم القبض على عدد من الشباب والقصر.

ب) نشر رواية الحكومة في وسائل الإعلام الرسمية حول إبتداء المتظاهرين بالعنف، وتحريف هذه الوسائل لفحوى المطالب كما فعلت موزاييك بتحريف مطالب الإحتجاج وتقديمها على أنها من أجل ألحق في قاعات الصلاة في المعاهد والجامعات وهو ما سيعمق الشرخ المصطنع بين العلمانين والإسلامين.

ج) تركيز وسائل الإعلام على قضايا خلافية تقسم المجتمع التونسي وتجعله متخوفا من صعود الإسلامين إلى السلطة ومحاولة ربط هذا الصعود بتخلي تونس عن مكتسباتها المدنية، مثل فتح موضوع الحجاب والإرث البورقيبي.

وسط هذا التشتيت، بدء الثوار في خفض سقف المطالب تدريجيا وهو الخفض الذي سيتواصل إلى حد كتابة هذا المقال،

قبل أسبوعين من الأن كان مطلب إعتصام القصبة الثالث هو إسقاط الحكومة ومنصب رئاسة الحكومة وتعويضه بمجلس رئاسي من المستقلين الذين عرفوا بمعارضتهم لبن علي وبنزاهتهم، و يتولى المجلس تعيين حكومة تصريف أعمال، ورغم أن العديد اعتبروا سقف المطالب مرتفعا جدا فإن منظمي الإعتصام اعتبروا المطالب مجرد مسودة تعكس رفضهم لما رأوه ثورة مضادة تدعمها الحكومة، وجعلوا الحوار شعارا للإعتصام الثالث، الحوار الذي كان يراد له أن يحدد المطالب الممكنة والمشروعة.

اثر إحباط الإعتصام حاول الثوار جاهدين تفنيد رواية الحكومة بنشر صور وفيديوهات وشهادات القمع الذي جوبه به الإعتصام، ثم مع ورود أسماء المسجونين ومع صدور أحكام بالسجن في حق قصر، انبرى منظموا الإعتصام في الدفاع عن المسجونين وتعريف الرأي العام بقضيتهم، ومع كونها واجبا على الثوار إلا أن حصر المطالب في إقالة وزير الداخلية الجديد الصيد وإطلاق سراح المعتقلين كان أول التنازلات.

الخطوة الثانية من الحكومة في سبيل تكريس سياسة الأمر الواقع هو إصدار قانون إنتخابي مثير للجدل، يأتي دور الإعلام مجددا لتأجيج الجدل حول القانون الانتخابي، مما جعل المطالب تتدنى ثانية إلى إعادة صياغة القانون الانتخابي وتنظيم إستفتاء حوله في أحسن الأحوال.

2. جس النبض: على عكس حكومة الغنوشي أيضا التي اتخذت خطوات اعتباطية أججت المد الثوري مثل تعيين ولاة تجمعيين مما أثار تحركات ميدانية واسعة في عدة ولايات ومهد لإعتصام القصبة الثاني، فإن حكومة السبسي تقوم بجس نبض الشارع قبل إتخاذ خطوات قد تعتبر استفزازية، فمثلا إقصاء القانون الإنتخابي للتجمعيين لقي إستحسان أغلبية الثوار، إلا أن حكومة السبسي ترد بتصريح للناطق باسم الحكومة بأن هذا الإقصاء ليس نهائيا، وهو ما يعتبر جسا لنبض الشارع فإن تحرك الشارع كما يعتزم الثوار غدا الأحد ضد هذا القرار فإن الحكومة ستتراجع عنه ويحسب لصالح الحكومة كونها اثبتت حسن نيتها كما حسب إطلاق سراح المعتصمين لصالحها، ففي التنازل الثالث نجد في مطالب وقفة الغد إقصاء التجمعيين من الحياة السياسية.

عندما استعرت عبارة “سياسة الأمر الواقع” فإني قصدت قطعا الإشارة إلى سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينين فمن المطالبة بأراضي 48 إلى 67 إلى عودة المهجرين إلى إطلاق سراح الأسرى إلى فك الحصار عن غزة وهكذا يتواصل مسلسل فرض الواقع بالقوة من طرف إسرائيل وتدني المطالب والأهداف من الفلسطينين، مع الإشارة اننا في المثال التونسي لدينا إختلافان جوهريان أن من ينفذ سياسة الأمر الواقع بنو جلدتنا لكي لا أتهم أني قلت عن السبسي إسرائيلي فأنا أشبه السياسات لا الأشخاص، والاختلاف الثاني أن إسرائيل ربحت الوقت كثيرا من خلال أكذوبة المفاوضات، في حين أن الحكومة التونسية تفرض الواقع دون مفاوضات، أو هي ربما تفاوض مجلس حماية الثورة الذي أريد له زورا أن يمثل إرادة الثوار كما تمثل السلطة إرادة الفلسطينين.

في الختام أود أن أذكر شباب الثورة اننا حين تولى السبسي رئاسة الحكومة علمنا مدى دهائه لكننا تفاخرنا بأن الدهاء البورقيبي الذي انطلى على آبائنا لن ينطلي علينا.

لا أقصد من خلال هذا العرض الزمني لما آلت إليه مطالب الثوار إحباط الشباب كما يفعل البعض الأن بعبارات مثل الثورة سرقت واكملوا نومكم، بل على العكس فإني وددت التذكير بالمطالب الأساسية لإعتصام القصبة الثالث والتي كانت منذ أسبوعين فقط ولو لم تكن مطالب مشروعة وقابلة للتحقيق لما لجأت الحكومة للعنف ولكل هذا التضليل لإحباط الإعتصام.