wided-bouchammaoui-treve-sociale

بقلم محمد سميح الباجي عكاز،

يسرقون رغيفك .. ثم يعطونك منه كِسرة .. ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم… غسّان كنفاني

طالبت السيّدة وداد بوشمّاوي في بيان صادر عن منظّمة الأعراف في 11 مارس الفارط بهدنة إجتماعية ووقف الإضرابات والإعتصامات لما تمثّله من تهديد للإستثمار وجهود التنمية ولديمومة المؤسّسات والمشاريع القائمة.

الجميع يتّفق على أنّ أساس النمو الإقتصاديّ هو الإستقرار الأمنيّ والسياسيّ واستتباب حالة السلم الإجتماعي… طبعا من الناحية النظريّة هذا هو المطلوب لبدء أيّ خطوات في اتجاه الإصلاح الإقتصاديّ المنشود في تونس. ولكنّ حالة السلم الإجتماعي أو ما طالبت به مؤخّرا السيّدة وداد بوشماوي من “هدنة إجتماعيّة” يبدو صعب التحقيق في ظلّ استمرار حالة الترّدي الإجتماعي والإقتصاديّ للطبقة العاملة في تونس، بل تتحوّل مطالبتهم بهدنة إجتماعيّة وتحميلهم مسئوليّة تأزّم الوضع الإقتصاديّ إلى جور وتجنّي. وهنا وجب على أصحاب المؤسّسات والمشاريع أن يتساءلوا لوهلة، هل الشغّيلة وحدهم من يتحمّل مسئوليّة تزايد الإضرابات؟ وهل هذه التحرّكات الإحتجاجيّة مجرّد شغب مجّانيّ أم هي ردّة فعل على واقع التشغيل وظروفه؟
ربّما، إلا أنه من أجل أن تكون الرؤية الإصلاحية متكاملة وواضحة، على الجميع أن يتحمّل المسئوليّة بشجاعة، لا أن يبحث عن شمّاعة اهترأت بعد أن علّق عليها الجميع أخطائهم.

بيان الأعراف أمام تزايد موجة الإحتجاجات

خلال الإجتماع الدوريّ الذي عقده المجلس الوطني للإتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة في 11 مارس 2014 برئاسة السيّدة وداد بوشمّاوي، دعا هذا الأخير إلى ضرورة الإنتباه للمخاطر الكبرى التي يمثلها اللجوء للإضرابات والإعتصامات وتعطيل المصانع وآليات الإنتاج في هذا الظرف الذي تمرّ به البلاد، مشيرا إلى العواقب الوخيمة لمثل هذه التصرّفات على الإقتصاد الوطني بصفة عامة وعلى الإستثمار بصفة خاصة، كونها تساهم في تعطيل الجهود المبذولة لخلق فرص عمل جديدة بل وتهديدها لمواطن الشغل القائمة.

وفي نفس السياق، دعا إتحاد الأعراف مختلف الأطراف إلى الوعي بالمخاطر التي تنطوي عليها مثل هذه الأوضاع الإجتماعية المتوترة مشدّدا على أنّ الحوار الجاد والمسئول واحترام القانون يبقيان السبيل الوحيد لحل المشاكل الإجتماعية الطارئة وفض النزاعات الشغلية بالمؤسسات وذلك من أجل الحفاظ على مناخ إجتماعي سليم، وإعادة الإعتبار لقيمة العمل.
طبعا لا خلاف حول ضرورة إعادة الإعتبار لقيمة العمل أو الوضع المتردّي الذي وصل إليه الإقتصاد التونسيّ وتراجع الإستثمارات الأجنبية منها والمحليّة، ولكنّ نقطة الخلاف تكمن في من يتحمّل حقيقة مسؤوليّة تصاعد الموجة الإحتجاجيّة بعد 14 جانفي 2011، وما هو السبب الحقيقيّ وراء تزايد الإضرابات والإعتصامات.

في البيان الصادر عن منظّمة الأعراف، يبدو أنّ المسئوليّة قد ألقيت بأكملها على التحرّكات الإحتجاجيّة وأنّ مطالبة الشغّيلة بحقوقهم المهنيّة هي السبب وراء تراجع الإستثمارات وإغلاق المؤسّسات وتراجع أداء الإقتصاد التونسيّ. إلا أن البيان لم يشر إلى خلفيّة هذه التحرّكات و إلى الأسباب التي دفعت بالناس إلى تصعيد أحتجاجاتهم.

إن تصاعد الموجة الإحتجاجية والتحرّكات المطلبيّة منذ سنة 2011، لم تكن وليدة فراغ أو مجرّد استعراض عضلات من النقابات، بل كانت نتيجة تفاقم الأوضاع الإقتصادية للعملة والفلاحين والموظّفين التونسيّين في ظلّ إطار اقتصاديّ هشّ ومنهار.
وحسب الإحصائيّات الرسميّة، فقد تضاعفت نسبة الإضرابات بين سنتي 2010 و2012 بنسبة 105 %، في كلّ الجهات تقريبا وفي مختلف القطاعات، لتشمل ما يقارب 411 مؤسّسة عموميّة وخاصّة، وقد أدّت هذه الإضرابات إلى إغلاق العديد من المؤسّسات وفصل الآلاف من العمّال كما حدث مع مجمع “يازاكي” الياباني لإنتاج “كابلات” السيارات في أمّ العرايس وغيرها من المؤسّسات الأجنبيّة والمحليّة والتي تجاوز عددها سنة 2012 ما يزيد عن 160 شركة، وهو ما أحال ما يقارب 12370 شخصا على البطالة حسب إحصائيات وكالة النهوض بالصناعة.

هذا الرقم الكبير من التحرّكات الإحتجاجيّة يكتسي بعدا كبيرا إذا ما ركّزنا على نسبة المشاركة التي تجاوزت في أغلب الإضرابات نسبة ال56 % وهو ما ينفي عنها الإتهامات التي تركّز على محدوديّتها وطابعها المُسيّس كما يحاول البعض تصوير الأمر. فبنسبة مشاركة مماثلة ينبغي على الجهات المشغّلة من خوّاص وجهات رسميّة أن تتوقّف على السبب الحقيقيّ الذي يدفع بفئات واسعة وأعداد كبيرة من القوى العاملة في تونس إلى الإضراب عن العمل وتصعيد المواجهة، وأن لا تكتفيّ بنظريّة المؤامرة وإلقاء التهم على الخصوم السياسيّين في محاولة منها لتسطيح المشكلة.

الهدنة الإجتماعيّة؛ على عاتق من تقع المسئوليّة؟

لتحديد مسؤوليّة الهدنة الإجتماعية، وقبل إصدار الأحكام جزافا على التحرّكات النقابيّة المطلبيّة ينبغي إلقاء نظرة متفحصّة على واقع التشغيل في تونس والوضع الإقتصاديّ العام الذي لا يمكن فصله عن مسألة الإضرابات.

فالبلاد ومنذ ما يزيد عن ثلاث سنوات تعيش حالة من التردّي الإقتصادي الذيّ أدّى إلى ارتفاع نسبة التضخّم بشكل محسوس وهو ما أدّى إلى ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائيّة للمواطن التونسيّ. فقد بلغت نسبة التضخّم خلال شهر مارس 2014 نسبة 5.8 %. ولكنّ هذا الرقم يبقى عامّا ولا يعكس بشكل واضح حدّة الأزمة وتأثيرها على حياة المواطنين و على مقدرتهم الشرائيّة. فهو يبقى معطى نسبيّا وعاماّ، إذ تختلف النسبة من قطاع إلى آخر ومن منتوج إلى آخر، فقد شهدت الأسعار ارتفاعا كبيرا، وبالأساس أسعار مجموعة التغذية والمشروبات التي ارتفعت بنسبة 7.8% على مدى سنة بين أكتوبر 2012 وأكتوبر 2013، و قد فسر المعهد الوطني للإحصاء نسبة التضخم بارتفاع أسعار اللحوم 9.3% والزيوت الغذائية 23.5% والغلال ب10.8% والمشروبات %5 والمشروبات الكحولية 14.2%. وتطورت أيضا أسعار اللباس والأحذية والأقمشة بنسبة 4.4%، علما وان نسبة الإنزلاق السنوي للمواد الغذائية بلغت نسبة 9.3%.

كما ارتفعت أسعار خدمات النقل العمومي والخاص بنسبة 5.6% وكذلك أسعار السيارات بنسبة 5%، وعرف مؤشر مجموعة السكن والطاقة المنزلية بدوره خلال ديسمبر 2013 زيادة بنسبة 5.1% مقارنة بأكتوبر 2012 نتيجة ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز والوقود ب 4.8% وأسعار الإيجار 5.2% وسجل مؤشر أسعار الإستهلاك العائلي زيادة بنسبة 0.9% خلال شهر ديسمبر 2013.

إزاء هذا التطوّر الكبير في أسعار المواد الإستهلاكيّة المختلفة، فإنّ نسق ارتفاع الأجور كان أقلّ بكثير من المطلوب لإحداث التوازن بين المقدرة الشرائيّة للمواطن وارتفاع الأسعار. وهنا تكمن أهمّ أسباب التحرّكات الإحتجاجيّة في مختلف القطاعات. إذ أنّ المؤسّسات الخاصة و العموميّة لم تستطع مجاراة التغيّرات الحاصلة في السوق الإستهلاكيّة على صعيد الأجور المقدّمة وهو ما خلق عجزا أمام الموظفين والعملة الذين لم تعد جرايتهم قادرة على تغطية استهلاكهم اليوميّ ونفقاتهم الإعتياديّة من أكل وملبس وسكن وتنقّل، حيث لم تتطوّر الأجور في المؤسّسات الخاصّة على سبيل المثال إلاّ بنسبة 2% على أقصى حدّ خلال سنة 2013 حسب معطيات المعهد الوطني للإحصاء، كما أنّ الحدّ الأدنى للأجور في تونس لم يتجاوز اليوم وفي ظلّ هذا الارتفاع المشطّ للأسعار عتبة 280 دينار وهو مبلغ لا يمكن أن يفي بأي حال من الأحوال باحتياجات المواطن التونسيّ أو أن يضمن له العيش الكريم.

العامل الأساسي الثاني الذّي يدفع نحو تزايد موجة الإضرابات هي ظروف العمل في المؤسّسات وطبيعة العلاقات الشغليّة. فمن ابرز المشاكل التي يعاني منها قطاع التشغيل في تونس نجد معضلة التشغيل الهشّ، إذ تتجاوز نسبة المشتغلين بعقود محدّدة المدّة أو وفقا لآليات التشغيل كمنظومة تربّصات الإعداد للحياة المهنيّة SIVP والتي تتجاوز نسبة 60% من نسبة العاملين. وهي آليّات ضعيفة للتشغيل ولا يمكن أن تضمن عملا قارّا ودائما للمواطن التونسيّ وتجعل من احتمال الطرد أو عدم التجديد فرضيّة عالية ممّا لا يسهم فعليّا في الحدّ من نسبة البطالة. بالإضافة إلى مسألة التشغيل الهشّ، فإنّ “الترسيم” أو غياب عقود منظّمة للعلاقة بين العامل والمشغّل تمثّل هي الأخرى أحد أهمّ أسباب الإضرابات والإحتجاجات، إذ أنّ العديد من المؤسّسات الخاصّة تلجأ إلى هذه الآليّات هربا من الأعباء الإجتماعيّة والإلتزامات المهنيّة مما يزيد من الضغط النفسيّ على اليد العاملة و يقلص من حجم الأجور. هذا دون أن ننسى حالات الطرد التعسفيّ التي تحوّلت إلى أداة عقاب جماعيّة للمضربين ولكلّ من يحاول الدفاع عن حقوقه كما حصل مؤخّرا لعمّال شركة “خالد القبّي” أو مجمّع ليوني والأمثلة كثيرة.

إذن وقبل الحديث عن ضرورة الحدّ من الإضرابات والإعتصامات والتشديد على ما تسبّبه من خسائر للشركات والإقتصاد الوطنيّ، كان من الأجدر لمنظّمة الأعراف أن تراجع سلوكيّاتها تجاه العمال وأن تراعيّ الوضع الإقتصاديّ العام وارتفاع التضخّم في تحديد الأجور وتنظيم العقود والعلاقات الشغليّة مع العمّال والموظّفين. فالإضرابات، وكما أثبتت الإحصائيات التي نشرها مكتب الدراسات التابع لوزارة الشؤون الإجتماعيّة، كانت في أغلبها للمطالبة بتحسين ظروف العمل واحتجاجا على تأخّر صرف الأجور، وكأنّ المواطن التونسيّ لا يكفيه ما يثقل كاهله من غلاء الأسعار حتّى يعاني من تأخّر صرف مستحقاته. وقد أشارت الدراسة المذكورة إلى أنّ نسبة 84% من الإضرابات تعود للأسباب المشار إليها سابقا ولا علاقة لها بالحسابات أو التجاذبات السياسيّة.

مسألة أخرى وجب الوقوف عندها ونحن نتناول هذا الموضوع، وهو موقف الدولة ودورها صلب هذه العلاقة المتوتّرة بين أصحاب المؤسّسات و اليد العاملة. فمن الطبيعيّ أن تسعى الدولة لحماية الشغّيلة من تغوّل أصحاب المؤسّسات وأن تسعى لضمان حقوقهم وأن تكون الضامن لعلاقة متوازنة بين المشغّل والأجير عبر التدخّل المباشر في فضّ النزاعات أو عبر وضع المنظومات القانونيّة التي تحمي حقوق العملة. ولكن في تونس وقبل 14 جانفي كانت الدولة، ولحسابات أمنية وانخراط المسئولين في منظومة الفساد، تعمل على قمع التحرّكات الإحتجاجيّة ذات الطابع المطلبيّ وتماطل في القطاع العموميّ خلال مفاوضاتها مع النقابة. كانت تسعى إلى إشاعة نوع من الإستكانة والرضا بالموجود عبر الحلول الأمنيّة. ولكن وبعد 14 جانفي، وعوض أن تعدل الدولة من موقفها وتعود إلى لعب دورها الطبيعيّ، ظلّت تلتزم الحياد السلبيّ لصالح المؤسّسات الخاصّة سعيا منها إلى استرضاء أصحاب الشركات وضمان استمراريّة العمل على حساب نوعيّته وظروفه. كما دخلت خلال حكم النهضة في مواجهة مفتوحة مع الإتحاد العام التونسي للشغل من منطلق قناعة مفادها أنّ تلك الإضرابات مُسيّسة تهدف إلى إحراج الحكومة واستغلال التصعيد النقابيّ لأغراض سياسيّة وحزبيّة متناسية أنّ الظروف الإجتماعية والإقتصاديّة كانت السبب الرئيسيّ لتصاعد الإحتجاجات والإضرابات.

mehdi-jomaa-200

الإضرابات في “العهد الجديد”

بعد ماراطون الحوار الوطنيّ، والإتفاق على حكومة توافقيّة، لم يتغيّر حال البلاد كثيرا على الصعيد الإقتصاديّ، بل تواصل نسق الإنحدار وبشدّة و هو ما كشف عنه رئيس الحكومة الجديد مهدي جمعة في حواره التلفزيّ أوائل شهر مارس الفارط. ولكنّ وحسب تقارير صادرة عن وزارة الشؤون الإجتماعيّة، فقد انخفض عدد الإضرابات بنسبة 24% بالنسبة لنفس الفترة من سنة 2012 و بـ 30 %بالنسبة لسنة 2011، كما انخفض عدد المؤسسات المعنية بهذه الإضرابات في سنة 2013 مقارنة بسنة 2012 بنسبة 35 %و بـ 15% مقارنة بسنة 2011. ولكنّ سرّ الإنخفاض لا يكمن في وجود حالة من الإنفراج الإقتصاديّ أو تغيّر واقع قطاع التشغيل، بل في سياسة مهدي جمعة في مواجهة تلك الإضرابات.

لقد اعتمد رئيس الحكومة الجديد على سياسة ترتكز على ثلاث أساليب لمواجهة الإضرابات التي قد تشهدها مختلف القطاعات؛ الأسلوب الأوّل ارتكز على تجاهل الإضراب وتعمية العيون عنه وهو ما حصل خلال إضراب بن قردان الذي مرّ مرور الكرام أو الإعتصام الذي شهدته منطقة باب بنات للمعلّمين المعوّضين الذي استمرّ لفترة لا بأس بها وغابت عنه وسائل الإعلام بشكل مثير للإستغراب. أمّا الأسلوب الثاني فهو التسخير، وقد اعتمد مهدي جمعة قانون السخرة لضرب إضراب الديوان الوطني للإرسال الإذاعي والتلفزي والذّي كان مقرّرا أيّام 21 و22 و23 فيفري 2014، حين أصدرت رئاسة الحكومة قرارا حكوميا رسميا يمنع الإضراب، تماما كما حصل حين تمّ تسخير أعوان شركة النقل في أواخر شهر فيفري لقطع الطريق أمام الإضرابات المتكرّرة في هذا القطاع. أمّا الأسلوب الأخير فيعتمد على سياسة المهادنة مع الإتحاد العام التونسي للشغل ومحاولة التفاهم معه لتعطيل الإضرابات خصوصا في القطاعات الحسّاسة كما حصل بالنسبة للإضراب الذي كان مقرّرا لأعوان البريد وأعوان السكك الحديديّة.

إذن يبدو أنّ رئيس الحكومة الجديد يحاول جاهدا السيطرة على نسق الإحتجاجات العمّاليّة في تونس مستفيدا من موقف اتحاد الشغل الذي يجد نفسه اليوم “مجبرا” في موقع التحالف مع حكومة كان شريكا في تنصيبها ومحرجا من أن تفشل عند أوّل منعطف، بالإضافة إلى المناخ العام الذي يلفّه الترقّب والأمل في تغيير ما، والأهمّ يبدو أنّ سياسة الترهيب من الجوع المنتظر و التلويح بخطر انهيار كلّ شيء في حال تواصلت الإضرابات قد أتى أكله بعض الشيء، ولكن السؤال يبقى قائما؛ فإلى متى سيتمكّن هذا الأخير من السيطرة ولو نسبيّا على الوضع، خصوصا في ظلّ تواصل الأزمة الإقتصاديّة واقتراب الإستحقاق الإنتخابيّ الذي سيحوّل الورقة النقابيّة والإقتصاديّة عموما إلى ورقة للعب والمزايدة.