الرابع عشر من ماي كان موعد المؤتمر الصحفيّ الذي عقده رئيس الحكومة مهدي جمعة لاستعراض انجازات حكومته بعد 100 يوم من تنصيبه إثر ماراتون الحوار الوطني الذي جمع كلّ الأحزاب تقريبا بالإضافة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظّمة الأعراف.
قبلها بشهرين تقريبا، استعرض مهدي جمعة الصعوبات الإقتصاديّة التي تعرفها البلاد وحاول مصارحة الشعب بحقيقة الوضع الإقتصاديّ ورؤية الحكومة للمرحلة القادمة والخطوات الواجب اتخاذها لإيقاف حالة التدهور. وفي خطاب المائة يوم، ورغم تناوله الملّف الإقتصاديّ، إلاّ أنّ التركيز كان على جهود الحكومة ونجاحها في محاربة الإرهاب ومحاصرته. وظلّ السؤال، ماذا تغيّر فعليّا على المستوى الإقتصاديّ بعد مائة يوم من قدوم “حكومة الإنقاذ”؟

خطاب الاستعراض والوعود

كان الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة مهدي جمعة بمثابة جرد لحصيلة الوعود والإلتزامات التي تعهّد بها هذا الأخير عند تنصيبه، وقد أسهب رئيس الحكومة في استعراض الانجازات الأمنيّة خلال “عهده” وتمكّنه من صدّ الإرهاب والقضاء عليه. وقد أخذ الحديث عن جهود الحكومة على المستوى الأمنيّ حيّزا هامّا من خطابه، حيث تحدّث عن نجاح الإستراتيجية التي وضعها الفريق الحكوميّ لمكافحة هذا التحدّي الأمنيّ الخطير والتي تعتمد على المعالجة الداخليّة عبر تشديد الرقابة على الجماعات الإرهابية وأخذ زمام المبادرة وتوسيع الجهود والتعاون على المستوى الإقليمي لمحاربة الإرهاب، مشيرا إلى أنّ هذا الرهان كان الأهمّ بالنسبة إليه، حيث يعتبر الملفّ الأمنيّ وعامل الاستقرار العنصر الأهمّ في مرحلة الإصلاح الإقتصادي. وقد شدّد على أنّ الهدف الأساسي لهذه الحكومة هو إنهاء الفترة الإنتقالية و إيصال البلاد إلى انتخابات حرة و شفافة و نزيهة قبل موفى 2014 في ظلّ استقرار أمنيّ يكفل نجاح المرحلة المقبلة.

أمّا على المستوى الإقتصاديّ، فتحدّث رئيس الحكومة عن تحسين مناخ الإستثمار والعمل الدؤوب للحكومة من أجل جذب الإستثمارات الخارجيّة بالإضافة إلى ضرورة تغطية العجز الذّي تعاني منه موازنة الدولة والذي بلغ 12 مليار دينار، وقد أعلن عن نيّة حكومته العمل على معالجة هذه الأزمة واتخاذ العديد من الإجراءات كاتباع سياسة التقشّف في المصاريف العموميّة وضرورة مراجعة منظومة الدعم والعمل على ترشيدها بالإضافة إلى إصلاح القطاع المصرفيّ العموميّ ومحاربة التهريب وعمليّة الاكتتاب الوطني.

سياسة الرتوش

عندما تناول رئيس الحكومة الجانب الإقتصاديّ، ذكّر السامعين بخطاب”المصارحة” الذي توجّه به إلى الشعب في مارس الفارط ليشرح بشفافيّة الوضعيّة الراهنة للإقتصاد التونسيّ، ولكن خطابه في هذا الشأن لم يخلو من ذكر لما يعتبره مهدي جمعة انجازات وإصلاحات للاقتصاد التونسيّ المتعثّر. وقد تناول ما يلي:

على مستوى الإستثمار الأجنبيّ

المراهنة على رؤوس الأموال الأجنبيّة في دفع النمو الإقتصاديّ يبدو من خلال التجربة التي عايشتها تونس خلال عقود مضت، رهانا محفوفا بالمخاطر، إذ تختلط الإستثمار بالحسابات السياسيّة وتتحوّل الشركات إلى مراكز قوى داخل البلاد المضيفة لترتهن شيئا فشيئا السيادة والإرادة الوطنيّة.

إنّ الجوانب السلبية للإستثمار الأجنبي تتمثّل خصوصا في تمتع الشركات الدولية والأجنبية الكبري بقدرات مالية وتنظيمية عالية لا تتوفر للشركات الوطنية وبذلك تستطيع فرض توجهاتها الإنتاجية و التشغيلية والتسويقية و فرض شروطها التي تهدف لتحقيق أكبر قدر من الأرباح بشكل يعلو فوق أي هدف آخر. ولتلك السيطرة مخاطر كبيرة علي المستويين الإقتصادي و السياسي. العيب الثاني، هو أن المستثمرين الأجانب غالبا ما يتعاملون مع الموارد بشكل استنزافي مما يؤدي إلى تسريع استهلاك هذه الموارد الطبيعية وتحويل عائداتها إلي الدولة الأم مما ينعكس سلبا على الدولة المضيفة على المستوي البعيد. الجانب الثالث هو كبر حجم الأموال المحولة إلي الخارج كأرباح مما يؤثر سلبا علي ميزان المدفوعات. كما أنّ المطّلع على طبيعة الإستثمارات الأجنبيّة في تونس يلاحظ مشكلة أخرى وهي تركيز المستثمر الأجنبي علي قطاعات بعينها (الطاقة،الاتصالات، المقاولات والبنوك ) دون مراعاة استراتيجيات وخطط التنمية للبلد المضيف.

كما أن الخطوة الأخيرة المتمثّلة في تعديل مهلة منح رخصة الوالي والتي يكمن الهدف منها إلى تشجيع الإستثمار في مجال العقّارات ستتسبّب أزمة كبرى على صعيد الأسعار التّي ستتجّه حتما نحو الإرتفاع، ممّا سيؤثّر على سوق العقّارات في تونس وعلى رأس المال المحليّ والمواطن العاديّ على حدّ سواء.

فالإستثمار العقّاري ورغم أنّه يُعرف “بالاستثمار الآمن”، لكنّه “استثمار ميّت”، إذ ترصد له مبالغ هائلة مقابل مردوديّة ضعيفة على مستوى التشغيل الدائم والقيمة المضافة للإقتصاد الوطنيّ، وهو آخر ما تحتاجه تونس في هذا الظرف الإقتصاديّ الصعب الذي تمثّل البطالة وارتفاع عجز الموازنات أهمّ سماته.

على مستوى الاستثمار المحلّي ورؤوس الأموال التونسيّة

تشوب عمليّة تشجيع الإستثمار المحليّ مشاكل جمّة لم تجد طريقها للحلّ حتّى هذه اللحظة، فآليّات التشغيل الحاليّة ضعيفة ولا يمكن أن تضمن عملا قارّا ودائما للمواطن التونسيّ وتجعل من احتمال الطرد أو عدم التجديد فرضيّة حاضرة على الدوام، ممّا يتسبّب في العلاقة المتوتّرة بين العامل التونسيّ والمشغّل المحليّ. هذا بالإضافة إلى عدم اكتمال بلورة مجلّة الإستثمار الجديدة والمصادقة عليها بعد أن تمّ سحبها للمراجعة في الأسبوع الماضي، ممّا يجعل المناخ ضبابيّا بالنسبة للمستثمر التونسيّ. هذا دون أن نغفل عن مسألة الديون المتراكمة على المستثمرين ورؤوس الأموال المحليّة والتي ناهزت 7 ملايين دينار تونسي حسب القائمة التي تم الكشف عنها في المجلس الوطني التأسيسي.

على مستوى القطاع المصرفي العمومي

تحدّث مهدي جمعة عن سعي الحكومة لاعادة هيكلة القطاع البنكيّ العموميّ، ولكنّه تجاهل توضيح التمشّي النهائيّ لهذه المصارف التي تعاني منذ سنوات من أزمة خانقة. فبعد انتهاء عمليّة التدقيق، هل ستسعى الحكومة إلى دمج هذه المصارف أو إلى خصخصتها كخطوة أولى في تنفيذ أملاءات البنك الدوليّ الذي يطالب بتغييرات جذرية للإقتصاد التونسيّ لعلّ أبرز محاورها استقالة الدولة من دورها في الحياة الإقتصاديّة. وتقوم خوصصة المصارف الحكوميّة على أساس قيام الدولة بتحويل ملكية المصارف جزئيا أو كليا إلى القطاع الخاص المحلي أو الأجنبي.

على مستوى الاكتتاب الداخلي

على رغم إجماع العديد من الخبراء على أهميّة عمليّة الإكتتاب العموميّ ودوره في حلّ جزئيّ للأزمة الراهنة، إلاّ أنّها تبقى حلاّ ظرفيّا غير قادر على حلّ مشاكل الإقتصاد التونسيّ برمتّه، إذ أنّ المشاكل الهيكليّة التي تنخر الإقتصاد المحليّ أكبر من أن تحلّها مساهمات المواطنين المنهكين بطبعهم من مخلّفات الأزمة المستمرّة منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات نتيجة غلاء المعيشة وارتفاع نسبة التضخّم ممّا أدّى على تآكل الطبقة الوسطى وانهيار مقدرتها الشرائيّة.

على مستوى الضغط على المصاريف العموميّة

لم يخف مهدي جمعة في خطابه حجم النزيف الذي تعاني منه المؤسّسات العموميّة على مستوى المصاريف وإهدار المال العامّ، وقد أعلن أنّ الحكومة بصدد العمل على الحدّ من هذه المشكلة، ولكنّ في الوقت الذّي ترتفع فيه التحذيرات الحكوميّة من تواصل العجز وتدهور الوضع الإقتصاديّ وتفاقم المصاريف العموميّة وعجز الدولة عن الإيفاء بتعهّداتها ومخصّصات الإنفاق، رُصدت للمجلس الوطني التأسيسي لسنة 2014 ما يقارب 25,234 مليون دينار كنفقات تصرّف، أمّا مؤسّسة الرئاسة فقد بلغت مخصّصاتها 78,256 مليون دينار. وهو ما يطرح أكثر من تساؤل حول جدّية الحكومة، فهل فقط سيتحمّل الموظّف وحده تبعات سياسة التقشّف؟

على مستوى منظومة الضمان الإجتماعي

تبدو وضعيّة المنظومة الإجتماعيّة صعبة للغاية مع بعض التفاوت بين مختلف الصناديق، إذ يبلغ عجز صندوق الضمان الاإجتماعي 80 مليون دينار، أمّا صندوق التأمين على المرض فقد بلغ به العجز 17.5 مليون دينار. ولكنّ الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية فيبدو أكثر المنظومات تضرّرا بعجز بلغت قيمته 123 مليون دينار سنة 2014، وهو ما دفع بالعديد من المسئولين إلى الدعوة لإصلاح المنظومة ومراجعة قواعد الإحتساب وسنّ التقاعد، أمام رفض الإتحاد العام التونسيّ للشغل المس بمنظومة الضمان الإجتماعي باعتبارها مكسبا وطنيّا وشعبيّا لا يجب التنازل عنه.

على مستوى مراجعة عقود استغلال الثروات الباطنيّة

حتّى هذه اللحظة لم تتّخذ الحكومة أي قرار بخصوص مراجعة عقود استغلال الثروات الوطنيّة كما وعد بذلك رئيس الحكومة الجديد أمام كلّ التونسيّين قبل تنصيبه. فما تزال الأمور غامضة حول العديد من عقود الاستغلال وامتيازات التنقيب الممنوحة للشركة العامة للملاحات التونسية كوتوسال وشركة بوشمّاوي النفطيّة وقضيّة “سراورتان” وغيرها من الأسماء التي تتعمّد الحكومات المتتالية التعتيم عليها في الوقت الذي تمّت دسترة سيادة الدولة على مواردها الطبيعيّة، و كأن هذا الفصل سيظلّ حبرا على ورق.

على مستوى “ترشيد” الدعم

حتى قبل تولّي مهدي جمعة مقاليد السلطة، كان صندوق الدعم أحد المسائل الشائكة التي حاولت الحكومات المتتالية معالجتها وسط رفض شعبيّ قويّ المس بما يُعتبر الرئة الاخيرة التي تمكن الفئات الضعيفة و المتوسطة من “التعايش” مع واقع ارتفاع الأسعار و التضخّم. ولكنّ حكومة مهدي جمعة تبدو مصرّة على تعديل منظومة الدعم بدعوى انتفاع الكثير من الميسورين بها، وهو ما يطرح تساؤلا حول منهجيات الفرز والتفريق التي ستعتمدها الحكومة و هل ستتمكن الحكومة من تطبيق الصيغة التي اقترحتها و سمّتها بالمعرّف الوحيد،و كيف سيتم توزيعها وعلى من؟ على العائلات المعوزة و كافة أفرادها؟ وهل ستتمكن الحكومة من إحصاء كل هذه الحالات خلال الأشهر القليلة المقبلة؟ وبأي معايير سيتمّ تحديد الفقر في وقت تآكلت فيه الطبقة الوسطى وانهارت مقدرتها الشرائيّة.

معالجة ارتدادات الثورة لا يكون بمحاكمة شبابها

ما تناسى السيّد مهدي جمعة ذكره، هو الإنجازات الحقيقيّة لحكومته خلال المائة يوم المنقضيّة، فقد اطلق سراح المسئولين عن حماية النظام السابق وتمّ اصدار حكم عسكريّ جائر هضم حقّ شهداء وجرحى الثورة، كما بدأت مرحلة العقاب الجماعيّ لشباب الثورة عبر المحاكمات والإيقافات التي طالت العديدين كصفوان بوعزيز، شباب بوزيّان، محاكمات صفاقس و أجيم جربة و المنستير وأخيرا عزيز عمامي وصبري بن ملوكة، وليستعيد الجهاز الأمنيّ سطوته وعنفه المعهود والذي تجسّد في أحداث تطاوين والرديّف وأخيرا في شارع الحبيب بورقيبة يوم السبت 17 ماي حين اعتدى رجال الأمن على المحتجّين السلميّين.

وأخيرا، ربّما وجب تذكير الحكومة بآخر انجازاتها على الصعيد الإعلامي حين تعامل مسئولوها بتعال مع الصحفيّين في أكثر من مناسبة وهو ما دفع النقابة إلى إصدار البيانات المحتجّة على تجاهل الحكومة لمطالب الإصلاح في هذا القطاع بالإضافة إلى البيان الأخير المندّد بالاعتداءات التي طالت الصحفيّين في شارع الحبيب بورقيبة يوم السبت الماضي.

هذا الخطاب الذّي استعرض فيه رئيس الحكومة “انجازات” فريقه” طيلة مائة يوم، لم ينتبه هذا الأخير إلى لأنّ الوضع الإقتصاديّ الملموس لم يتغيّر فيه شيء، بل على العكس، وخلال هذه المائة يوم، لم يشهد المواطن سوى تهاطل مئات الصور لأفراد الحكومة خلال جولاتهم والتي لم تُغن ولم تُسمن من جوع.