فكل حداد حقيقي هو الفرصة السانحة للتذكر والاتعاظ؛ وليست صروف الدهر إلا لإصلاح ما انخرم بأنفسنا وفسد في طباعنا. وما كل طفولة ومراهقة، حتى وإن تعلقنا بأحسن ما فيهما، إلا فترة لا بد أن تمر لأن مآلها الكهولة، وهي سن الرشد الحقيقبة والوقت اللازم للعمل فالإبداع.
لقد آن الوقت لتونس أن تستيقظ للأفضل! وأقول ذلك خاصة لنخبتها المفكرة، السياسية منها أساسا، وبالأخص تلك التي تتشبت بطفولة ليس فيها إلا الغفوة عن الواقع أو مراهقة انعدمت من كل حسنة إلا عربدة الشباب عندما تنفجر فيه نزعة التغيير بلا حكمة فيهدم عوض أن يبني.
إن الأفضل اليوم بتونسنا الجميلة هو أن نجعل بحق من حلم شعبها الحالي، هذا الشعب الكادح الفقير، واقعا ملموسا كل يوم، فتكون ثورته الوطنية، وقد جاءت ربيعا بلا منازع، ثورة عالمية تحي ما تحنّط في عالم اليوم الذي هو أشبه بالمومياء في هيأته المتحجرة.
ولا شك أن الغيوم تعدّدت بتونس الثورة فعبست بها الوجوه، وزالت الابتسامة عن الثغور، وهي خير ما يهديه الإنسان لأخيه الإنسان. لكن التونسي المحنك لا يخاف بنات الدهر، بل هو يسر لاشتداد الأزمة، أيا كانت طبيعتها، فيقول لها بكل رباطة جأش : اشتدي أزمتي تنفرجي!
ولا مراء أن المسلم الحق بتونس لهو كذلك أيضا، لا يشك في دينه برباطة جأشه، إذ لا يهاب هجمات الأعداء على سماحة هذا الدين، ولا طعنات المنافقين داخله وعملهم الدؤوب على طمس نوره وتزييف روحه. فالإسلام حق، والحق يعلو ولا يُعلى عليه، حتى وإن كان ذلك بعد حين.
إن الإسلام يبقى، أولا وقبل كل شيء، قِبلة (بكسر الباء) كل من سعى حقا إلى تزكية نفسه والعودة بكل ذاته إلى الحق، وذلك بتسليم نفسه إلى الله، وهي حرة أبية لا تركع لأحد إلا لخالقها. والله كله محبّة، لا يظلم كما يظلم البشر أنفسهم وغيرهم، فدينه قُبلة(بضم الباء) على خد المؤمنين.
والله حكيم أيضا، لا تغرّه مظاهر التقوى الخادعة، لأن دينه ليس مجرد عبادات، وليس هو، خاصة، تلك التعاليم التي أُفرغت من معانيها ولا حركات وصفات ليس هدفها إلا المراءات أو المغالطة.
إن الإسلام سلامُ روح ونيّة ونقاوة ضمير ويد من كل ما من شأنه الاضرار، لا بالدين أولا، بل بالمؤمن نفسه وبأخيه، مؤمنا كان أو لم يكن؛ لأن الإنسان، أيا كان، يبقى لصيقا للإنسان في الأخوة البشرية، أيا كانت عقيدته.
إن الإسلام قبل أن يكون عبادات هو معاملات. والأولى، أي العبادات، هي الله، وهو حر في قبول أو رفض ما يتم منها أو لا يتم من لدن عباده؛ فهم أحرار يفعلون ما يشاؤون لأنهم دوما تحت نظر الله، فلا يفلتون من جزائه، سواء كان بالاستحسان أو بالعقاب، وسواء كان ذلك عاجلا أو آجلا، ولكن من لدنه وحده.
أما الثانية، وتلك هي المعاملات، ولها الحظ الكبير في ديننا، فهي من شأن البشرية، التي لا تتقيد فيها إلا بمصالحها على تنوعها حسب الزمان والمكان؛ لأن من مقاصد الشريعة الإسلامية المصلحة البشرية؛ وهي ليست بحكر على نمط من البشر ولا على عقيدة، إذ يُؤتي الله الحكمة لمن يشاء، والبشر في شؤون الدنيا سواسية كأسنان المشط.
ثم إن التقوى الني من شأنها رفع البعض والحط من البعض الآخر هي أساسا الخوف من تجاوز ما حرّم الله، ولا غرو أن أهم ما حرّم الله هو الإفساد، سواء كان ذلك للذات البشرية نفسها، وهو إفساد النفس والإفساد للنفس؛ وهو أيضا الإفساد في الأرض، أي التسلط على الغير والمس بحريته، وقد ضمنها له الله بأن حرر العبد من كل عبودية إلا له.
فحرية العبد الحقيقية هي في التسليم لله، وهو حر طليق في ذلك، وهذا هوالرفع الكبار لتقديس العبد لخالقه. فلا معنى لتقديس يأتي من عبد مأمور، مسلوب الحرية، غير قادر على الجدال وإمكانية إعمال الرأى. لأن الإسلام دين عقلاني، والرأي وإحكام العقل من مستلزمات العقيدة الحقة، وإلا أصبح الإنسان بمثابة الحيوان، وقد علمنا أن الله ما حمّله الأمانة إلا لعقله.
فابتسم ،أيها المسلم التونسي، في يوم حدادك هذا، وقل لكل من سألك عن بلدك ودينك وحالهما، وقد سخر من أحلامك الثورية واستهزأ بدينك بما شانه أعداؤه : أنا تونسي حر، الإسلام في بلدي إسلام تونسي ثوري! إسلامي حب وتسامح، لأن إسلامي علمي وعالمي، فهو رسالة حب. إن القِبلة الإسلامية في بلدي هي قُبلة الحب التي يطبعها كل ابن بار لتونس على خد الشعب كله، بل وعلى خد كل البشر، بما أن الإسلام دين البشرية جمعاء، يحب فيه المسلم ولا يكره، يسامح ويتسامح. فالله رحمان رحيم !
وقل لمن تحدّث عن الدين فغوى وهو يتعمد الاساءة له دون وعي : لا عقاب في الإسلام الحق إلا متى نفذت وسائل الحمل على التوبة لله، وهي لا تنفذ أبدا عند الله، وإلا كان منا الشك في قدراته! ولا نكال في الدين القيم خير من نكال الله بمن يرفض، إلى آخر رمق في حياته، فرصة الإنابة إلى خالقه؛ وتلك الفرصة للحسنى لا تفارقه إلا مع مفارقة الروح له حتف أنفه وبلقائه ربه متى شاء ربّه له ذلك.
إن قِبلة الحب بتونس هي حب القُبلة الإسلامية الحقيقية التي تبقى ذاك التوجه التام المستدام إلى الله في كل حين وفي كل مكان. فأينما يتوجه المسلم بروحه وحبه الفياض يجد الله أمامه، فالله في كل مكان، وهو أمام المؤمن أينما ولى وجهه بكل حسن نية وصدق سريرة.
وتلك هي قِبلة الحب، قُبلة الإسلام للبشرية، كل البشرية، بما فيها تلك التي أخطأت في حق نفسها فأذنبت؛ إذ هي تعلم أن الإسلام بقِبلة الحب فيه يبقى قُبلة كل مذنب يزكّي في رحابه الواسعة نفسه بتعاليمه السمحة وغفران االله لكل الذنوب، وهو بلا حدود وبلا تحديد زمني.
فابتسم أيها التونسي في يوم الحداد الذي أُريد لك لقهر أحلامك للأفضل، فلا يكون نهارك هذا إلا الفرصة المتجددة للتأكيد على أن الماضي المقيت ولى وانقضي، فهو يُدفن مجددا اليوم، إذ هو يوم فرح لأجل غد أفضل يقول فيه التونسي بكل فخر واعتزاز : أنا من تونس الثورة، تونس الانقلاب الشعبي على كل إستبداد! أنا من تونس الإسلام، قُبلة الشعب وقِبلته لدين الحب اللامتناهي بلا حدود!
فرحات عثمان
iThere are no comments
Add yours