في التاريخ المعاصر هناك أمثلة كثيرة لشعوب انتفضت عن بكرة أبيها… ثمّ لاشيء، لاشيء إطلاقا، لم تر أي تغيّر في حياتها الاجتماعية، فحذار من مكر الفاسدين ومَن معهم من وراء البحر.

إذا استمر هذا السباب المقيت بين الإسلاميين واليسار فلن يربح لا هؤلاء ولا أولائك بل أقلية فاسدة من السماسرة مرتبطة ارتباطا قويا بمصالح أجنبية معادية للمجتمع الأهلي كلّه، هذه الأقلية، بعد إضعاف الجميع، ستتفرّغ لنهب الثروات العامة والقسمة مع الشركات المتعددة الجنسية، والتحطيم التدريجي وبلا رحمة لكل البنية الاجتماعية، ولإبقاء المجتمع الأهلي على حافة الفقر والخوف والتعطيل تحت مطارق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتلاحقة…

لنبني معا ثقافة تمكّن دائما الجماعات الصغيرة أو الفرد من أن يخرج للشارع ويجهر بالقول أنه يرى الملك عاريا، أو يأتي من أقصى المدينة يسعى ليقول يا قوم اتقوا الله، أو يخرج على الناس ليصدم ما آمنوا به إتباعا لتقاليد أعمت قلوبهم، أو يخرج لمعركة يدرك أنه قد يُقتل فيها لكن يقول “هيهات منّا الذلة”…

– 1 –

إعادة النظر في النموذج الاقتصادي المخلوع لا يجب أن يتوقف عند حاجز الأفكار وكأنّ التغيير لا يتعدّى معارك الخطابات الحديثة أو الأصيلة، دون أن يجني منها المجتمع الأهلي أي نتائج عملية، أي دون أن تتأثر سلوكيات وأوضاع الأفراد والجماعات المحلية، ودون أن تشهد المنظمات الاجتماعية والمدنية والنقابية والسياسية أي زخم جماهيري أو تزايد أعداد الناشطين والمشاركين بفاعلية.

كلّما وأينما وقع تنفيذ نصائح الليبرالية والشركات المتعددة الجنسية وبنوك الرأسمال العالمي، زاد عدد الفقراء إلى الضعفين في عشر سنوات ودون أيّ استثناء… وخسر الشعب معارك الغذاء أو الماء أو الطاقة زائد فقدان الكرامة. ولم تحقق الشعوب التي حوصرت في مختبرات الرأسمالية، أيّا من أهدافها في الحصول على استحقاقاتها في : العمل، الأرض، السكن، التغذية، العلاج والصحة، تعميم التعليم وكفاءته، الحريات والديمقراطية والاستقلال، العدالة الاجتماعية والحق في السلم والأمان.

حتى لا يختنق التغيير الاجتماعي في اللعبة السياسية… أو غياب البديل، وجب أن نفهم أنّ الوعي بمأساة البلاد لا يكفي لتغييرها، أي ضرورة مراجعة فكرة أن الوعي النقدي حين تمتلكه الجماهير يصبح قوة مادية قادرة على إحداث التحوّل المطلوب سواء بطليعة الحزب أو عبر هيئات وقوانين حماية الحداثة، والبحث عن طرائق أخرى ووسائل جديدة وبرامج علمية وطاقات اقتصادية مبتكرة ورافعة ثقافية قادرة على تحريك الجبال سواء جبال اللامبالاة أو جبال التحايل كسلوك لتحصيل المعاش والغشّ…

لا يجب أن ننسى أو نتجاهل أنّ هناك أنواع من الديمقراطية تكون هي أيضا ظالمة وفاسدة، ومن أجل أن لا يصبح النشاط السياسي مهرجانا خطابيا أو حفلة تزكية نفسية للأرواح الهائمة من أبناء الطبقة الوسطى وشرائحها العليا، وجبت المطالبة بالمِلكية الوطنية العامة لمصادر الثروات الإستراتيجية، برامج قوية للتعاون والبناء الاجتماعي، إعادة إصلاح وتوزيع الأراضي الزراعية، تنمية الإدارة الجماعية المحلية، مع تحمّل تبعات هذا الاختيار والوعي المسبق بتحديات هذا الطريق لأن خاصّة النهب وحلفائهم لن يتركوا ما نهبوه مجانا أو بدون صراع. السعي لإفهام الجميع وبخاصة أقلية الامتيازات أنّ طريق العدالة والتنمية بعد الثورة لا رجعة عنه وأنّه لا صفقات على حساب المجتمع الأهلي ومصالحه العليا، وعدم التغافل، حسب تجارب كثير من الشعوب، أنّه كلما قامت قيادة اجتماعية وسياسية بالتقدم نحو مصالح الناس العليا كان هناك دائما شبح انقلاب عسكري وإعلامي في الأفق… أشهر معدودات في غالب الأحيان.

مع مخاطر إحباط المجلس التأسيسي وإضرابات الأعراف أو تشجيعهم لتعطيل الحياة وإثارة النزعات الانقسامية الخ… لنستعدّ لكل الاحتمالات من “سيناريو الجزائر” إلى ما يُعبّر عنه بسيناريو حماة : تحكّم أمني ثقيل بالعاصمة، باستخدام عناصر الأجهزة الأمنية والقوات المدرعة والقوات الخاصة وقوات المجرمين والبلطجة ؛ الإصرار المتكرر على رواية الاختراق الإرهابي المسلح لأمن البلاد وشعبها ؛ عزل إعلامي كامل لمناطق الاحتجاج الرئيسية، بما في ذلك فصل هذه المناطق عن شبكة الكهرباء والماء ووسائل الاتصال ؛ محاصرة هذه المناطق أمنيا وعسكريا ؛ نشر مجرمين محترفين ومرتزقة لترويع الناس ؛ اعتقال كل من يشتبه بوجود علاقة له بحركة الاحتجاج الشعبي ؛ وإيقاع خسائر مؤلمة في أرواح وممتلكات الأهالي.

مهما كانت البلاد فقيرة الآن فالمجتمع قادر على بناء مدن جميلة وتنميتها، والفقر ليس مقابلا بالضرورة للقذارة والقبح والارتجال. نحتاج سياسة ذكية وعادلة ومفهومة مع الأرياف، تعميم الرعاية الطبية كحق عام وشامل لكل الفئات، التشجيع على الانضمام للنقابات ومجالس الأحياء والمشاركة في نشاطها، كأفضل طريقة للتعاون من أجل العدل الاجتماعي ولتنظيم الشعب لنفسه، حملة ثورية للقضاء نهائيا على شبه الأمّية، مجانية التعليم للكافة وبرنامج “مليون وجبة غذاء” للقضاء على جوع الأطفال وسوء التغذية بتوزيعها في كل المدارس، ولتحقيق الأمن الغذائي لا بدّ من استصلاح الأراضي وتوزيعها على الفلاحين وتنفيذ سياسة حكيمة للقروض لفائدة صغار المستثمرين في الزراعة، وخاصة لأمهات العائلات القروية، قروضا ميسّرة ودورات قصيرة للتكوين ومواشي ودواجن وحبوب لكي يكنّ مستقِلات ومنتِجات، ولتشجيع المشاريع الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة. (أنظر على سبيل المثال، برنامج “صفر رِبا”« Usure zéro » في نيكاراغوا بعد سنة 2007 يموّل 45 % من النيكارغويين العاملين لحسابهم الخاص. صحيح أن البنوك والأوليغارشيا المرتبطة بالسفارات اعتبرت هذا الأمر حربا عليها ولكن في المقابل التجار الصغار وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة في الصناعة والفلاحة اعتبروا هذا البرنامج مكسبا اجتماعيا هاما.)

تشجيع دينامكية السوق المغاربية بكل الطرق الممكنة (وعلاقات جنوب – جنوب بعامة) مسألة حيوية للاقتصاد وللأمن الاجتماعي، والعمل على استحداث برنامج لتبادل السلع والمنتجات دون توسّط العملات الصعبة والنقود مما يوفر أرباحا هائلة للجميع (وهذا أيضا ليس بدعة بل هناك أمثلة ناجحة كثيرة في العالم وأحدها هو برنامج ALBA في أمريكا اللاتينية حيث يقع تبادل اللوبيا واللحم والبقر النيكارغوي مثلا مقابل النفط الفينيزويلي أو تمويل الأطباء الكوبيين لمعالجة مجانية لآلاف المرضى بتجهيزات حديثة من فينيزويلا… وقد نجحت هذه التجارب برغم الحرب الإعلامية عليها، ومعروف من يقومون بتمويل تلك الحملات ولمصلحة مَن…) هل يمكننا بناء عالم آخر ؟ إنّ خيار الرأسمالية المجرم يتهاوى أو يتشقق في جميع أنحاء العالم، أمام نضال كل المقهورين، ومقاومة النساء ومحاولة تطوير شروط عملهنّ، والحركات العمالية والمزارعين، ونشطاء التحرر الوطني والثقافي.

عدم الغفلة بأن بلادنا ليست معزولة عن بقية الكوكب، فالتنمية الرأسمالية في العالم وقعت على حساب “رأسمال الطبيعة” دون أن تأخذ بالاعتبار إمكانات الطبيعة وقدراتها، هذا إضافة إلى أنها لم تأخذ في حسابها “الرأسمال البشري” الواسع وحاجياته في بلاد الجنوب بخاصة والكادحين بعامة. الليبرالية وقوة النار الإشهارية الرهيبة التي توظفها عملت على تعميم أن الاستغلال للثروات واستهلاكها اللا محدود هو القاعدة، دون حساب محدودية الطبيعة وتزايد أعداد البشر والمشاكل الكبيرة حول مقومات الحياة نفسها مثل ندرة الماء الصالح للشرب وتخريب الغابات والشجر وتلويث الهواء وإفراغ الأنهار والمحيطات والقضاء على التوازن الحيوي فيها… ولن ينقذنا وهم التكنولوجيا كما بيّنت كل الدراسات العلمية (التكنولوجيا تخضع لعدة قوانين واضحة 1ـ المنظومة التقنية لا يمكن أن تخلق المادة أو تنتجها، 2ـ المنظومة التقنية لا تخلق الطاقة، 3ـ المنظومة التقنية لا يمكن أن تغير قوانين الهندسة الكونية…) والرأسمالية لا تدفع شيئا مقابل الماء، توازن الطقس، البحار الضرورية للحياة، تفاعل أشعة الضوء، عمل النحل… ! مشاكل محدودية الأرض والطاقة والخيرات والتي لا ينفع معها الطريق الرأسمالي أبدا، هذه المشاكل صارت اليوم، لأول مرة في التاريخ، خطيرة جدا وملحّة وتهمّ كل الناس أينما كانوا.
التفكير الإنساني في محيط العالمين والفعل على المستوى المحلي، هذه هي المعادلة الصحيحة.

– 2 –

ما هي استراتيجيات الشعب للتمكّن من السلطة ؟ كيف ترى الحركات السياسية لطرائق وأدوات استلام الشعب للسلطة كلّ السلطة ؟ الرؤساء يمكن أن يسقطوا وماذا بعد ؟ التمرّد كامن في الشعوب نتيجة إحساسها التاريخي بالعدل وبالكرامة وكرهها للشرّ، ولكن شعلتها سواء الكامنة أو المتفجّرة عفويا تحتاج إلى قيادة سياسية منبثقة من المجتمع الأهلي تكون عالمة وذكيّة ومخلصة وصاحبة كاريزما… برغم أوهام أصحاب الخرافة القائلة “لا إله لا سيد لا أحزاب”. (على سبيل المثال هل كانت تنجح التنمية والمقاومة في كوبا وفينيزويلا وبوليفيا دون كاسترو وشافيز ومورالس والنخب التي معهم ؟؟ وهل كانت التنمية الشاملة تنجح في تركيا دون حزب العدالة والتنمية وأردوغان ؟؟) قيادة قادرة على هضم واستيعاب الحس الشعبي بآلامه وآماله، وترجمته بشكل منطقي ومنتظم إلى قوة فكرية تساهم في تحويله إلى هوية جماعية مبنية، جدلية أقوال وأفعال بين المجتمع الأهلي وقياداته، تساهم في بناء ديمقراطية المشاركة والتعاون والرحمة، والمحاسبة على الفعل ونتائجه، والتحالفات الواسعة… وكما أشار أحد الحكماء فالسذاجة الطفيلية بعينها هي أن تجعل من قلّة صبرك الشخصي وتسرّعك حجّة نظرية…

ما يحدد أكثر مستقبلنا ليس الهدف السياسي فقط والذي يشترك الكثير حتى في مفرداته وعناوينه، بقدر ما هو شكل وطريقة الفعل وكيفية العمل، ولاستعمال كلمة شهيرة فإنّ فهم العالم شيء إيجابي ولكن تغييره حسب متطلبات المرحلة التاريخية وقدرات الواقع هو المطلوب. إرادة تغيير الوقائع الاجتماعية والاقتصادية، والقدرة على “اتخاذ موقف” في الصراع الاجتماعي وليس فقط فيما يخص القضايا النبيلة والعامة حول الحرية، أو الصياغة الفضفاضة القائلة بتدخل الدولة والقطاع الخاص في نفس الوقت، وكأنّ ذلك يعفي من التفكير ومن الخروج من المنابر والمقاهي للفعل الميداني مع الناس وللقراءة والبحث عن حلول علمية، أو إراحة الضمير بشعارات “التنمية المستدامة” دون تفحّص التناقضات الكبيرة بين الركائز الثلاثة لهذه التنمية أي الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.

الديمقراطية الشكلية ادعاء برجوازي مزيّف سواء كان مخبأ وراء تبجّح ثوري ! أو تحت خَطابة دينية ! أو خلف قناع العلمانية والقانون ! أقلّية مركّبة تجمعها الحماسة المافيوزية والخوف من الحرية والوصاية باسم الثورة أو الشعب أو الحداثة، والرغبة في الجلوس على كراسي السلطة، وغياب الإنسان ومصالح المجتمع الأهلي العليا. الاستعراض والانتهازية وتضخم الأنا والذات الحزبية والشعور بالتميز وادعاء الثورية، والاستهتار بالآخرين وحياتهم، بل الدموية والرغبة في إبادة الخصم… حتى حديثهم عن الخصم السياسي سمعناه بمفردات “أعداء الشعب وأعداء الوطن… عدوّ… عدوّ…” ولا نرى شعاراتهم إلاّ مشاريع فاشلة ومغامرات عبثية، ناهيك عن السرقة والفساد، وللشعب مزيدا من نقمة التخلف والتهميش والتراجع.

هناك حاجة ماسة للتفكير في تطوير طريقة تساعد الناس على الخروج من تنازع أهل السياسة على القوة وإدارة الصراعات التي تنتج الغل والضغائن، والتفاهم على قواعد لإدارة الخلاف تساهم في رقيّ جميع الأطراف، وبناء تنمية جدلية بين المثالي والواقعي، بين اليسار واليمين، بين النخبة والمجتمع الأهلي. بالرغم من أن كثيرا من الناس لا يحبّون الناصحين… فإنّ النخبة في صفوف الحقوقيين، في الأحزاب السياسية ومجموعات الفايسبوك، في الجماعات المحلية والمجتمع المدني، مسؤولة عن التوتّر الحاصل وحرب النوايا الضروس، زائد السيطرة من طرف المختصين في القانون على النقاشات ومحاولة فرض “رؤية مقننة” على الحياة والآراء، وتناسيهم أننا نعيش اليوم مشروعية الثورة وليس مشروعية قوانين وأنّ الأولوية للحسّ السياسي بمشاكل المجتمع ويدور جلّها حول الكرامة والخبز والحرية وليس المشاحنات الأيديولوجية أو الهوس المرضي بالإسلام، ومسألة تعطيل الاقتصاد سواء بكثرة المطالب كيفما اتفق أو بجرائم عصابات وبقايا النظام المخلوع، مع العلم أنّ المرحلة الانتقالية هي صعبة ومشوّشة وهذا طبيعي، وفي الأزمات نرى الصدور تضيق، وتغلب العاطفة على التخطيط، وحين يصيب الكثير منا الهوس بنظرية المؤامرة نحرم أنفسنا من فرصة تاريخية بعد هذه الثورة، فرصة الاعتراف بالأخطاء ونقد الذات والتعلم من التجارب، لبناء مجتمع حديث وقويّ يشعر فيه الإنسان بالارتياح إلى وجوده في بلاد تحترمه وله فيها حقوق وعليه واجبات، لا بناء نظام يفلح في تدجين البشر والتحكم فيهم وتطبيعهم على منظومة واحدة لا ينتج عنها أيّا كانت إلاّ الكارثة والهوان. إنّ الجبال تتكون من الحصى، والأنهار من قطرات الماء، والشعوب الحرة من أفراد أحرار.

النظام المخلوع هدر كثيرا من معاني الرابطة الاجتماعية والأخلاقية، وافتقر للمشروعية الشعبية وأصدر قوانين تخدم العصابة الحاكمة وحلفائها من رجال الأعمال، وكرّس التمييز اليومي حتى في تطبيق هذه القوانين وأهدر قيم العدل والكرامة، كلّ هذا جعل البنية الاجتماعية تتآكل ممّا جعلنا نرى كيف يطفو العنف المفاجئ للسطح مع أول احتكاك بسيط، وصولا للقتل والهمجية. إنّ تفكك وتآكل النسيج الاجتماعي هو المدخل الواسع للفساد، فنظام الاستبداد لا يمكنه السيطرة إلا على مجتمع ضعيف ونفوس ضعيفة وثقافة هشة. لم نبذل بعد ما يلزم من جهود في ساحات المعارك الأساسية، ساحات الثقافة المدنية والتربية الأخلاقية والعدالة الاجتماعية ونصرة المستضعفين وبناء الشخصية السوية، التي تؤمن بحق أنّ الله هو من بيده المقادير فلا تخشى سواه، وتستطيع أن تقول كلمة الحق وترفض شهادة الزور. العمل على نقد تزييف الوعي حتى لا يتحرك الناس وهم يظنون أنهم يختارون في حين أنّ خيارهم مُحبَط برؤية مشوّهة للواقع، ومنظومة الاستبداد والفساد لا تنسى أبدا أنّ فردا واحدا يمكنه أن يكون أمّة… ومن أجل ذلك فإنّ رهانها الأساسي هو أن تعمّق في شعور الفرد أنه غير ذي قيمة، وتصنع ذلك بأدوات الخوف والتعذيب، وبوسائل الإعلام، وتغرسه بماكينة التعليم الاستبدادي وبكلّ ما يخدم هذا الرهان في التراث أو في الإرث الحيواني وبانتقاء ما يساعدها من الحداثة على تحقيق خنوع الفرد أو انزوائه.

السياسة هي البحث عن سبل الإدارة الأفضل للمجتمع وقيمه وأرزاقه، كي تتوفر للفرد أعلى درجة من تحقيق الذات ولتصل الجماعة إلى الخيرية وتحقيق المصالح العامة، والقوة في زمن الحداثة هي الدولة بامتياز، الدولة الوطنية المتحكمة في مصادر القوة والتوجيه عبر منظومة التعليم والتحكم في توزيع الموارد وأجهزة العنف المادي والرمزي ومنظومة التشريع والقانون وتكوين النخب. هناك اختلاف حول تعريف مفهوم تحقق الذات ومقومات الخيرية والمصلحة، وتنازعت المدارس حول معاني هذه الكلمات، والكل يدعي الفهم الموضوعي ليحتكر تعريفها ويحدد من خلال منظومته ومطلقاته المعرفية سبل الوصول إليها، ما بين التشارك في الملكية العامة بسلطة الدولة وقوة الحزب، إلى الفردية والتنافس الذي يستبطن رؤية الصراع والبقاء للأقوى (أي الأكثر توحشا حسب داروين) في الليبرالية الاقتصادية، والتي لم تكفّ عن محاولة تجميل واجهتها الرأسمالية بإعلانات التسامح والحرية، مرورا باللاسلطوية (الأنارشي) أي تحجيم السلطة وإطلاق الحريات وتطوير آليات الضبط والحماية من داخل التوازنات الاجتماعية، فيستطيع الأفراد الأحرار إدارة المجتمع والسوق دون حاجة لهيمنة الدولة التي يتم استبقاؤها في حدها الأدنى لتسيير الإجراءات وتسهيل دولاب العمل اليومي والإداري. (دون الحديث عن الدولة الرخوة التي تعيش في غربة عن الشارع ولا همّ لها سوى الاستبداد والفساد وإدارة الطوارئ).

تتحدث النخبة في السياسة والثورة وتتجادل، وتتنازع على الشاشات، وتتراشق بالكتابة الفايسبوكية، لكن لا نجد تجديدا في الرؤى والمفاهيم، ولا اجتهادا أو رأيا مبتكرا يدفع للتفكّر بشأن تحديات الواقع، وهو ما قد يعني أنّ النخبة السياسية لم تعد تقرأ.

أو لعل الأمر نتاج لغلبة الخطاب الأيديولوجي على الخطاب السياسي العميق ؟ الخطر لا يكمن في القوى الإسلامية أو العلمانية بل في غياب بدائل سياسية واضحة في القطاعات المختلفة، والأخطر هو فقدان الرؤية وتحديد الأولويات.

نحتاج ثقافة تكرّس التزام الفرد بالقيم المدنية من احترام للملكية العامة، وإتقان في العمل، وشفافية في التعامل مع مقومات القوة والسلطة والنفوذ، وتقبّل الاختلاف والتسامح مع الأفكار المتنوعة، والشرف في الخصومة، وتقديم المصلحة العامة على الحسابات الضيقة، والصدق في القول والأمانة في التعامل والدقة في الأداء، والرجولة والمروءة في الموقف، والتعفف عن الفواحش. الأخلاق لا تنفصل عن مصالح الناس في حياتها اليومية من ماء نظيف وأكل متوازن ومعاملات كريمة وخدمات صحية أساسية وسلامة المواطن والوطن، وعدم السكوت عن ملفات العنف الاجتماعي وكارثة أطفال الشوارع وارتباك مشهد التعليم. الوعي بالفرْق بين الثقافة السياسية وثقافة الدوائر السياسية التي تدور في حلقة السعي للسلطة والحصول على مواقع النفوذ… وكثرة الضغائن وتكرار إحياء الخلافات القديمة.

مفهوم المواطنة متعددة الثقافات يتجاوز تصوّر المواطنة الجامدة القائمة على التسوية الشكلية بين المواطنين، فالمساواة يجب أن تكون مبصرة وأن تتضمّن التنوع السياسي والمذهبي والثقافي حتى نتمكن من بناء إجماع وطني حول المصالح العليا للمجتمع الأهلي، وإقامة بنية مركّبة للانتماء الوطني ولقيم النفع العام والتمدن، وتخطيط واضح وعاقل وطويل النفس للأمن القومي.

رجال ونساء دون خطة مسبقة، دون أهداف واضحة، منقسمين من حيث نواياهم المختلفة، وعاداتهم، ومذاهبهم، ومصالحهم، يمكن لهم في المجلس التأسيسي أن يسلكوا طريقا واحدة توصلهم بتناغم إلى تحقيق أهداف الثورة. الثورة تتحقق عبر دفعات أو ضربات، دون أن يستطيع أحد أن يتحكم فيها، وتمرّ بالضرورة بوحدة العناصر والقوى التي لم تك مشاركة في سلطة النظام المخلوع، والتي تتوصل بعد تردد إلى اعتبار أن مهمة تحقيق الأمن في البلاد هو من مهام ومسؤولية الثوريين أساسا والمؤسسات التي يرونها شرعية وليس “التركيبة الأمنية وقياداتها” السابقة على الثورة، والبناء، نفسيا على الأقل، على ما فعله الشعب نفسه في الأيام التي أعقبت هروب المخلوع. (يحضرنا هنا مثال الثورة الفرنسية حيث أن المجلس التأسيسي في جلسة 4 أوت 1789 قد ألغى في 5 ساعات امتيازات نخبوية، اقتصادية وسياسية وقضائية، لنظام ما قبل الثورة، نظام امتيازات ظلّ فاعلا ومستبدا لأكثر من تسعة قرون والذي حاربه الفلاسفة ورجال التنوير دون جدوى مائة عام كاملة… وأسّس النواب بذلك دولتهم الحديثة والجمهورية الديمقراطية في جلسة ظل التاريخ يذكر أنها كانت مليئة بالآمال والمخاوف والأخوّة. طبيعي أنه برزت خلافات فيما بعد، ولكن المهم أن ليلة 4 أوت 1789 بيّنت بنور ساطع أنه في لحظة مأزق تاريخي فإن ديناميكية المجلس التأسيسي الخاصة دفعت النواب لتبني مواقف وقرارات كانوا قبل أسابيع يرون أنها غير قابلة للتحقق بل وكثير منهم كان يعارضها.)

البطالة تتهدد المزيد والمزيد من الشباب إذا لم نحدث ثورة اقتصادية بعد الثورة، وإذا لم ننجح في تمدين النقاش والفعل لدى مختلف مكوّنات المجتمع السياسي والخروج من الحلقة القاتلة لمصطلحات العدوّ والمؤامرة. انحدار الاقتصاد أو تعطيله، زيادة الهوة والفوارق الاجتماعية، عدم الثقة في المؤسسات… هذه عوامل انفجار اجتماعي كبير قد لا يبقي على شيء، فالحذر كل الحذر من الخطأ الإستراتيجي في تحديد أولويات المرحلة والأهمية القصوى لعامل الزمن في تعيين الأهداف، وضرورة مواجهة الذين يريدون بدعاوى برّاقة أن يحيدوا بالثورة عن مقاصدها التي خرج الشعب من أجل تحقيقها أو الاستشهاد…

– 3 –

أوّل كلمة نزلت في القرآن كانت “اقرأ”، ومفتاح التغيير في مجتمعنا هو الجمع بين القراءتين، قراءة الوحي وقراءة العالم، وشرط التقدم هو “اعملوا” : مدرسة الرأي والرأي الآخر وتسامح الزهد، حضارة “اقرأ” ومجتمع الكتاب، السلم للناس كافة، العمران في الأرض وعدم الإفساد فيها.

القيم المركزية في مجتمعنا المسلم هي العدل والرحمة وكرامة الحرية، وهي في نفس الوقت مطالب الثورة الأساسية لاسترجاع إنسانيتنا التي فقدناها، مع الوعي النقدي بأنّ نقطة البدء في سباق الحياة ليست واحدة من حيث الفقر والغنى والموقع الاجتماعي والثقافة ووضع الفرد في أغلبية أو أقلية، جغرافية كانت أم مذهبية. الوسطية هي العدل، القيمة الوسط بين الحرية والمساواة. قيمة الرحمة، التي تم حصرها في خطاب الوعظ والأخلاق وتجاهلها في الفكر والعمل السياسي أي في ساحة المصالح والتدافع والقوة والأمر والنهي والحكم، واليوم نحن في حاجة لاستعادة هذه القيم بقوة في تفكيرنا السياسي الإنساني وكمدخل لحقوق الأقليات والحقوق الثقافية وحقوق المرأة واحترام الطبيعة والتوازن البيئي. الحرية لا يمكن أن تتحقق دون الأخذ في الاعتبار الفروق وليس المشتركات فقط، ومن هنا الحاجة لمفهوم مركب للمساواة ليس فقط للأفراد بل للجماعات الثقافية والمحلية من خلال المواطنة، وقيمة التعددية الثقافية، والحرية للجميع وليس للرجال دون النساء، واعتبار الحق البيئي الذي يحترم الطبيعة ويسعى للحفاظ عليها وليس الهيمنة عليها كما أرادت الحداثة، واحترام حقوق شعوب الجنوب التي تدفع ثمن التقدم دون أن تشارك في منافعه، ونقد تاريخ الاستعمار فتقدم الغرب تأسس أيضا على استغلال الشعوب الأخرى، مع الوعي الإنساني المتزايد بقيمة رأس المال الأخلاقي والاجتماعي، ومجابهة تهديدات ومخاطر انتشار قيم السوق والربح المالي وتآكل العلاقات الإنسانية في ظل عولمة الرأسمالية الشرسة وطغيان ثقافة الاستهلاك، ليس للسلع فحسب بل للأرض وللإنسان، تحت وقع أدلوجة نهاية التاريخ.

ملايين من البشر في بلادنا يعانون حول خط الفقر، فوقه قليلا أو تحته أو في القاع، خط الجوع وخط الإهانة، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمالية المتلاحقة نتيجة النظام الرأسمالي العالمي، لا تزيد خط الفصل هذا إلا ظلما وقهرا أكثر شدّة وعدوانا يوما بعد يوم، وليلة تلو الليلة، ظلمات من فوقها ظلمات. حياة ملايين من البشر مهددة يوميا بفعل جريمة المضاربة المالية فقط… وأخرى نتيجة تحويل ملايين الهكتارات الصالحة للفلاحة إلى “زراعة البيوكاربور”، ومليارات من البشر يكاد يقضي عليها الجوع والعطش نتيجة احتكار ونهب الشركات المتعددة الجنسية والسماسرة المحليين.

التفاوت في الانتفاع بالثروات بين الطبقة الوسطى المدينية وبين الأرياف وأحزمة الفقر حول المدن، زائد التفاوت الفاحش بين المجتمع الأهلي كله وبين أقلية النهب والفساد، زائد الاستغلال المرعب لبلاد الجنوب من طرف الشركات الغربية والمديونية، حلقات تضغط بعضها على بعض وتدهس الناس أكثر فأكثر، ونفس الغضب يهدر في كل جهات العالم.

تونس اليوم منهكة بسبب ما ارتكبه النظام المخلوع من نهب وفساد، وبسبب محاولات بقايا النظام لإدامة المؤقت والانفلات الأمني وتعطيل الاقتصاد، وبسبب هشاشة المعارضة والمحاولات الأجنبية لتحريف أولوياتها في اتجاه التنابز والعنف الأفقي بين مكوّناتها، وبسبب ضعف الثقافة السياسية عند عامة الناس وارتباك البنية الاجتماعية وغياب تاريخ ديمقراطي ومؤسسات مدنية قوية، إلا أنه لا خيار أمام الشعب سوى الإصرار على تحقيق مطالب الثورة واستلام السلطة كلّ السلطة والوفاء لدماء الشهداء والجرحى، والاستعداد للدفاع عن الحرية ضدّ كل عودة إلى الوراء.

كيف نستطيع توفير الأكل والماء الصالح للشرب والطاقة والخدمات الأساسية في الصحة والتعليم والتنقل والثقافة، لكافة أبناء وبنات المجتمع الأهلي، كيف نحقق الكرامة ونضمن حق التبادل السلمي للسلطة، وكيف نساهم مع العالمين في الحفاظ على البيئة والخيرات وإقامة العدل والميزان ؟

هذه الأسئلة نواجه بها أنفسنا ونطرحها أمام المواطنين وشباب الثورة ونرميها في وجه القلوب الباردة.