بسبب تعطيلها لأنشطتها الثقافية إثر كل إعلان حداد: تونس تنتحر ثقافيا والإرهاب ينتصر

بقلم صفاء متاع الله،

منذ أكثر من سنة وتونس تعيش تحت وطأة الارهاب الذي نعتقد أنه تحوّل إلى عادة وجزء من اليومي للتونسيين. كل استشهاد قابله إعلان حداد من قبل رئاسة الجمهورية حتى أنّنا بتنا نعيش ما يمكن أن نسميه بالحداد المتوالي إذ أنّ الفاصل الزمني الذي يفصل العمليات الارهابية لم يكن بالبعيد.

حداد جعل وسائل الاعلام في كل مرة تتخلى عن برمجتها العادية وتنقطع عن بث البرامج الترفيهية لتكتفي بسلسلة من “البلاتوهات” السياسية التي زادت في إرهاق نفسية المواطن. والوسائل الاعلامية لم تكن وحدها التي واكبت إعلان الحداد، فالمؤسسات الثقافية أيضا جمّدت أنشطتها في أكثر من مرّة (مهرجان الحمامات الدولي ومهرجان قرطاج الدولي في أحداث الشعانبي الأخيرة ) ليصبح المواطن الذي لم يستوعب بعد فكرة قدوم الارهاب إلى أرضه يعيش من فترة إلى أخرى تحت ضغط نفسي كبير. و لئن كان إعلان الحداد من قبل رئاسة الجمهورية يمثّل اعترافا بشهداء الوطن فإنه من جهة أخرى اعتراف بانتصار الإرهاب.

ولمّا اختلفت القراءات حول صحّة تعطيل الأنشطة الثقافية إثر كل عملية إرهابية وإعلان حداد ارتأينا الالتقاء بكل من الدكتور “يوسف الصديق” والدكتور “الصافي سعيد” لنتبيّن مدى خطورة تعطيل المجال الثقافي في هذه الفترة بالذات.

safi-said-quote-200

خيّر الدكتور الصافي سعيد خلال لقائنا معه أن يستهلّ حديثه بالتركيز على الإرهاب، هذا الوافد الجديد إلى أرض تونس. حيث يعتبر الدكتور أنّ “الإرهاب أصبح ظاهرة مواكبة للحياة العصرية وهو سلعة عابرة للقارات موجودة في الكتب التي نطالعها كما في القنابل وحتى في العنف البشري الذي نمارسه بشكل يومي في محطات المترو أو في المدارس وحتى في الإدارات التونسية”. إنّ الإرهاب في نظر الدكتور الصافي سعيد هو سلعة تابعة للرأسمالية وأنّ أمريكا قد تحزن وتأسف لانتهاء الإرهاب لأنها ستخسر أسواقا عديدة وتجارة مربحة على غرار تجارة الأسلحة والمخدرات. وإذا كنا نعتبر أنّ الإرهاب سلعة عابرة للقارات فإن تونس ليست منفصلة عن هذا العالم وهي كبلد منفتحة على السلبي والإيجابي فيه. لكنّ تحصين الديمقراطية التي في عهدها جاء الإرهاب يتم من خلال النخب الواعية التي من المفترض أنها تقوم بتقوية الحرية والعمل على ترسيخ الوعي بمفهومها وبالقراءة أيضا. “نعم القراءة، يقول الدكتور صافي سعيد، فالحصانة الأولى ضد الارهاب هي الثقافة”. إنّ مواطنا جاهلا يمكن سجنه في منزله عبر إشاعة. لذلك فإنّ الاستمرار في إعلان الحداد إثر كل حادثة اغتيال أو عملية إرهابية وتعطيل الأنشطة الثقافية تعبيرا منّا عن حزننا لهذا المصاب الجلل هو بمثابة رفع راية بيضاء أمام الارهاب واعترافا بانتصاره على الحياة. كما يستشهد الدكتور الصافي سعيد بالتجربة اللبنانية حيث يقول:

في لبنان ورغم ما تعيشه من أوضاع صعبة وتهديدات من كل الأطراف وأحداث تفجير متتالية، فإنك إن عبرت أمام قاعة سينما تجد المواطنين واقفين في صف طويل منتظرين دورهم للدخول إلى قاعة السينما والتفرج على فيلم رغم علمهم بأنّ حياتهم في خطر وأنهم قد يذهبون ضحية عملية إرهابية في أية لحظة. هذا هو حسب رأيي المعنى الحقيقي للاحتفاء بالحياة والانتصار على الإرهاب.

الصافي سعيد

واعتقد الدكتور الصافي سعيد إنّ هذه الممارسات من إعلان حداد وتعطيل للأنشطة الثقافية هي دليل على أنّ الإدارات التونسية والمسؤولين لم يفهموا الإرهاب ولا طريقة عمله وهم عاجزون تمام العجز عن مجابهته.

وأشار في نهاية المطاف إلى أنّ الإرهاب هو العدو الأكبر للحياة ومقاومته تبدأ من الفرد وصولا إلى المجموعة حيث علينا حسب رأيه أن نعمل أكثر ونقدّم لتونس أكثر كلما سقط شهيد آخر عوض الالتجاء إلى البكاء ونبذ الحياة.

seddik-quote-200

في البداية وقبل أن ينطلق الدكتور يوسف الصديق في الحديث على مدى تأثر القطاع الثقافي بالحداد المتواصل الذي تعيشه تونس جرّاء العمليات الإرهابية أشار إلى أنّ الحداد الفعلي بدأ منذ أن سُلبنا بعد 14 جانفي موقع المثقف العضوي كما يقول “غراهمشي”. فمنذ ما نبقى نسميه الثورة ونحن نعتقد أنّ الثقافة هي العجلة الخامسة التي لا نلجأ إليها إلا حين تتعطب إحدى العجلات الأربعة فيما كنا ننساها تماما عندما كانت العربة تسير. والآن لا بد لنا أن نعتقد أنّ الثقافة هي المحل الأول كما يقول المتنبي “الرأي قبل شجاعة الشجعان” هو أوّل وهي المحل الثاني” ذلك أنّ ما نخشاه على تونس من تدهور اقتصادي وتفكّك اجتماعي وتدمير لمنظومة التعليم ليس هو بالمسبب بل هو نتيجة لجهلنا بأنّ المشروع الثقافي هو العتبة لكل الفتوحات. فمثلا وجوب الحداد كأيام معدودات عند كل مصيبة يشير إلى أنّ العمل الثقافي الذي سنمتنع عنه خلال هذه الأيام لا يعدو أن يكون من الأمور الثانوية ومن الكماليات التي بإمكاننا الاستغناء عنها حتى نستكمل حدادنا ونوفي بديننا لشهدائنا وضحايا هذه المصيبة. هذا خطا فادح، يواصل الدكتور يوسف الصديق، فالامتناع عن ممارسة الثقافة كأن تمتنع الثكلى عن التنفس حتى تعتقد أنها في حالة حداد. علينا أن نعتبر أنّ كل مصيبة وكل استشهاد وبالمقابل كل انفراج وكل انتصار وكل ميلاد هي من المادة الخام التي لا بد أن تولّد ثقافيا وفكريا عوالم جديدة تحدّد آفاقنا وتحثّنا على السير إليها وإلى مستقبل تونس.
كما أشار الدكتور أنه في عالم الطب النفسي الحداد المتوالي هو مرادف لأخطر مرض نفسي وهو الاكتئاب ومن أعراضه اللجوء والالتذاذ بنفي الحياة، والمحطة الأقرب عندما يحيط بنا هذا المرض هو الانتحار. ويعتقد أنّ تونس بصدد الانتحار ثقافيا إذا ما واصل القطاع الثقافي تجميد نشاطاته إثر كل مصيبة تستوجب الحداد. فحسب رأيه ليس هناك سبب من منع الثقافة وليس هناك أي استتباع بين استشهاد إنسان وعرض مسرحي بل العكس تماما لأنّ المواطن اليوم وتحت ظل الضغط الكبير الذي يعيشه بحاجة ماسة إلى متنفس فني بالأساس يغذي فيه حبه للحياة ويبعث فيه الأمل الذي يزيل سوداوية المشهد ويجعله يحلم بغد أفضل.

ضغط نفسي، إكتئاب جماعي وربّما فقدان الرغبة في الحياة: قنابل موقوتة، هي جوهر الإرهاب تهدّد اليوم مجتمعنا من خلال ردود أفعال مثل تجميد الأنشطة الثقافية خلال فترات الحداد والتي ظاهريا لم تكن سوى تعبير عن حزنهم وتأثرهم بالفظائع التي تحصل لشعب تونس. إنّ الذي يريد أن ينهض بتونس وبشعبها مطالب اليوم بالتفكير جدّيا في تحصين وعي الشعب بأهمية العمل الثقافي خاصّة في هذه الفترة الحرجة من عمر البلاد وربما غلبة السياسي على الثقافي من أهم أسباب سقوطنا في فخ الإرهاب الذي يتغذى من الحزن والعزوف عن الفرح والحياة إذ أنّ الشعب التونسي في السنة الأخيرة وبشهادة عدد من المثقفين بات يتنفس ويعيش السياسة حتّى بعض مثقفينا وفنانينا لم يولوا الأهمية الكافية للثقافة مثلما فعلوا للسياسة رغم أنّ السياسة والثقافة وجهان لعملة واحدة وهي الوعي الاجتماعي بخطورة المرحلة التي تمرّ بها تونس.