يمثل التصويت حقا أساسياً للمواطنين في كل الديمقراطيات، كما يمثل بالتوازي مسؤولية منوطة بعهدة المسؤولين الذين يتم انتخابهم. هؤلاء المسؤولون مدعوون للتصويت على مجموعة من القضايا، بمقتضى توكيلنا لهم كمواطنين للتعبير عن مواقفنا منها.

في الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي، منح المواطنون التونسيون نوابهم هذا التوكيل، في انتخابات نزيهة وشفافة جرت في اللحظات الفاصلة بين تبدد ظلمة الديكتاتورية وبزوغ فجر الديمقراطية. انتخابات المجلس التأسيسي والإصلاحات التي يفترض أن يقوم بها بشرت بدولة جديدة يحكمها القانون وفقاً لإرادة الشعب. هذا المجلس المتكون من  217نائبا، ينحدرون من مختلف الأوساط، عقد جلسته الافتتاحيية في الثاني والعشرين من نوفمبر الماضي.

هناك في المجلس، في قصر باردو، الجميع متساوون : شخص واحد، نائب واحد، صوت واحد. إذ أن المجلس صوت وصادق في نظامه الداخلي على فصل خاص يوضح عملية التصويت ويؤكد على قداستها في سياق أعمال المجلس. حيث ينص القسم الرابع – الفصل 94 على أن “التصويت شخصي ولا يصح بالنيابة أو بالمراسلة”.

رغم ذلك، ومنذ الثالث من ماي، راجت على شبكة الانترنت مقاطع فيديو تظهر نوابنا المنتخبين الموكلين يغشون ويتلاعبون بأصواتهم وأصوات غيرهم، مزورين بذلك نتائج التصويت. من هذه المقاطع إثنان انتشرا بسرعة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فايسبوك وتويتر، يظهران عضوي المجلس عبد المنعم كرير (منشق عن العريضة) وإياد الدهماني (الحزب الديمقراطي التقدمي) يصوتان نيابة عن نائبين كانا متغيبين عند التصويت. المقطعان أظهرا العضوين متلبسين، ولا مجال للتشكيك في صحة اللقطتين اللتين سجلتا على ما يبدو بواسطة هاتف نقال أو جهاز تسجيل محمول آخر.

من الجائز أن نصدق العضوين حين صرحا أنهما صوتا “بالنيابة” عن زميليهما (لا اغتناما لفرصة تغيب بعض الأعضاء للتصويت مرتين أو ثلاثا)، إلا أن التصويت بالنيابة مدان أيضا حسب القانون الداخلي الذي صوتا عليه بنفسيهما، فنص الفصل 94 لا يضع مجالا للتأويل .والغريب أن النظام الداخلي للمجلس التأسيسي التونسي لا يحدد أية تدابير يمكن اتخاذها لمعاقبة هذه التجاوزات.

في الثالث من ماي، أي في نفس اليوم الذي سجلت فيه تجاوزات كرير والدهماني، كنت متواجدة في المجلس التأسيسي وتحدثت مع بعض أعضاء المجلس عن عدم إمكانية تتبع أصوات النواب في مختلف عمليات التصويت، حتى أن إحدى عمليات التصويت في اليوم السابق شهدت مشاركة 174 عضواً، في حين أن حوالي 130 عضواً فقط كانوا متواجدين* في القاعة. تحدثت إلى  السيد العربي عبيد، النائب الثاني لرئيس المجلس، عن التفاوت بين عدد الحاضرين وعدد المصوتين وعن شكي في شرعية هذا التصويت. في البداية صدمه كلامي ولم يكد يصدقني. أصررت على إلغاء تصويت اليوم السابق وإعادته برفع الأيدي، بما أن نظام التصويت الإلكتروني لا يكشف تصويت الأعضاء بصفة فردية إلى حد الآن، ووعدني برفع المسألة إلى اجتماع مكتب المجلس الذي انعقد مباشرة إثر محادثتنا (وهو يضم، علاوة عنه، رئيس المجلس مصطفى بن جعفر ونائبته الأولى محرزية العبيدي وأعضاء آخرين). في الأثناء، تحدثت مع النواب أزاد بادي وسليم بن عبد السلام ونادية شعبان وآخرين بخصوص نفس الإشكال. وهنا تجدر الإشارة إلى أن النائبة نادية شعبان كانت إحدى أعضاء المجلس القلائل الذين عبروا، من خلال تويتر، عن استنكارهم لهذه الممارسات المشينة.

وخلال عملية تصويت جرت في اليوم الموالي، أثيرت شكوك مماثلة من قبل النائبين أزاد بادي (منشق عن المؤتمر من أجل الجمهورية، حاليا عضو في حزب المؤتمر الديمقراطي المستقل) والصحبي عتيق (النهضة). وفي تصويت آخر جرى في نفس اليوم، راودت نفس الشكوك رئيس المجلس مصطفى بن جعفر الذي قرر إعادة التصويت المذكور. واقترح عندها النائب الفرجاني دغمان، رئيس لجنة المالية، احتساب عدد النواب الحاضرين برفع الأيدي. وبالفعل، بين الاحتساب أن بعض أعضاء المجلس صوتوا مرتين (أو أكثر) نيابة عن زملاء كانوا متغيبين.

بعد بضعة أيام، أطلق النائب أزاد بادي عريضة تدعو إلى مزيد من الشفافية في المجلس التأسيسي، بما في ذلك إمكانية تتبع أصوات النواب في مختلف عمليات التصويت. وقد اتصلت بالنائب أزاد بادي لطلب نسخة من العريضة ووعد أن يرسل إلي نسخة تحمل أسماء الموقعين حالما يتمكن من ذلك. وسيقع إلحاق رابط العريضة بهذا المقال إبان حصولنا عليها.

إن أكثر ما يدعو إلى القلق في هذه القضية هو غياب رد فعل رسمي من العضوين المعنيين (ربما خجلاً بعد انتشار مقاطع الفيديو)، غير أنهما ليسا المخالفين الوحيدين أثناء عملية التصويت. ورغم ذلك، لم يؤد الإعلام واجبه في تغطية هذه التجاوزات على الوجه الأكمل. لقد تمت المصادقة على ميزانية الدولة التونسية من خلال سلسلة من عمليات التصويت الباطلة، وبالتالي فإن عملية توزيع الموارد التي تعتمد عليها حياة التونسيين بأكملها لم تتم وفقاً لإرادة الشعب. لقد تمت خيانة ثقة الناخب التونسي. ولا أدري كيف أمكن لوسائل الإعلام والمختصين في القانون ومنظمات المجتمع المدني ألا تقوم بأية حركة لمقاومة هذه الأعمال المشينة.

ابتداء من الخامس من ماي، بدأت مبادرة OpenGovTN التفكير في حملة جديدة أطلق عليها إسم #حل2 تطالب ب :

1. إمكانية تتبع أصوات نواب المجلس،
2. نشر جميع محاضر اجتماعات اللجان.

هذه المجموعة هي الوحيدة التي ردت الفعل بشكل جدي على عمليات الغش في التصويت إلى حد الآن، إذ التقت السيد مصطفى بن جعفر وحصلت منه على رد حيث وعد بالاستجابة لكلا المطلبين قبل موفى شهر ماي. وقد هددت مجموعة OpenGovTN باللجوء إلى القضاء في صورة عدم حصول تقدم رسمي.

أشعر بالخجل لمجرد الحديث عن هذه التجاوزات. لا أزال أعاني من الصدمة النفسية والمرارة وخيبة الأمل، ويؤلمني أن أكتب أن عددا من أعضاء المجلس التأسيسي يغشون في عمليات التصويت ولا يقدرون المسؤوليات المنوطة بعهدتهم. كل عضو يرتكب الغش في التصويت يخون ثقة آلاف التونسيين الذين يمثلهم. إن هذه الممارسات هي التي قد تحرم التونسيين من أن يشهدوا يوماً بزوغ فجر الديمقراطية.

ترجمه للعربية : أحمد المراكشي