أستغل قرب إهلال شهر رمضان المقدس لأرسل بهذه الألوكة لك ولكل من عاضدك أو نازعك الحكم حتى يغتنم الكل الفرصة التي توفرها هذه الفترة من السنة، وهي عادة مما يجب أن تسكن فيه العداوات وتنمو فيه الفضائل، فتكون فرصة لعودة الوعي ومثوبة للرشد.
إن الساحة السياسية والثقافية التونسية لتزخر متذ نجاح الثوة بجدليات وحوارات حول الإسلام ومدى قابليته لرفع تحديات العصر بالتزامه لمقاصد الشريعة. هذا وإن كان النقاش، سابقا، عقيما لانعدام حرية الفكر، فهو الآن من الإفادة والثراء بمكان لتنوع الآراء واختلاف المشارب والمعتقدات.
ولاشك أن مبدأ ضرورة إبداء الرأي للتذكير ببعض المباديء التي لا يمكن تجاهلها لهو مما يلزمنا كلنا حتى لا يكون نقاشنا فضفاضا، فلا نصنع صنيع تلك التي تنقض ما غزلت طيلة نهارها كله تحت جناح ظلام ليلها، وذلك بأن ننير ظلمة ليلنا الدامس بنور أفكار نهارنا، فيكون يومنا بأكمله، و لا يكتمل إلا بليله ونهاره، ساطعا كله.
فمن هذا القبيل هذه الرسالة التي هي مشاركة بسيطة في ذاك النشاط الأساس لتغذيته بأصول تبني لتبادل سليم وفعال للآراء لأجل أن لا يكون في نطاق حلقة للأفكار مفرغة، حتى وإن أوهمنا أو وهمنا بأنها حلقة فضلى، فينتهي الأمر إلى جدل عقيم بتشبث كل طرف فيه برأي هو في بعده عن الحقيقة أنأى من السماء عن الأرض أو هو في متنه مجرد تشبت بشكليات النقاش دون العبور إلي لب الحوار الحق الذي هو أساسا تبادل وأخد فعطاء.
أيها السياسي المحنك أو المتحنك،
إنك أدرى مني بما يمتاز به التونسي من ذكاء وفطنة مما جعله على مرور الزمن يتحلى بذاك الحس السياسي البارع الذي مكنه ويمكنه من التأقلم مع كل المستجدات على محيطه، حتى لو أدى به الأمر أحيانا إلى الركون للوسن الثقيل يستمر حتى وقت تحدده المقادير فيفيق فجأة كأنشط ما يكون الحارص على تحقيق أنبل المساعي مادامت الظروف سانحة والثقة في قدرته على النجاح متوفرة.
لقد ضرب القدر اليوم لتونسنا العزيزة موعدا مع التاريخ ولا نجاح لهذا الموعد بتجاهل من وُجهت له الدعوة، وهو الشعب، إذ الشعب هو الذي انقلب على النظام الجائر، وهو القادر على إتمام ثورته على النظام القديم بثورة أهم وأعظم على عقلية ذلك النظام التي لا تزال متغلغلة في عقول العديد من رموزه الطامحة لاستعادة ما ضاع منها أو تلك التي، بالرغم من جدتها، تسعى دون أن تشعر إلى محاكاة من سبقها في الحكم كأنها المثال الذي يحتذى والقدوة التي لا مناص من اقتفاء أثرها.
خذ لذلك مثلا الحديث عن هيبة الدولة سواء أكان من أفواه من مضى من السياسيين أو من أتى بعده، وكأن التاريخ يأبى إلا أن يعيد نفسه.
إن هيبة الدولة بهيبة الشعب، وهيبة الشعب اليوم بإعطائه حقوقه – ولونكتفي في ذلك بأقلها في البداية -، وأيضا الثقة به في احترام تطلعاته.
إن شعبنا لواع بمقتضيات العصر، ولا ينتظر ممن يريد الحظوة لحكمه، لا للتبجح بل لخدمته حقا، إلا الأخذ بأوكد متطلباته. وهل اليوم أعلى وأوكد من ذينك العملين الرمزيين الذان يتمثلان في قيل الحقيقة كل الحقيقة حول ما جرى ويجري بالبلاد منذ انقلابها الشعبي على الظلم والمطالبة باسم الشعب بحرية تنقل التونسي خارج حدوده كمكسب وطني لا مناص من المطالبة به، مبدئيا على الأقل؟
ولا شك أن ذلك يقتصي منا ثورة أخرى تكون هذه المرة على النفس للخلاص مما علق بها من رواسب عهد الانحطاط وتصرفاته المشينة.
أيها السياسي الحاكم أو الساعي إلي الحكم،
اعمل على إنقاذ البلاد من الضلال ولتكن حجة الإسلام ما بعد الحداثي بإعادة الدين الإسلامي بهذه الربوع إلى صفائه الأول الذي جعله أروع مثل لتك الثورة الروحية الأزلية على كل شوائب النفس التي لا تخلو منها العصور.
لتأخذ، إذا أردت، بنظرية الأبدال الراسخة في عاداتنا الطيبة، ومن العادات ما ضاهى أعلى تجليات الحكمة الإنسانية. فأنت تعلم ولا شك أن هذه النظرية الإسلامية تقول بوجود قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم، فلا يموت أحدهم إلا قام مكانه آخر من سائر الناس، إذ هم بمثابة أبدال الأنبياء وخلفائهم لما جعل الله على أفواهم من كلمات الحق على الدوام. فكن منهم أو انتهج نهجهم أو استمع على الأقل إلى ما يمكن أن يكون منهم إن لم تكن أنت منهم؛ فالدين النصيحة!
إنك لا ترى حقيقة هذا الشعب، وهي تعلقه بإسلام تنويري ليس فيه تكفير ولا تدنيس لقداسة دينية حقة هي في مكنون قلبه عزيزة مكرمة، فلا تطالها هلوسة مخبول أو تصرفات هوجاء تخلط الدر بالبعير لضيق عقول تدعي العودة إلى السلف الصالح وهو منها براء إذ تنقض صرحه من الأساس بتصرفاتها الخرقاء.
فالسلفية الحقة هي الأخذ بروح الدين الإسلامي؛ وروح ديننا الحنيف هي العقلانية والكونية، وهما اليوم في الأخذ أولا وقبل كل شيء بالتسامح واحترام الآخر الذان يعتبرهما الإسلام من أعظم دلالات الجهاد الأكبر على النفس، وقد حث عليه بلا هوادة.
إن الرسالة المحمدية لهي الضامن أن لا تعبد الأصنام بعدها، إلا أن عمل الشيطان لا ينقطع إلى قيام الساعة، وهو لا ينجح في إعادة عبادة الأصنام على هذه البسيطة، بل أقسى ما يصل إليه أن يوحي بإقامة أصنام معنوية في أذهاننا ينجح في حمل البعض من بني آدم على رفعها وذلك من قبل الخفة والعجلة اللتان تميزان الإنسان. والمؤسف أن هذه الأصنام تأخذ أحيانا، بل غالبا، هيئة المباديء والقيم كالسراب الخلب، تبدو كأنها من أفضل الفضائل وأوكد الحسنات وهي إلى الرذائل أقرب؛ بل كم كبير ضررها على روح الإسلام السمحة، إذ هدفها طمس نوره من طرف من يدعى السير على هديه!
ولا شك أن هذا من تبليس إبليس وخداعه لبني آدم؛ فمن القواصم لا العواصم أن نرى من يدعي خلافة من اجتباه الله بالورع والذكاء والعدل للذب عن دينه، وعنيت به المناضل الشيخ الجليل ابن تيمية، ينقض بفعله وبقوله الصرح المشيد الذي أقامه هذا المجاهد الحقيقي لأجل إسلام عادل، يتميز بعقلانية تعاليمه وكونيتها.
فالسلفية كما نراها اليوم في بلاد الإسلام، ومنها بلدنا، لا تمت بصلة إلى روح نضال ابن تيمية الذي تدعي الانتماء إلى مدرسته؛ بل هي تسيء إليه أشد الإساءة.
وليس من بد هنا التأكيد أن من يمثل حقا فكر ونضال زعيم السلفية الأصيل في مبدأ التمسك بسنة السلف الصالح لهم صوفية الحقائق؛ وقد أكد ابن تيمية نفسه، كما سبقه إلى ذلك شيخه ابن حنبل، على القيمة العلمية والدينية الفائقة لأهل التصوف، أمثال الجنيد والمحاسبي وغيرهما. فهم اليوم حقا الوجهاء السلفيون الحقيقيون العاملون على صفاء هذا الدين السمح في الدنيا والآخرة، المقربون إلى الله وأوليائه الحقيقيين.
فلتعمل، يا مبارك، على وعظ سلفيي اليوم، وهم أقرب إليك من حبل الوريد، بما جاء في تعاليم منظريهم، وليعودوا إلى الجادة، فالأمر ليس بالهين إذ هم بما يعملون ولا يشعرون بتهافته لعلى قدر عظيم من الإساءة للإسلام الذي يبقى أبد الدهر ذلك الدين المتعالي، يعلو ولا يُعلى عليه.
ولنأخذ مثالا بسيطا على ذلك، ننتقيه من الواقع اليومي المعاش ويخص الآذان. لقد تفشت عادة إقامة الصلاة باستعمال مكبرات الصوت. والسلفي اليوم لا يرى حرجا في ذلك، بل ويقر مثل هذا الاستعمال للتقنيات الحديثة رغم ما فيها من مضرة، حيث لا يخفى أن مكبرات الصوت، خاصة عندما تكثر المساجد في حي ما، من شأنها إزعاج مريض أو صغير بحاجة للراحة في أولى ساعات الفجر مثلا.
أما السلفي الحق، أي الصوفي، فمن شأنه في مثل هذه المسألة أن يراعي روح الدين الإسلامي ومقاصده، إذ احترام راحة الغير من مبادى الإسلام الأساسية، وفي نفس الوقت يحترم الأصول والسلف الصالح فيقرر إلغاء إستعمال مكبرات الصوت والاكتفاء بالصوت المجرد كما دأب عليه السلف الصالح، لأن العبرة في الآذان ليس النداء للصلاة، فمن يحرص عليها يبادر إلى الجامع أو إلى مصلاه قبل سماع النداء، بل العبرة كل العبرة في إقامة الصلاة، والإقامة لا تحتاج إلى جلبة زائدة هي أقرب إلى المراءات منها إلى القنوت لله والخشوع.
إن مثل هذه النظرة الجريئة لإقامة الصلاة اليوم التي تترك مكبرات الصوت جانبا باسم الفهم السليم للإسلام لهي سلفية حقة في احترامها لسنة السلف الصالح ومصالح المؤمنين وغير المؤمنين ممن يعيشون في كنف الإسلام؛ وهي ممكنة تمام الإمكان إذا كنا حقا سلفيين بالمعنى الصوفي للكلمة.
هذا رمضان على الأبواب، ولعل مثل هذا الشهر الكريم أفضل فرصة لك، يا مبارك، للتدليل على صدق نواياك الديمقراطية في الحث على أن يكون بحق شهر العبادة ومساءلة الذات عن مدى احترامها لمباديء الدين الأسلامي وتقديس أعزها، ألا وهي احترام الآخر في حريته وحرية مخالفته لنا.
فليس الإسلام دين غلو في العبادة كما ليس شهر الصوم دين التخمة على موائد الإفطار وفساد الأخلاق طيلة أيام الصوم! إنه الفرصة السانحة لإعطاء المثل الطيب، وفي ذلك أعظم خدمة يسديها لدينه كل مسلم حق يسعى لإعلاء رسالته وترضية ربه.
فهلا سعيت، يا مبارك، وأنت الراعي لمصحلة الشعب، للعمل على أن يكون رمضان هذه السنة رمضان الرحمة والمحبة بحق، فلا تنازع ولا تباغض بين أبناء هذا البلد بكل مكوناته، يجمعهم حبه ولا تفرقه اختلافاتهم؛ فظلال الإسلام وافرة تضمن الأمن والسلام لكل من أظلته !
iThere are no comments
Add yours