المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

إن ما يحدث هذه الأيام على الساحة العربية الإسلامية يؤشر على اشتداد وتيرة الانزلاق الخطير الذي تعرفه منطقتنا نحو التزمت والتفسخ باسم الدين الحنيف، مما يضع حزب النهضة الحاكم أمام مسؤولياته في اختيار سياسته التي تأرجحت حتى يومنا هذا بين التفتح على الديمقراطية الحقة والتمسك بمرجعية إسلامية ظلامية. فحزب النهضة اعتمد إلى الآن سياسة من يقدم رجلا إلى الأمام ويؤخر الأخرى إلى الوراء، ولم يعد له المجال للتمادي في هذا النمط من السياسة الذي من شأنه أن يذهب بالأخضر واليابس ببلادنا.

لقد حان الوقت بتحدياته الجمة على أن يقفحزب الشيخ الغنوشي على رجليه معا أو، على الأقل، أن يختار على أي منهما يعتمد : على الرجل الديمقراطية أو تلك الرجل التي يحافظ عليها بين جموع السلفية الظلامية.

إن السلفية اليوم كما نراها في شوارعنا ليست بالسلفية الحقة التي تعني العودة إلى مثال سلفنا الصالح، لأن هذا السلف ما كان يوما متزمتا وظلاميا، بل أخلاقه كانت التسامح والعفو والمغفرة حتى على الإساءة وإن جارت فكانت من الظلم والتعسف. فالمس الحق بقداسة أخلاق التسامح في الإسلام هو المساس بتسامحه وعدم التجافي عن كل ما فيه إفساد في الأرض، وإن كان بسبب إفساد أكبر؛ إذ لا إصلاح البتة بإفساد في الإسلام الحق!

إن السلفية الحقة اليوم لهي ما عرفناه في تعاليم الصوفية الأوائل، فقط أعطوا للإسلام حق قدره وأعلوا رسالته وأحكام دعوته التنويرية. فليختر حزب النهضة صفه وليقطع علنا بالحزم الكافي والفعل الشافي كل صلة مشبوهة مع من يشين مباديء الدين الإسلامي ويشوه صورة تونس الجديدة، علاوة على إفساد سياسة حكامها وإحباط إثمارها لأجل صالح البلاد ومواطنيها!

1 – عود على بدء :

لعل ما يبني للسلفية صرحا مشيدا في النفوس هو انعدام مثل ذلك الصرح في الحاضر. لذا، فليس من النوك القول أنه إذا تراءت إمكانية تشييده، تضاءلت حظوظ الهرع إلى أحضان السلفية، وإلا انعدمت الهمة والفتوة، وهما الأس فيها ولب اللباب منها.

فقد ظهر السلفيون في فترة انهيار حضارة الإسلام، فكان وازعهم، وهو العودة إلى أمجاد الماضي، من باب التعلق بما هو أغلى بعد النفس وحتى قبلها، ألا هو الدين بصفته الذات نفسها. فلا مبالغة إن قلنا أن ظهور السلفية كان صرخة فزع من التلاشي والضياع وردة فعل من يرفض الموت، متعلقا بالحياة. فهي إذا في بدايتها تعلق بالحاضر، وهو البقاء، أكثر منها بالماضي، لأنها رغبة في الحياة ورفض للزوال.

أما وقد أصبحت بعد ذلك، واليوم خاصة، هذا النزوع المنكر إلى الماضي السحيق، فذلك لا يعدو أن يكون أيضا من باب الدفاع عن النفس ورفض الآخر، هذا الآخر الذي يراه السلفي ينسف ماضيه بما فيه من ثراء مما يدفعه إلى تمجيد الماضي، كل الماضي، حتى وإن أدى ذلك إلى تعمد التصرف الأحمق من باب التحدي والإثارة. كل ذلك من أجل التعلق بمثل وأخلاق عالية، عُدّت أعلى ما يوجد.

ونحن إذ تفرسنا في الواقع الإسلامي وتمعنا في المتخيل العربي، نجد أن ممن رفع عاليا مثل تلك الأخلاقية هم بلا منازع أهل التصوف حيث جعلوا منها رايتهم بالإضافة إلى تعلقهم المتين بالقرآن والسنة. فكان لهم في ذلك السبق وكانت السلفية من اللاحقين.

ونحن طبعا في حديثنا هذا عن الصوفية لا نعرض إلى المشعوذين وأرباب التحيل، بل نتحدث عن أعلام الصوفية من فقهاء أجلاء كالجنيد والغزالي وعبد القادر الجزائري مثلا.

فكل مقاربة بين الإثنين تؤدي بالتأكيد إلى القول أن التعلق بالإسلام أكبر وأصدق بالنسبة للصوفية التي هي أولا وقبل كل شيء مجاهدة للنفس كبرى لبلوغ الصفاء، فهي حكر على صفوة المؤمنين بالله وعلى رأسهم المسلم بالمعنى الذي جاء به الأثر : المسلم من سلم الناس من يده ولسانه.

إلا أن الفارق بين الصوفي والسلفي في تعلق كل واحد منهما بالدين هو كتعلق الإنسان بالحياة، يرى الأول أنها تنتهي مع الموت ولا تكون إلا مع حياة البدن فتجهل الروح ومستلزماتها، بينما يرى الثاني الروح التي لا تموت مع البدن والتي بها قوام حياة الجسم المادي، بل هي أساس كل شيء.

فالإسلام، ونراه للإيمان بمثابة الوضوء للصلاة، هو أولا وقبل كل شيء في تعاطي الخير ومحبة الغير على هناته قبل أن يكون شعائر وعبادات؛ فأليس الإسلام دين ومعاملات؟ أليست المعاملات فيه أهم من العبادات؟ ذلك أن العبادة مدارها علاقة العبد بالله، لا نظر فيها إلا لله، أما المعاملات فهي تخص البشر بعضهم ببعض، ولذلك أهميتها قصوى، بل هي أكثر أهمية من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج بالرغم من أن ذلك يعتبر من بين القواعد الإسلامية الأساسية. وجمهور المسلمين على هذا الرأي وإن لم ينعدم الخلاف بين الشاذ منهم عن سنة الرسول.

ولاغرو أن الهمة للنشاط والابداع تتطلب وجود الحافز النفساني أولا ثم البدني والمادي ثانيا ثم الإطار الأمثل حتى تأخذ حظها فترتفع من مجرد الرغبة والأمل إلى خير العمل والنشاط الدؤوب. ولاشك أن اليوم، في بلادنا، توفرت كل هذه العوامل دفعة واحدة بالنقلة النوعية التي سمحت بها ثورة الشعب _ أو ما أسميته بالإنقلاب الشعبي _ على نظام الإستبداد وكبح الحريات.

لذا، ليس من باب التبجح بهذه الثورة أو من باب البلاهة التأكيد على أن الفرصة سانحة اليوم في تونس للارتقاء بالممارسة الاسلامية إلى تعامل أسمى يأخذ بظاهر الدين وباطنه، سواء بكليهما أو على حدة، وذلك بكل حرية ومسؤولية، فينجح في ذلك بالارتفاع بالإسلام إلى المرتبة التي تليق به كدين وكحضارة، إذ لا ينحصر أخد المسلم منه بحرفه بل يرتوي من نصه ومن روحه حيث يكون ديدنه في ذلك مقاصد الشريعة التي تتلخص، كما قلنا في مقالات سابقة، في كونية الإسلام وعلميته.

فبهذه الطريقة، وبها وحدها، نضمن للإسلام في عصر ما بعد الحداثة الذي نحن فيه محوريته في التاريخ البشري بمثابة العهد الأخير من الله إلى عباده بعد العهد القديم والعهد الحديث (اليهودية والمسيحية) ونعترف بحداثيته السابقة لأوانها، وذلك ما أسميته بالتراجع الحداثي Rétromodernité في مصطلح جديد يفرضه مصطلح ما بعد الحداثة. ولا شك أن مثل هذا المنظور لما تعتبره السلفية كركيزة أساسية لمفهومها الديني يجدد إطارها المعرفي وكامل فلسفتها دون المساس بلب لبابها ألا وهو الاعتراف بعلوية الدين الإسلامي والسنة المحمدية.

إلا أن الطريف في توجهنا هذا هو أننا لا نفعل ذلك على طريقة السلفية الحالية التي أخطأت في مفهوم التوحيد الإسلامي إذ أفاضته على كل شيء حتى على الآراء والممارسات الدينية، بينما التوحيد في الإسلام لا يتعلق إلا بتوحيد الإلاه. أما سائر مظاهر الدين، فالمبدأ الذي يسّيرها في الإسلام هو حرية الرأي وطلاقة التأويل؛ ولعل نزول القرآن على سبعة أحرف لأكبر دليل على هذه الحرية التي لا غنى عنها في الإسلام.

نعم، لقد سادت في التاريخ الإسلامي نزعة التأويل الأوحد للقرآن والقراءة المثلى، وأبطلت تلك الحرية التي تعلق بها المسلمون الأوائل بما فيهم صفوة الصحابة من تعدد القراءات والمصاحف، وكان ذلك أساسا من منطلق سياسي لا ديني. ولا نشك أن هذا الذي تم خاصة في عهد الخليفة الراشد الثالث كان ضروريا لما وصلت إليه حالة الإسلام آنذاك من الخلاف والإختلاف مما أذن بالفتنة الكبرى التي لم يرتق صدعها مثل ذلك العمل، بل لعله بدوره كان في إذكائها أدهى وأنكى. أما اليوم والإسلام بخلاف الأديان الكتابية الأخرى في قلوب الناس، فلا شك أن العودة إلى روحه الأصلية والاعتراف بتعدد منابع الايمان به وتنوع تجلياتها لا يزيده إلا منعة وقوة.

2 – نحو بدء بعد بدء !

إن التمسك بمفهوم السلفية كما نعرفه إلى اليوم، أي وحدة المفهوم الديني ومرجعية سلطة السلف العليا، لهو تمسك بتقليد غريب عن الدين الإسلامي حيث تعود أصوله إلى اليهودية والمسيحية وكانتا سباقتين إلى فرض مفهوم خاطيء لدين موسى وعيسى لإقامة نفوذ رجال الدين من أحبار وربيين وقساوسة وباباوات.

وقد عمل منظرو السلفية المسلمون على استنساخ مثل هذا التوجه، فوحدوا مفهوم الدين حول سلطة مرجعية لا وجود لها في دين قوامه العلاقة المباشرة بين الله وعبده، فجعلوا لهذه السلطة حق التكفير بينما يبقى الله عند المسلم الأصيل السلطة العليا التي لها وحدها حق العقاب والثواب وحتى الغفران لأدهى وأكبر الذنوب، إذ الله أساسا غفور رحيم!

وهكذا، وبدون أن تشعر، تنكرت السلفية لدينها وأدخلت فيه ما ليس منه وتطاولت على الله حيث جهلت أعظم مميزاته، وذلك كله من باب التلبيس والتقليد لما حاكته من الدينين اليهودي والمسيحي وقد أساء أهلهما إليهما حبا للرئاسة والنفوذ.

فلنعد للإسلام الحق، دين العقل والحرية، دين التسامح والصفاء، الدين الكوني الذي يجمع التقاليد الدينية كلها، يهودية كانت أو مسيحية أو إسلامية، في عهد الله الأخير لعباده، القرآن الكريم! لقد آن الأوان للسلفية أن تعاود النظر في مسلماتها فتنتبه إلى أن أطرها النظرية الحالية تعمل فعلا على تحقيق ما رآه الرسول ولا محالة، ولكن ليس في إعلاء كلمة الإسلام بل في التعجيل بإعادته غريبا كما بدأ؛ فبئس ما تريد سلفية اليوم !

أما إذا أرادت حقا العمل على نصرة الإسلام والدفاع عنه، فلا يكون ذلك إلا بالنهل من منبعه الأصح بالعمل بالعقل كما حث عليه القرآن، وذلك يقتضي حرية التفسير والتأويل وطلاقة العبادات ومحبة المسلم لأخيه المسلم وغير المسلم، مؤمنا كان أو غير مؤمن، ونصرة الأخ ظالما كان أو مظلوما؛ ويكون هذا لا بالإعتداء عليه ومكافحته بل بهدايته إلى الأصلح وذلك بالنقاش وتلاقح الآراء والأفكار وبالتزام التصرف الأمثل للوصول للصالح العام.

على أن لا تكون المصلحة العامة مستمدة من مرجعية معينة إسلامية المنطوق بالمعنى الموروث، بل نابعة بحق من واقع الشعب كما يعيشه اليوم؛ حتى وإن خالف ذلك ما تعودنا عليه من تلك المرجعية لأجل التراكمات الإرثية وثرائها مما أفرد الريادة لبعضها على البعض الآخر وإن كان أقل نفاسة وصدق تعبير عن روح الدين الحقة.

ولعل أدهى ما صدر عن السلفية أنهم، إن ضلوا عن المفهوم الصحيح للشريعة وشوهوه، أظلوا بأن كفّروا مخالفيهم؛ وذلك عين الكفر في الإسلام كما أسلفنا. أقول هذا لأن «النفس، كما كتب ابن رشد في آخر فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، مما تخلل هذه الشريعة من الأهواء الفاسدة والاعتقادات المحرفة في غاية الحزن والتألم« خاصة والإسلام »إلى طريق وسط ارتفع عن حضيض المقلدين وانحط عن تشغيب المتكلمين ونية الخواص على وجوب النظر التام في أصل الشريعة».

ولا غرو أن مفهومنا في ذلك ورد الإسلام إلى لب لبابه يعود إلى مبدئي الكونية والعلمية، فهما من أصح الأقاويل الشرعية صحة ولا يوجد أتم إقناعا وتصديقا للجميع منهما لا كمثل تأويل السلفية وغيرها، فتأويلهم، بعبارة ابن رشد، «لا يقبل النصرة (بطبعها) ولا يتضمن التنبيه على (التأويل) الحق ولا هو الحق».

ولسائل أن يسأل : أيعني ذلك، وبالاعتبار بما سبق قوله، إحياء للصوفية في الإسلام؟ عندها نقول : إذا كان مفهوم الصوفية ذلك الذي تأسست عليه عند رواده اللأوئل الذين كانوا من أجل علماء الدين، أمثال من ذكرت آنفا كالجنيد و تابعيه القشيري وعبد القادر الجزائري، مناضل العصر الحديث، فالإجابة ولا شك بنعم.

أما أن نفهم من الصوفية ما آلت إليه عند العديد من المدعين عليها من شعوذة ومروق عن الدين الحق، فلا. ولعله من المفيد هنا التذكير بما كان يقوله أحد أعلام الإسلام المحافظ الذي لا يمكن الشك في سلفية مرجعيته الإسلامية، وهو في ذلك لا يتجاوز ما كان سبقه إليه الإمام أحمد بن حنبل الذي زامن وعاشر بعض أقطاب الصوفية وعرف مبلغ علمهم وحسن إسلامهم. فقد بين الشيخ ابن تيمية في مجموع الفتاوى (ج 11 ص 18) أن صوفية الحقائق هم قوم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أصحاب اليمين. وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطيء.

ولنذكر هنا أن أعلام الصوفية الذين ذكرت كانوا أئمة في مذاهب معروفة، فالجنيد بن محمد البغدادي درس الفقه على مذهب الإمام أبي ثور، وعبد القادر الجيلاني على مذهب الإمام ابن حنبل، والغزالي على مذهب الإمام الشافعي. ولا تفوتنا الإشارة أيضا إلى أن من المحدثين الأجلاء، أمثال الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه ربانية لا رهبانية أو الشيخ محمد الغزالي في الجانب العاطفي من الإسلام، من دعى إلى تقديم هؤلاء الصوفية كمسلمين حقيقيين لأن تصوفهم موافق للكتاب والسنة تمام الموافقة ومطبق لمبادى الإسلام حق تطبيق. فهم أولى بالإنتساب إلى الإسلام الحنيف ممن يشوهه، ولا حاجة لدعوتهم باسم غير اسم الإسلام!

3 – الإسلام كلمة سواء :

فأي إسلام ندعو إليه في عالمنا اليوم، عالم ما بعد الحداثة؟ إن الإسلام سلام، كما أن دار الحرب تبقى دار سلام طالما لم يأذن العدو المسلمين بحرب، فتكون حرب المسلم دفاعية بعد أن انقضى عهد الفتوحات وهو زمن الجهاد الأصغر؛ إذ فتح تمام الرسالة المحمدية عهد الجهاد الأكبر، وهو مجاهدة النفس أساسا. وهذا الجهاد هو الذي يمكّن أولا وقبل كل شيء من تمالك النفس وردعها عن الانسياق إلى المحظورات حتى وإن كانت لسبب يبدو لأول وهلة مما يحلل منطقيا وشرعيا المحظورات؛ ولكن لا تحليل لها البتة في الإسلام.

والإسلام هو كلمة سواء، أي كلمة عدل وهي توحيد الله فلا يُعبد غيره، ويتبرأ المؤمن، أيا كان دينه، من كل معبود سواه، فلا يشرك به شيئا، ولا يدين بعض المؤمنون لبعض بالطاعة فيعظمه بالسجود له كما يسجد لربّه.

بهذا المفهوم الحقيقي للإسلام، المفهوم الذي يفرضه العقل وتتطلبه سماحة الإسلام، وهو الدين القيّم، دين الحنيفية، نرى الإسلام على حقيقته لدين الله كعهد ختامي يكمل ويتمم العهد القديم والجديد، وفي هذا تكمن كونيّته؛ و نكتشفه مجددا كدين حرية وتسامح، وفي هذا تتجلى نزعته العلمية. ويكون هذا بالاعتراف بالدينين اليهودي والمسيحي كما هما اليوم عند أتباعهما، لا كما يراهما المسلم من زاويته الضيقة وإن بدت له صحيحة. فأما ما يخص التحريف، فهذا لا يعني إلا المسلم أو المؤمن الذي يود العودة إلى الحنيفية المسلمة، وهي تمام الإسلام؛ أما من كان مؤمنا ممن تعلق بدينه المسيحي أو اليهودي، فلا مجال لنفي حقه في ذلك من باب احترام حرية المعتقد، مع التذكير بأن النص القرآني يبقى من المنظور الإسلامي النص الإلاهي الصحيح لوحده، وذلك لمن أراد التبحر في علوم الدين.

فبالرجوع إلى هذين المبدأين، يكون الإسلام أزليا كدين ودنيا. أما كدين، فهو دين كل مؤمن، مسلما كان أو مسيحيا أو يهوديا، بما أنه يؤمن بالله ويوحده، أيا كانت شعائره، إذ هي لا تهم إلا التصرف الفردي للمؤمن الذي يبقى حرا، لأن المؤمن لا عبودية له إلا لخالقه ولا حساب له أو عليه إلا من الله وحده لا شريك له. وأما كدنيا، فذلك بحرية التصرف في كل ما يعدو نطاق العبادات ويخص حياة البشر وتعاملهم، وذلك باعتماد قاعدة المصلحة التي تقرها الأغلبية المنتخبة حسب النواميس الديمقراطية تطبيقا للمبدأ الديني في العمل بالعقل وإحكامه في كل ما يتعلق بشؤون البشر، على أن يكون ذلك بالإحترام المتبادل، إذ المسلم من سلم الناس من يده ولسانه، و بالتأسي بالقرآن و بقواعده مثل الرجوع إلى المصلحة العامة والعمل بمقاصد الشريعة وحرية النقض والنسخ، وذلك بعدم العمل بالأحكام التي لا تتعلق بجوهر الدين بل بحياة البشر.

فاعتمادا على ما سبق، وفي ما يخص تعاملنا مع بعض المشاكل اليومية التي أفرزتها إرهاصات الثورة، لنقل أن القاعدة تبقى دوما إحكام العقل في شؤون الدنيا، تماما كما يريده الله، حتى إذا بدا ذلك للبعض ممن ضاق حسهم عن بلاغة دينهم مخالفة لما جرت العادة به، إذ العقل يجبّ العادة ويعلو عليها. وبالطبع، لا يكون إحكام العقل هذا بليغا إلا في جو من حرية الرأي والتصرف في حدود الإحترام المتبادل وعدم ردع الرأي المخالف.

فمثلا، بخصوص موضوع الحجاب، وبغض النظر عن شرعيته وعدم شرعيته، نقول : طالما وجدت طائفة تتعلق بمشروعيته الدينية (حتى وإن كانت مخطئة في ذلك لأنها جهلت عنصرين هامين : مقصد الشريعة والتأسي بمبدأ النسخ عملا بضرورة إحكام العقل) فيجب إحترام قناعتها ولكن يكون ذلك في حدود القانون. إلا أن هذا القانون ليس ذلك الذي سُن اعتباطيا تقليدا لما يجري في بلاد أخر، بل هو قانون الحرية الذاتية ما دامت لا تتعارض مع مصلحة من المصالح العامة كالأمن مثلا.

لذا، كما يجب التنصيص على حرية كل من ارتأى السفور في حدود احترام الغير (لأن من السفور الحق المبدئي المشروع في العراء، مثلا، وليس من الواقعي المطالبة به اليوم، وهذا ليس فقط في مجتمع إسلامي)، يجب قبول الحرية المعاكسة وهي التحجب إلا في الحالات التي تقتضي فيها ضرورة أمنية رفع الحجاب (مثل ذلك عندما يجب التدليل على الهوية مثلما يحدث عند عبور حدود أو اجتياز امتحان)، ولكن لا يكون هذا إلا في حدود تلك الضرورة إذ بعد استيفائها يعود حق الحجاب إلى صاحبه أو صاحبته.

فليس من العدل أن نفرض باسم الحرية أن ترفع المتحجبة حجابها في قاعة درس مثلا، فأين المنطق في ذلك ولأي غاية؟ أليس من باب التعسف فرض ذلك باسم قانون داخلي لمؤسسة علمية أخطأ في فهم موضوع الحرية الشخصية بمقتصياته؟ أقول هذا دون أن يكون ذلك بالضرورة من قناعاتي، لأن موضع التحجب والسفور حساس والحرية فيه شخصية تأتي عن قناعة وعن وازع ذاتي بعد التحرر من المركبات ومن قيود العادات؛ وهذا يتطلب من الوقت الكثير، وخاصة القسط الأكبر من الوعي وصفاء الرؤيا، وهو من الثورة على النفس، وهي أقوى من الإسقاطات الإيديولوجية، بما فيها الدينية.

وسق على ذلك أيضا موضوع الصلاة بالشارع. فالمبدأ ليس الصلاة بأي مكان كان، بل الصلاة؛ لذا، فإذا انعدم المكان الكافي لذلك ينعدم السبيل لإنكار مثل ذلك التصرف. أما إذا توفرت النية وتبعتها الأعمال بتوفير الأمكنة الكافية، فيمكن عندها وباسم الدين التنديد بتصرف مشين بالملة ومخل بالنظام العام. ولا غرو أن الساهر على راحة العموم، طالما أثبت أنه يسهر على المصلحة العامة وعلى توفير مزايا النظام للجميع، يحصل على تكاتف الجميع من كل النزعات على الحفاظ على ذلك النظام بما أنه للجميع عملا بمبدأ العمل بالمعروف والنهي عن المنكر.

عندها، نطور مفهوم مثل هذا المبدأ الأساسي في الإسلام لأننا بالتمسك به في نطاق الحرية للجميع نضمن للمعتقدات السامية الرواج بدخول الناس إليها بحرية وعن قناعة وليس بالقوة، أيا كانت هذه المعتقدات : دينية أو علمانية. ففي مثل هذا الجو من حرية الرأي والمعتقد يكتشف كل ضمير ما يعتلج بحق في ضميره ويعمل كل واحد حسب أخلاقيته لا بطريقة عشوائية كإنسان آلي أفرزه خليط من ترهات بعض المنظرين للكراهية ودعاة الفتنة؛ والكل يعرف أن الفنتة أشد من القتل. فالفتنة اليوم ليست في التفرق وتعدد الرؤى، لأن ذلك من الديمقراطية وتعدد الآراء واختلاف المشارب، إذ خلقنا أمما وقبائل لنتعاروف ونتحابب ونتعاون، ليس أكرمنا إلا أتقانا.

والتقوى ليست الخوف من الله، وكيف يكون ذلك والله حبيب المؤمن، غفور رحيم حتى بأكبر المذنبين، ما دام موحدا؟ بل ويمكن اليوم القول أن الله عفو أيضا بالعبد حتى وإن لم يكن موحدا، لأن الأمل يبقى في الإسلام أن يصبح ذلك المذنب موحدا نتيجة لنجاح المسلم في تقمص دوره الأساسي كأفضل ممثل لمكارم الأخلاق! فالتقوى هي أساسا ترك الذنوب كلها، وأي ذنب أكبر من التوسط بين الله وعبده المذنب لعقابه فنحرمه من أمل التوبة، والله يضمنه إلى آخر رمق من الحياة؟ أليس في مثل هذا التصرف منا تألها نتجاوز به حق الله في الغفران، وهو من أخص ميزاته، عوض رعاية حقوق الرحمان الرحيم؟

فليتعظ سلفيو اليوم بما قال بعض الصوفية من أن التقوى الحقة هي مجانبة ما يُبعد عن الله، ولتكن تقواه العمل بطاعة الله على نور الله، ونور الله هو القرآن، والقران صالح لكل زمان ومكان بالمعنى الذي أشرنا إليه آنفا، أي بأعظم خاصيتيه : الكونية والعلمية، وإلا كانت تقواه ظاهرة لا باطنة. والأدهى أنها تكون بذلك تقوى المعاصي، بل وتقوى الشرك كما بيّناه !

ولتكن تقوى السلفيين الحقيقيين، الصادقي النفس والفؤاد، الأحرار الضمير، تقوى التوسل لله بالأفعال، وخير الإيمان الحسنى في كل تصرفاتنا! عندها، يكونون بحق أتقياء، سادة الناس في الدنيا والآخرة. وعندها يكون شعار المسلم الحقيقي، مؤمنا مسلما كان أو مؤمنا يهوديا أو مسيحيا، تلك العلامة العربية المضيئة، ألا وهي الفتوة التي هي أساسا وقبل كل شيء كمال الخلق. فأصل الفتوة كما يقول القشيري أن يكون العبد دائما في أمر غيره، وتكون فتوّته في الصفح عن عثرات الإخوان بمفهوم الأخوّة الواسع، أي الأخوّة في البشرية، وعندها يكون الله في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه.

إذا، حتى نكون من زمرة الفتوة، علينا أن لا نرى لأنفسنا فضلا على غيرنا، فلا يكون لنا خصم ولا نكون خصما لأحد، بل نحرص على أن نكون خصما لربنا على أنفسنا؛ والنفس دوما أمارة بالسوء! وإنها لصنم لكل إنسان؛ ومن خالف هواه فهو فتى على الحقيقة. لقد حان الأوان، في تونس الثورة، أن تكسّر الأصنام، خاصة عند إخوتنا من السلفية!

4 – الصوفية سلفية اليوم الحقة :

إن إسلام السلفية اليوم لهو إسلام من قوارير، ذلك الزجاج الذي يتشقق ويتهشم لأدنى هزة؛ أما إسلام صوفية الحقائق فهو الإسلام النير الحق الذي لا ينقص من قوته أي شيء كما لا يحط من عليائه أي خور.

وطبعا لا مجال للخلط بين صوفية الحقائق وصوفية الشعوذة، لأن الفرق بينهما هو نفس الفرق بين سلفية ابن حنبل وسلفية العربدة، وهي سلفية اليوم، التي لا تمت له بأي صلة.

فابن حنبل عُرف بتقديره للسلفيين الحقيقيين، ولعله اليوم يكون من هؤلاء الصوفية لأن من ينتسب إليه بمثابة المشعوذين الصوفيين الذين قاومهم أشد مقاومة لأجل إسلام حقيقي هو الإسلام السمح، أي الحنيفية المؤمنة بكونية الرسالة المحمدية كرسالة محبة وسلم وسلام لكل خلق الله بلا تفريق بين مؤمن وكافر إلا بالمثل الطيب والالتزام بالحسنى والإيمان برحمة الله اللامتناهية لكل الذنوب

أما هذه التي تتسمى بالسلفية، كما نراها اليوم بتونس وغيرها من البلاد الإسلامية، فعلاقتها بالإسلام كعلاقة الأبجد بالعلوم، فإن هي كانت منها شكلا، فهي حقا بمحتواها لا تمت لها بصلة، إذ لا تكفي معرفة الحروف الأبجدية للتبحر في العلوم؛ فما أدراك بعلوم القرآن!

إن الصوفية تاريخيا، كمنظومة موازية للسلفية في قوة البيان وحجية البراهين لتاريخيتها وتأصلها في المنبع الإسلامي الذي كون أفقها الرحب، معاكسة تماما للأفق الضيق السلفي؛ فهما مرآة واحدة لنفس الحقيقة، تنعكس من وجه السلفية مـضخّمة إلى حد المغالاة والتشويه، أما من الوجه الآخر، وجه التصوف، فتبدو على حقيقتها : إنسانية إلى حد الإفراط، متسامحة بلا قيد ولا شرط، عالمة إلى أبعد ما يقصر عنه العقل البشري، كونية بدون مركبات.

ولنأخذ مثالا بسيطا على ذلك، ننتقيه من الواقع اليومي المعاش ويخص الآذان. لقد تفشت عادة إقامة الصلاة باستعمال مكبرات الصوت. فالسلفي اليوم لا يرى حرجا في ذلك، بل ويقر مثل هذا الاستعمال للتقنيات الحديثة رغم ما فيها من مضرة، حيث لا يخفى أن مكبرات الصوت، خاصة عندما تكثر المساجد في مكان ما، من شأنها إزعاج راحة مريض أو صغير بحاجة للراحة في أولى ساعات الفجر مثلا أو قرب مصحة. أما السلفي الحق، أي الصوفي، فمن شأنه في مثل هذه المسألة أن يراعي روح الدين الإسلامي ومقاصده حيث احترام راحة الغير من مباديء الإسلام الأساسية، وفي نفس الوقت يحترم الأصول والسلف الصالح فيقرر إلغاء إستعمال مكبرات الصوت في الأوقات التي ثبت فيها أن ضررها أكبر من نفعها للاكتفاء بالصوت المجرد كما دأب عليه السالف الصالح.

فالعبرة في الآذان ليس النداء للصلاة، فمن يحرص عليها يبادر بنفسه إلى التوجه إلى الجامع أو إلى مصلاه قبل سماع النداء، بل هي في إقامة الفرض، والإقامة لا تحتاج إلى جلبة زائدة التي يمكن عدها من باب المراءات. ولعلنا لا نحتاج هنا إلى التذكير أن الصلاة هي أولا وقبل كل شيء مناجاة لله، وبالتالي فهي تحتاج إلى السكينة والوقار؛ فليست الصلاة كما غدت اليوم مجرد حركات تقام في أي مكان وفي جلبة كأنها عرس أو أدهى وفي ظرف هو أقرب إلى حلبة السيرك منه إلى مصلى تحترم فيه قداسة الذات الإلاهية.

إن مثل هذه النظرة الجريئة لإقامة الصلاة اليوم، التي تترك على سبيل المثال مكبرات الصوت جانبا باسم الفهم السليم للإسلام أو تستحي من إقامة الصلاة بأي مكان حتى بالشوارع وسط المارة غير عابئة بشي مما أكد على أهميته الإسلام، لهي سلفية حقة في احترامها لسنة السلف الصالح ومصالح المؤمنين وغير المؤمنين ممن يعيش تحت ظلال الإسلام؛ وهي ممكنة تمام الإمكان إذا كنا حقا سلفيين بالمعنى الصوفي للكلمة.

إن بلادنا اليوم تؤسس لغد أفضل، والإسلام بها، خاصة عند البعض _ وهم قلة لا محالة، ولكنها تفسد كثيرا في الأرض بحدة تصرفاتها _ يجب أن يرتقي بمفهومه من السلفية الجاهيلة، التي تكتسح شوارعنا، إلى السلفية التنويرية، وهي صوفية الحقائق.

فكما لا رهبانية في الإسلام، لا رهبة فيه أيضا، إذ في الرهبة إكراه، والإسلام حرية، وفي الرهبانية حرص مكين على مظاهر التعبد، بينما الإسلام روحانية قبل كل شيء. وليس في الإسلام تتبع الغير وظواهر الأشياء بالبصر، فالمسلم إن ساءته مظاهر يغض النظر عنها ويعتني بالبواطن؛ أما من رغب عن الباطن إلى ما ظهر فقد فاتته تزكية باطنه بما يفاتح به من ظاهره؛ فالخداع دوما في ما ظهر لا ما بطن، لأن السريرة الصادقة لا مراءات فيها ولا ومظاهر.

5 – من سلفية الأكاذيب إلى صوفية الحقائق :

لا شك أنه لا بد من بعض الوقت حتى يأتي الزمن على ما أفسده التحجر العقلي وأفرزته عادات الاستبداد بالرأي والتنكيل بالخلاف في المشرب والمعتقد؛ والسلفية الجاهلية اليوم هي من إفرازات ذلك الماضي البغيض الذي لم تتخلص منه بلادنا إلا حديثا. ولعل هذا هو السبب الذي يقدمه حزب النهضة في تفسير عدم تشدده مع هؤلاء الذين يفسدون عليه الإسلام ويشوهون سياسته إلى حد إفشال تجربته بتونس. ولا زلت أعتقد أن بإمكانها حقا أن تكون رائدة، وإن بدأ الشك يدب إلى هذه القناعة والظروف السانحة لها تقل فتنعدم.

أما وقد بلغ السيل الزبى، فعلى حزب النهضة اليوم أن يبيّن موقفه ويحدّد خياراته، فيعلنها بكل جرأة وصراحة ويؤكد عليها بسياسة لا لبس فيها، أن لا إسلام بتونس بدون سلام وأن الإسلام الحق هو الإسلام التنويري. إننا نقول هذا دون أن يخفى علينا ما في الساحة التونسية من تعقيدات وحسابات يراها البعض من باب تعاطي الفطنة والحس السياسي وهي لا تعدو أن تكون من خزعبلات سياسة أكل الدهر عليها ولا يزال يشرب، لفظها التونسي من شمال البلاد إلى أقصى جنوبها. لذا، بغض النظر عما تتميز به ساحتنا السياسية من مزالق، نقول أن عقدة ما يسمّى بالمشكل السلفي السياسي عند أهل النهضة هي أولا وقبل كل شيء عقدة انعدام الأسس الواضحة والسليمة لحوار بناء هو ممكن دوما إذا انعدمت النوايا الخبيثة من كامل الأطراف المدعوّة للتحاور. وليس الحال كذلك ضرورة وللأسف.

نعم، لقد كانت إلى اليوم نظرة النهضة إلى السلفي على أنه مواطن له رأي، حتى وإن لم نوافقه في ما يذهب إليه، وهذا الرأي يُحترم في دولة القانون ما دام لا يركن للعنف وإن ادعى أن هناك الأيدي الخفية والنوايا المتسترة التي تستغل تظاهراته للتشنيع عليه. وقناعة هذا الحزب تبقى أن أغلبية المحسوبين على هذا التيار، عدا قلة الغلاة التي لا تخلو منها التيارات السياسية لاعتمادها المفهوم القديم للسياسة على أنها خدعة قبل كل شيء، فالأغلبية لا يراها ترفض الحوار إذا كانت قواعده مضبوطة وحسنت النيات في طلب الحل الوسط، كلمة السواء التي يدعو إليها الإسلام في كل شيء. فمن طلبات هذا التيار، في ظنه، ما هي معقولة إذا نظرنا إليها من الزاوية النظرية البحتة، فلا تبدو مستهجنة إلا لغلوّ البعض في شكل المطالبة بها سواء لفظا أو تصرّفا، وذلك من رواسب عهد القهر الذي كانت تعانيه بلادنا وانعدام الحس الديمقراطي.

إن هذا المنظور وإن كان من الممكن اعتباره كيّسا في بداية التجربة الإسلامية الحاكمة بتونس لم يعد يستقيم البتة لأن التوجه السلفي وضح اليوم؛ وإن بقي بعض الغموض فهو في مواقف حزب النهضة؛ فهل هو متناغم مع المفهوم المتزمت للإسلام أم يعمل على إرساء قواعد الإسلام التنويري في تونس الجديدة؟ فاليوم، لم يعد المجال للتساؤل عن مواقف أهل السلف الأدعياء من طبيعة الإسلام بتونس، بل ما يجب العمل على توضيحه هو مدى تعلق النهضة بالإسلام السلفي الحق، وهو الإسلام التنويري، واستعدادها للعمل جادة على إقراره ببلدنا؛ ولعلها تجد في ذلك العون والمساندة ممن تراهم أعداء لها اليوم أكثر مما تنتظره من سلفية الجاهلية.

إن على النهضة أن تخط الحدود الواضحة مع هؤلاء؛ أما ما تسميه هي بالخطوط الحمراء في ما يخص مسائل الدين المحرجة كالمساس بالمقدسات ومواضيع الحريات والمساواة بين الأجناس، فعليها تطوير مفهومها لها للإمتياز عن المفهوم السلفي الخاطيء، وذلك بأن لا تعدو أن تكون عندها هذه الإشارات إلا ومضات لا للمنع وإنما للتيقظ والانتباه. فلا موانع لحرية من الحريات العامة والشخصية ولا حدود، وبالخصوص تلك المتعلقة بالذات، وإنما أخلاقيات لاحترام حرية الجميع، فيكون ذلك مثلا باعتماد بعض القواعد للابتعاد عن الإثارة دون أن يمس هذا من أصل الحرية المعنية. وقس على هذا رفع كل نزعة للتكفير في ميدان حرية التعبير والتفكير ورفضها التام، ويكون ذلك قولا وفعلا، لأن إسلامنا سلامة نفس ونية سلام، والسلام والسلامة ليس فيهما عداء لأي أحد ولا اعتداء على أحد يلتزم باحترام حرية الغير مع التمسك بحرياته كاملة غير منقوصة.

ودعني أقول هنا، في غمزة للوزير رفيق عبد السلام حول ما يختم به كتابه «تفكيك العلمانية» بالفصل الذي عنونه : «في الحاجة إلى إعادة الأمور إلى نصابها»، أني أرى أن الحاجة هي أكبر إلى إطلاق الأمور من نصابها المعهودة بترك العنان للحريات، لأن الإعادة إلى النصاب هي العودة إلى تلك النصب التي تفرزها عقلية التسلط والاستبداد، وقد جاء الإسلام بهدمها! فلتكن عودتنا لا إلى الوراء بل إلى ما جاء به الإسلام من تقدم قبل أوانه وهو تلك الثورة على الأنصاب، كل الأنصاب، بالتمسك بروحه السنية في علميتها وكونيتها قبل نصه، فلا نجعل من حجية النص وقدسية الوحي كما تفهمه السلفية نصبا جديدا يتوارى خلفه كل ما في الاسلام من مباديء إنسانية سامية وقيم عالمية عالية جعلت بحق من الأمة التي ظهر بها خير أمة أخرجت للناس. فإن هي تأمر بالمعروف، فهو ذلك المعروف المتمثل في الأخلاقية التي لا تنكرها أية حضارة إنسانية ذات أخلاق ومثل عالية، وإن هي تنهى عن المنكر فهو ذاك الذي ينكره كل عقل إنساني حر متعلق بحقوق الإنسان.

هذا وبما أنه لم يفت صهر الشيخ الغنوشي في كتابه المذكور العودة إلى علم الإجتماع والإشارة إلى بعض أعلامه، أستسمحه الإشارة إلى أن علم الإجتماع يدعو أيضا، وذلك لا يغيب عنه بلا شك، إلى الأخذ بعين الاعتبار بما يسمى بالجزء الملعون في الإنسان Part maudite، أو المظلم Part d’ombre أو الشيطاني Part du diable، وهي كلها ترمز إلى ما هو غير روحاني في الإنسان الذي يجانب أعلى ما في البشر، أي روحانيته، بل هو لا يكتمل إلا بها. ولا شك أن ذلك هو الإنسان الكامل الذي كان ينشده ولا يزال الصوفي الحق.

زد على ذلك كل ما ينضاف إلى هذا مما يسمى بالنزعة الديونيسية في سوسيولوجيا المداعبة حسب ترجمة عبد الله زارو، أو علم الإجتماع المجوني، وهي الترجمة الأصح لسيكولوجية مافيزولي. إن كل ما سبق يحتم اليوم على حزب الشيخ راشد الغنوشي، حتى يبقى مواكبا لمقتضيات العصر ويدوم حكمه بتونس كما تنبأ به صهره في تصريح صحفي له مؤخرا، العمل بكل جرأة على القيام بثورته على النفس باستبعاد كل المتزمتين من حزبه وتنوير عمل حزبه بتونس الثورة.

إن الرسالة المحمدية لهي الضامن لأن لا تعبد الأصنام بعدها، إلا أن عمل الشيطان لا ينقطع إلى قيام الساعة، وهو لا ينجح في إعادة عبادة الأصنام على هذه البسيطة، بل أقسى ما يصل إليه هو أن يوحي بإقامة أصنام معنوية في أذهاننا ينجح في حمل البعض من بني آدم على رفعها وذلك من قبل الخفة والعجلة التي تميزان الإنسان. فالمؤسف حقا أن تأخذ هذه الأصنام أحيانا، بل غالبا، هيئة المباديء والقيم التي هي كالسراب الخلب، تبدو كأنها من أفضل الفضائل وأوكد الحسنات وهي إلى الرذائل أقرب، بل ضررها على روح الإسلام السمحة لكبير إذ هدفها طمس نوره من طرف من يدعى السير على هديه.

ولا شك أن هذا من تبليس إبليس وخداعه لبني آدم؛ وتلك لتغدو قاصمة الظهر عندما نرى من يدعي خلافة من اجتباه الله بالورع والذكاء والعدل للذب عن دينه، وعنيت به المناضل الشيخ الجليل ابن تيمية، ينقض فعله وفكره الصرح المشيد الذي أقامه هذا المجاهد الحقيقي لأجل إسلام عادل، يتميز بعقلانية تعاليمه وكونيتها. فالسلفية اليوم كما نراها في بلاد الإسلام، ومنها بلدنا، لا تمت بصلة إلى روح نضال ابن تيمية الذي تدعي الانتماء إلى مدرسته؛ بل هي تسيء إليه أشد الإساءة. فلتتعظ سلفية اليوم، سلفية الأكاذيب على الاسلام، بما جاء في تعاليم منظريهم وليعودوا إلى الجادة، فالأمر ليس بالهين إذ هم بما يعملون ولا يشعرون به لعلى قدر عظيم من الإساءة لدينهم الذي يبقى أبد الدهر ذلك المعتقد المتعالي، يعلو ولا يعلى عليه.

وحتى نبقى في ميدان علم الإجتماع وخاصة في امتداح العقل الحساس كما في سوسيولوجية صديقي الأستاذ ميشيل مافيزولي، لنختم بهذه المقولة لروني شار التي نعرضها للتمعن والاعتبار بحكمتها لتطابقها مع واقعنا الراهن حيث نرنو بدعوتنا إلى إسلام ما بعد حداثي إلى »ما هو دائم التجدد في قدمه وما هو دائم التقادم في تجدده» حسب عبارة مافيزولي نفسه. و هذه مقولة شار : «نحن نعيش في عالم يحتضر ويجهل أنه يحتضر، ويمعن في الكذب على نفسه لأنه يصر على تزيين غروب شمسه بألوان شروق العصر الذهبي».

Farhat Othman