mehdi-jomaa-dettes

بقلم محمد سميح الباجي عكاز

في العلاقات الدوليّة، لا وجود لصداقات دائمة، بل المصالح هي التي تتحكّم في طبيعة السياسات والتحالفات”

هكذا يعرّف الأمريكيّون السياسة الخارجيّة. حين أطلّ رئيس الحكومة التونسيّة مهدي جمعة مساء الثالث من مارس، تحدّث بإسهاب عن مشاكل الاقتصاد التونسيّ ومدى العجز الذي تعرفه ميزانيّة 2014، وأشار في نهاية الحوار عن نيّته اللجوء للدول “الصديقة” و”الشقيقة” قصد تغطية هذا العجز. ربّما ما تجنّب رئيس الحكومة قوله هو أنّ تونس ستدخل جولة جديدة من طرق الأبواب والشحاذة وأنّ سياسة “التسوّل” أصبحت الخيار الوحيد لتسكين معاناة الشعب التونسيّ من ارتدادات الأزمة الاقتصاديّة الخانقة المستمرّة منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات.

وقد بدأت بالفعل رحلة البحث عن المقرضين والمانحين عندما توجه مهدي جمعة منذ السبت الفارط البحث عن المقرضين والمانحين عندما توجه مهدي جمعة منذ السبت إلى الخليج العربيّ في زيارة عنوانها جلب الاستثمارات وتعميق العلاقات الاقتصاديّة وفي باطنها مواصلة ما بدأه الجبالي من سياسة “شبه رسميّة” للدولة التونسيّة تقوم على التسوّل والتداين وتسكين المشاكل لا حلّها.

الوضع الكارثي للاقتصاد التونسي

في حوار “المصارحة”، حاول رئيس الحكومة أن يوصّف الوضع الاقتصاديّ دون رتوش أو تلاعب بالأرقام والمعطيات، فتحدّث عن واقع الموازنات الماليّة للبلاد والتي تعرف عجزا مهولا بلغ هذه السنة ما يناهز 12 مليار دينار تونسي.

رقم مرعب بالنظر إلى حجم الديون التونسيّة التي بلغت خلال السنوات الأربع المنقضية 25 مليار دينار، والتي صُرفت معظمها باعتراف رئيس الحكومة في الاستهلاك ومصاريف الإنفاق التي قفزت من 4,5 مليار دينار سنة 2011 إلى 11 مليار دينار سنة 2014، بالإضافة إلى الترفيع غير المدروس للأجور بنسبة بلغت 41 % وفي الدعم الذي ارتفعت نفقاته بنسبة 270 % منذ 2011، وهو ما يجعلها قروضا “ميتّة” كونها لم تصرف في الاستثمار وبالتالي لن تكون لها عائدات تساهم في ردّها. وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول كيفيّة اتخاذ القرارات وهل من الطبيعيّ أن تمرّ مثل هذه المسألة مرور الكرام؟ فالخيار الذي اتخذ بالتداين وبمسالك صرف القروض سيتحمّل تبعاته لسنين طوال الشعب التونسيّ لا صاحب القرار، خصوصا أنّ الديون تستنزف ما يقارب ال50 % من الناتج المحليّ الخام للبلاد، ممّا يعيق جهود التنميّة ويجعل الاقتصاد الوطنيّ مسخّرا لسداد هذه القروض.

إذن تبدو الموازنات الماليّة لهذه سنة، والمخصّصة لحلّ المصاريف الاستهلاكيّة العاجلة، عاجزة عن الإيفاء بمتطلّبات الإنفاق العاديّة ناهيك عن الاستثمار والتشغيل وتطوير البنى التحتيّة، إذ يبلغ العجز المسجّل 12 مليار دينار وجب تغطيتها بحسب الحكومة بالقروض، أو الهبات. وهنا لم يواصل رئيس الحكومة في الصراحة التي بدأ بها توصيف الوضع في تونس، إذ بدأ يتحدّث عن ضرورة الاقتراض داخليّا عبر اكتتاب عموميّ يساهم فيه التونسيّون في تمويل ميزانيّة الدولة، وهو حلّ يبدو بعيد المنال وصعب التحقيق بالنظر إلى الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي يعيشها النّاس وإلى الانكماش الذي تشهده البلاد على صعيد الاستهلاك بالإضافة إلى المشاكل المعروفة كالتضخّم وغلاء المعيشة.

أمّا الحلّ الخارجيّ، فهو بحسب رئيس الحكومة، اللجوء إلى “الأصدقاء” و”الأشقاء” من أجل الحصول على الهبات والقروض؛ قروض جديدة ستزيد من إثقال كاهل الميزانيّة العاجزة أصلا وتكبّد الأجيال القادمة معاناة أعمق، فيبدو أنّ سلسلة التداين لن تنتهي قريبا، فمنذ ديون بن عليّ وحكومة الترويكا وصولا إلى حكومة التوافق، كانت القروض والتسوّل على عتبات “الأصدقاء” و”الأشقاء” الحلّ الأسهل لمعالجة الاحتقان الاجتماعي وشبح الانهيار الاقتصاديّ بدل العمل جدّيا على المشاكل الأساسيّة للقطاعات الاقتصاديّة التي تستنزف، نظرا لما أصابها من تشوّهات وإخلال، المال العام والقروض السابقة.

“أشقاءنا” في الخليج و”أصدقاؤنا” في أوروبا والولايات المتحّدة

بداية هذه السياسة البغيضة التي تزداد ترسّخا في ممارسات السياسيّين التونسيّين لم تكن وليدة الثورة أو نتيجة لتردّي الوضع الاقتصاديّ بعد 14 جانفي 2011، فبن عليّ كانت حاول جلب الاستثمارات الخليجيّة إلى تونس في أكثر من مناسبة سواء عبر مشروع سما دبي أو مصفاة الصخيرة، ولكنّ مناخ عدم الثقة ومحاولة المافيا الحاكمة في تونس للسيطرة على هذه الاستثمارات أو على الأقلّ نيل نصيب منها كانت تقف عثرة أمام ولوج “البترو دولار” إلى تونس بنفس حجم الثقل في الساحة اللبنانيّة على سبيل المثال. ولكن وبعد هروب بن عليّ، وصول النهضة إلى الحكم، بدت الأبواب مفتوحة على مصراعيها، لا لتدفقّ الاستثمارات الخليجيّة فحسب، بل والهبات “السخيّة” والقروض “المسهّلة” بحكم التقارب الإيديولوجيّ والوعود البرّاقة.

فعلى صعيد الاستثمارات، وكما تناولت “نواة” الموضوع في أكثر من مقال، فالاستثمارات الخليجيّة وإن كانت ضخمة على مستوى المبالغ المرصودة، فإنّها لم تكن بنفس النتائج المنتظرة، إذ اقتصرت تلك الاستثمارات على “المشاريع الآمنة” وشراء المؤسّسات والفنادق التي تمرّ بصعوبات ماليّة، وبالتالي تجاهلت بعث مشاريع من الممكن أن تخلق مواطن شغل جديدة في ظلّ مناخ اقتصاديّ صعب ونسب بطالة مرتفعة. وهنا يُطرح السؤال الأهمّ، هل ستقدم دول الخليج التي امتنعت في السابق على بناء علاقة اقتصاديّة تشاركيّة على منح تونس قروض طويلة الأمد أو هبات ذات قيمة حقيقيّة.

الإجابة تكمن في العودة قليلا إلى الوراء، فطبيعة القروض الخليجيّة تكون قصيرة الأمد وبنسب فائض مرتفعة، كقرض الصندوق السعودي للتنمية والبنك الإسلامي للتنمية، والذي بلغت نسبة الفائض فيه 2%، بالإضافة إلى الوديعة القطريّة التي أشار العديد من الخبراء إلى عدم جدواها، أو القروض القطريّة التي المشروطة والتي تملي فيها هذه الأخيرة طبيعة المشاريع التي ستصرف فيها المبالغ الممنوحة والتي تكون غالبا مشاريع عقاريّة أو سياحيّة والتي تتعارض تماما مع الأولويات العاجلة للاقتصاد التونسيّ والهدف الرئيسيّ من طلب القروض والهبات.

أما “أصدقاؤنا” الأوروبيون والأمريكيّون فتبدو قروضهم أكبر من حيث القيمة وطبيعة الاستثمارات الصناعيّة بالأساس، وهو ما تناولته “نواة” في مقال سابق، ولكن ارتدادات هذه القروض تثير الريبة حول الرغبة في السيطرة على الاقتصاد التونسيّة، فما يطرح حول تحويل القروض الفرنسيّة أو البلجيكيّة إلى مشاريع استثماريّة أجنبيّة مباشرة يعكس الهدف الرئيسيّ وهو السيطرة شيئا فشيئا على النسيج الاقتصاديّ الوطنيّ، كما أن الشروط الني يضعها المقرضون الأمريكيون والأوروبيّون والتي تكرّس هيمنتهم على الاقتصاد المحليّ وتصبّ في خدمة اقتصاديّاتهم كربط القروض والهبات بضرورة التعاقد مع شركات الدول المانحة سواء على مستوى التنفيذ أو التجهيزات.

التسوّل وسياسة الهروب إلى الأمام

عندما تشحّ موارد الدولة وتغيب إمكانيات التمويل الذاتي نتيجة ظرف اقتصاديّ صعب، يمكن أن تصبح القروض حلاّ مقبولا لدفع العجلة الاقتصاديّة وإعادة النشاط لمختلف القطاعات حتّى تتعافى و تصبح قادرة على إعطاء القيمة المضافة المرجوّة لتسديد القروض.
في تونس، الوضع يبدو مغايرا تماما، إذ وباعتراف رئيس الحكومة نفسه، فإنّ عجز الموازنات الماليّة يعود بالأساس إلى تفاقم الاستهلاك وغياب رؤية واضحة لمخطّط تنمويّ شامل، إذن فإنّ الاقتراض سيكون من أجل تغطية المصاريف الاستهلاكيّة، وهنا يكمن ضرر هذه القروض.

فتفاقم المديونيّة التونسيّة والتي تجاوزت خلال السنوات الأربع الأخيرة 25 مليار دينار تونسي، يستنزف كما اشرنا سابقا ما يقارب 50 % من إجمالي الناتج المحليّ، وهو ما يشكلّ عائقا أساسيا للمجهودات التنمويّة، إن نجاح منظومة التداين الخارجي مرتبط بشروط تتعلق بتمويل مشاريع ذات مردودية اجتماعية واقتصادية عالية تعمل على التخفيض من نسب البطالة وقادرة على تحقيق أرباح كافية لتغطية قيمة الديون من ناحية ومن ضمان استمرارية وديمومة المشاريع الاستثمارية من جهة أخرى. أمّا السياسة الحاليّة القائمة على التداين من أجل تغطية نفقات الاستهلاك، وإن حقّقت انفراجا “وهميّا” على المدى القريب، فإنّها لا تلبث أن تعود بنا إلى المربّع الأوّل من العجز والاختلال في الموازنات المالية ويصبح الاقتصاد بحاجة لمزيد من القروض وذلك للإيفاء باستحقاقات المديونية القديمة من جهة ولضخ مزيد من السيولة في الدورة الاقتصادية. وندخل هنا في مرحلة أشبه بعمليّة التنفسّ الاصطناعيّ للاقتصاد الوطنيّ الذي يصبح شيئا فشيئا غير قادر على الصمود دون تدفّق الأموال من الخارج، ولكن إلى متى ستستمرّ الدول المانحة لعب هذا الدور وماذا لو وصلنا مرحلة صارت فيها البلاد عاجزة عن تسديد فوائد الديون؟ وما هي الارتدادات الاجتماعيّة والاقتصاديّة لسيناريو مماثل؟

النقطة الثانيّة التي يجدر الانتباه إليها، هي أنّ اللجوء إلى التداين وتجاهل المشاكل الهيكليّة لمختلف القطاعات الاقتصاديّة لن يكون ذا جدوى تُذكر، بل سيتسبّب في إهدار المال العام وتفاقم مشاكل القطاعات الاقتصاديّة المتراكمة منذ عقود. فالأحرى قبل اللجوء إلى الاقتراض لإنعاش الدورة الاقتصاديّة وإعطاء دفع للنشاطات القطاعيّة المختلفة، البدء بمراجعة شاملة لمختلف الإخلالات التي تعاني منها الصناعة التونسيّة والفلاحة والسياحة حتّى تعطيّ القروض التي ستضخّ أُكلها. فالمشاكل الأساسيّة الكبرى للاقتصاد التونسيّ هي هيكليّة بالأساس وتعود لسوء التصرّف والتخطيط طوال عقود من الزمن نتيجة الفساد أو سيطرة المافيا الحاكمة سابقا على مفاصل بعض القطاعات أو لاعتبارات سياسيّة وأمنية بحتة طغت على الأولويات الاقتصاديّة.

فالسياحة التونسيّة على سبيل المثال لا تحتاج إلى القروض بقدر حاجتها لوضع رؤية جديدة للقطاع تقوم على تعصيره وتجديد أنماطه التقليديّة، كما هو الحال بالنسبة للفلاحة التي تعاني من المسالك الموازية للتوزيع و الأميّة الفلاحيّة وارتفاع المواد الضروريّة للإنتاج كالمحروقات والأسمدة والأعلاف وغيرها من المشاكل التنظيمية والتشريعيّة التي تشمل جميع القطاعات.

نقطة أخرى في غاية الأهميّة رغم بعدها نسبيّا عن موضوع التداين، تخصّ الرئيس المخلوع زين العابدين بن عليّ، فكما أكّد وزير الخارجيّة التونسيّ منجي حامدي، فإنّ زيارة مهدي جمعة للسعوديّة لن تشمل مسألة تسليم بن عليّ، كما فعل من قبله رئيس الحكومة السابق حمّادي الجبالي، وهنا من حقّنا أن نتساءل؛ هل تحوّل بن عليّ ورقة للمقايضة؟ وهل أنّ دماء الشهداء وحقّ أهاليهم في القصاص وتقديم بن عليّ للمحاكمة صارت مسالة تخضع للتجاذبات السياسيّة والابتزاز الدوليّ؟؟ وهل أنّ وعود السعوديّة بالهبات والقروض تمنحها حقّ إيواء مجرم هارب نكّل بالشعب التونسيّ وقمعه طيلة 23 سنة؟ وأخيرا من منح الحقّ لرؤساء الحكومات المتعاقبة للمفاوضة بورقة بن عليّ والتفريط في حقّ من سقطوا من أجل أن يجد هؤلاء أنفسهم اليوم في الحكم.

إنّ الهروب إلى الأمام عبر البحث عن الحلول السهلة والمهينة لن يخدم بأيّ حال من الأحوال الاقتصاد الوطنيّ الغارق في الأزمات الهيكليّة، فالتداين والاقتراض من أجل تهدئة المناخ الاجتماعيّ والسياسيّ مرحليّا وإن نجح ظرفيّا فإن انعكاساته السلبيّة ستشمل الأجيال القادمة ولعقود طويلة، وليس من حقّ أيّ كان أن يصادر مستقبل أجيال الغد تحت أيّ ظرف أو مسمّى.