Selection_037

لا شكّ أنّ دوافع التهميش الذي عانت منه ولاية القصرين خلال عقود من الديكتاتورية تعود في جزء منها إلى العقلية الجهوية القائمة لدى النخب السياسية و رجال الأعمال، لكنّ الدافع الأساسي للتهميش هو الريبة التي كان رجال السياسة و صنّاع القرار ينظرون بها إلى ولاية القصرين نظرا لدور المنطقة في الثورات التاريخية التي شهدتها تونس و بسبب الحدود المشركة مع القطر الجزائري، مع كلّ ما يحمله الجوار من مخاوف إنتشار المدّ الجهادي، خصوصا بعد إنضواء الجماعة السلفيّة للدعوة و القتال بالجزائر تحت لواء تنظيم القاعدة.

خلال شهر جانفي 2011 كانت مدينة القصرين محطّة مفصليّة في الثورة ضدّ نظام بن علي حيث إستشهد عدد من الشباب برصاص قوات الأمن في إطار مقاومة شعبية شاملة ضدّ وحدات الأمن، و لا تزال الذاكرة الجماعية للتونسيين تحمل المشاهد الدموية التي سُجّلت بمستشفى القصرين ليلة 8 جانفي 2011.

في سياق تصاعد الزّخم الثوري تمّ حرق مركز الشرطة بمدخل حيّ الزهور في مدينة القصرين و الذي إعتبره الأهالي رمزا لآلة النظام القمعيّة، في خضمّ ذلك تمّ العثور على جملة من الوثائق في بناية موازية للمركز و تابعة للإدارة المركزية للإستعلامات العامّة.
تحصّلنا على عدد من تلك الوثائق تتعلّق بأساليب الأجهزة الأمنية لنظام بن علي في مكافحة الإرهاب مؤرّخة في سنة 2008 نعرض فيما يلي عيّنة منها.

⬇︎ PDF

تشير الوثائق و عددها 44 إلى التسلسل الإداري التصاعدي التالي : المصلحة الجهوية المختصة بالقصرين، الإدارة الفرعية للمصالح الجهوية، الإدارة المركزية للإستعلامات العامة، الإدارة العامة للمصالح المختصّة، الإدارة العامة للأمن الوطني، وزارة الداخلية و التنمية المحلية.

اللّافت للإنتباه مبدئيّا تواتر جُمل مثل “التصدّي لمظاهر التطرّف الديني” و “التصدّي لظاهرة تنامي التيّار السّلفي” في مُعظم محاضر الجلسات.

نلاحظ أيضا في الوثائق إشارة إلى “لجان جهوية للإستعلام” تضمّ مختلف الوحدات الأمنية (إرشاد، حرس، وحدة حفظ النظام بالقصرين، المصلحة الجهوية لمكافحة الإرهاب بسيدي بوزيد).

في محضر الجلسة عدد 1403 بتاريخ 11 مارس 2008 و التي إنعقدت تحت إشراف رئيس اللّجنة الجهويّة للإستعلام في شخص رئيس المصلحة الجهوية المختصة بالقصرين بحضور رئيس فرقة الإرشاد بمنطقة الأمن الوطني بالقصرين، آمر وحدة حفظ النظام الجهوي بالقصرين، رئيس فرقة مكافحة الإرهاب بإقليم الحرس الوطني بالقصرين و ضابط شرطة عن المصلحة الجهوية لمكافحة الإرهاب بسيدي بوزيد، تمّ الإتّفاق على ما يلي :


العمل على تقصّي أخبار العناصر السلفية بالجهة و إنتداب مخبرين و مرشدين صلب هذه العناصر و توجيهها.

…إنتداب مصادر في صفوف التجار المتجولين و سواق وسائل النقل العمومي (تاكسي، لواج، نقل ريفي).

مراقبة المساجد و الجوامع و رصد كلّ الإخلالات و التحرّكات المشبوهة في صفوف الفئة الشبابية من المُصلّين (إستفزاز الأئمّة، طرح أسئلة تعجيزية).

العمل على إختراق الأوساط الطلّابية و التلمذية و مراقبة العناصر المشبوهة دينيّا و التحرّي معها.

Selection_039

وردت بمحضر الجلسة عدد 4216 بتاريخ 21 جويلية 2008 توصيات من طرف اللّجنة الجهوية للإستعلام ب :


تقصّي أخبار العناصر السلفية و النهضوية الفارّة.
تحيين وضعيّات أعوان الأمن و الجيش الوطنيين المعزولين.

إضافة إلى ذلك تُشير محاضر جلسات أخرى إلى توصيات للقيام بمداهمات فجئية لمنازل “السلفيين”.

في محضر عدد 2053 بتاريخ 14 أفريل 2008 وردت توصية ب :

مزيد تفعيل دور المُخبرين و العُمد و لجان الأحياء و مُختلف الأطراف لرصد تحرّكات العناصر المشبوهة و مراقبتها و الإعلام عن كلّ المستجدّات في شأنها.

في محضر الجلسة عدد 4956 بتاريخ 2 سبتمبر 2008 وردت التوصيات التالية :

جلب المسرّحين و إعادة التحقيق معهم و تحيين وضعيّاتهم و محاولة ترويضهم.

تكثيف الإتّصال مع المرشدين و المصادر و غيرهم ممن يمكن الإستفادة منهم في التوقي من الإرهاب (العُمد، التجمعيون، لجان الأحياء، السماسرة…).

رصد الإخلالات المحتملة في الفضاء ات الدينية و متابعة آداء الإطارات الدينية.

مواكبة الصلوات و خاصّة صلاة التراويح و التعرّف على المشاكسين للأيمّة أو المتأخّرين لآداء دعاء القنوط وبحثهم.

الإنتباه إلى أساليب حركة النهضة في توجيه مساعدات مالية من الخارج إلى أتباعها.

في محضر الجلسة عدد 4631 بتاريخ 12 أوت 2008 وردت توصية ب:

مراقبة المتردّدين على المؤسّسة السجنية بالقصرين و رصد إتّصالاتهم خاصّة عائلات العناصر السلفية و النهضوية المسجونة.

في محضر جلسة عدد 1929 بتاريخ 7 أفريل 2008 و بعد سرد فصول عمليّة إجتياز للحدود خلسة عبر بوشبكة وقع الإتفاق على تقصّي أخبار العناصر الفارّة و من بينهم شخص تُوفّي بأوكرانيا و تمّ دفنه يوم 21 جانفي 2007 و شخص آخر “جاء في شأنه أنّه تلقّى حتفه بالعراق.

Selection_040

يتواصل سرد توصيات و “إنجازات” مختلفة في بقية المحاضر مثل “الضغط على الباعة المتجوّلين من المتطرفين و السلفيين” و “توظيف أصحاب مراكز الإنترنت العمومية” إضافة إلى ذكر تفاصيل تهديدات إرهابية مُحتملة.

يبدو واضحا من خلال الوثائق التي بين أيدينا إنحدار أساليب مكافحة الإرهاب في جنون الإرتياب أكثر من إعتماد الأساليب الأمنية العلمية و القانونية في التصدي للإرهاب، فبعد قراءة جلّ الوثائق نلاحظ أنّ الأجهزة الأمنية في ظلّ نظام بن علي تبنّت حالة الخوف المرضي التي سادت الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر كخطّ إستراتيجي في عقيدتها الأمنية، رغم أنّ الولايات المتحدة نفسها بدأت حينها بمراجعة سياستها الأمنية التي إعتمدت على ردّ الفعل أكثر من الفعل المدروس وفق نظرة بعيدة المدى.