Greve-de-la-faim

بقلم محمد سميح الباجي عكاز


لا ضحيَّةَ تقتل الأخرى….
هنالك في الحكاية قاتلٌ وضحيَّةٌ.
محمود درويش

عندما تنعدم الحلول ويصبح الصمم الإراديّ والتجاهل هو الردّ الرسميّ على مطالب النّاس، تتحوّل التحرّكات الاحتجاجيّة إلى أساليب أكثر وحشيّة وعنفا على الذات أحيانا، ربّما للفت النظر أو لتحميل المسئول ذنب الضحيّة.

التحرّكات الاحتجاجيّة بمختلف أنواعها لم تبدأ بعد 14 جانفي، بل كانت حاضرة في العديد من التواريخ والمحطّات التاريخيّة التي عبّر فيها النّاس عن مواقفهم بالخروج إلى الشارع أو الإضرابات أو الإعتصامات وحتّى بإضرابات الجوع. ومنذ ثلاث سنوات، لم تتوقّف تلك التحرّكات بل ازدادت وتوسّعت على الصعيد الجغرافيّ والقطاعيّ. ورغم تباين الآراء حول هدفها وارتداداتها الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة، إلاّ أنّ إضراب الجوع ظلّ أكثر الأنماط الاحتجاجيّة قسوة وإثارة للجدل بين النّاس كونها تضع على المحكّ حياة المحتجّ الذي يدخل في طور الموت البطيء بإرادته.

فمن يتحمّل فعلا مسئوليّة إجبار مواطن على المخاطرة بحياته واللجوء إلى تجويع نفسه في سبيل تحقيق مطالبه؟ وهل إضرابات الجوع ظاهرة طارئة في تونس؟ أم أنّها تعكس معاناة كبرى تجعل من الحياة أو الموت سواء عند المضرب؟

إضراب الجوع: الأسلوب القديم الجديد

أسلوب إضراب الجوع لم وليد 14 جانفي 2011 أو نمطا جديدا من أنماط الاحتجاج، بل شهد التاريخ التونسيّ المعاصر العديد من إضرابات الجوع، لعلّ من أبرزها إضراب 18 أكتوبر 2005 الذّي كان أحد ابرز التحرّكات النضاليّة ضدّ نظام بن عليّ، والذّي انبثقت عنه ما يعرف بهيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريّات في إطار عمل سياسي شكلته عام 2005 عدة أحزاب وشخصيات تونسية معارضة لزين العابدين بن علي. أسست الهيئة في 24 ديسمبر 2005، وقد أخذت اسمها من 18 أكتوبر 2005 تاريخ بداية إضراب جوع شنه 8 معارضين من تيارات سياسية مختلفة قبيل القمة المعلوماتية التي نظمتها تونس كتعبير عن رفضهم لممارسات نظام بن عليّ القمعيّة وتضييقه على الحريّات الأساسية وملاحقة الناشطين السياسيين ومحاصرة نشاطات المجتمع المدني، وقد شارك في الإضراب كلّ من:

أحمد نجيب الشابي، الأمين العام للحزب الديمقراطي التقدمي
حمه الهمامي، الناطق الرسمي باسم حزب العمال الشيوعي
التونسي
عبد الرؤوف العيادي، نائب رئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية
العياشي الهمامي، رئيس لجنة الدفاع عن الأستاذ محمد عبو والكاتب العام لفرع تونس للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان
لطفي حجي، رئيس نقابة الصحافيين التونسيين
محمد النوري، رئيس الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين
مختار اليحياوي، قاض ورئيس مركز تونس للدفاع عن استقلال القضاء والمحاماة

وإضراب الأمين العام للحزب الديمقراطي التقدّمي نجيب الشابي سنة 2010 تعبيرا عن رفضه للتضييق على جريدة حزبه “الموقف”، بالإضافة إلى العديد من إضرابات الجوع التي خاضها مناضلو الاتحاد العام لطلبة تونس قبل سنة 2011 كأيّوب عمارة وأحمد ساسي ومحمد السوداني الذي ظلّ يعاني صحيّا جرّاء الإضراب الطويل والوحشيّ الذّي خاضه وغيرهم من الطلبة، احتجاجا على الإيقافات التي طالت زملاءهم ومحاربة النظام السابق لنشاطاتهم النقابيّة والطلابيّة.

بعد 14 جانفي ورغم انحسار القمع نسبيّا على التحرّكات الاحتجاجيّة في الشارع والإضرابات القطاعيّة العماليّة، وتطوّر مساحة حريّة التعبير، إلاّ أنّ هذا الأسلوب ظلّ حاضرا بقوّة وفي أكثر من مناسبة، ولكنّ السياق العام هو الذّي تغيّر.
إذ أنّ إضرابات الجوع تحولت إلى ثقافة جديدة فبعد أن كانت حكرا على النخبة السياسية والثقافية، فأخذت امتدادا شعبيا وباتت تصنف كنوع جديد من التصعيد.

فبعد أن فقدت المظاهر التقليدية كالاعتصام والإضراب نجاعتها في فرض المطالب انتقل المحتجّون إلى إضراب الجوع الذي استوى فيه المعطل عن العمل والنائب في المجلس الوطني التأسيسي والإعلاميّون والمساجين والموقوفين.

وقد بلغت حدّة إضرابات الجوع إلى حدّ وفاة المضربين، ولعلّ وفاة الشابيّن محمد البختي وبشير القلّي في نوفمبر 2012 تعتبر من أبرز الإضرابات على هذه الشاكلة وحشيّة، إذ رفع المضربان تعليق الإضراب حتّى الموت احتجاجا على ما اعتبراه ظلما مسلّطا عليهما وعلى الشباب الموقوف على خلفيّة أحداث السفارة الأمريكيّة.

كما لم يتوان بعض الإعلاميّين كسفيان بن فرحات عن انتهاج هذا الشكل من الاحتجاج في السنة الماضية احتجاجا على تعسّف إذاعة شمس أف أم التي قامت بطرده حينها ممّا دفعه إلى الدخول في إضراب جوع في مقر الإذاعة المذكورة سابقا. بالإضافة إلى إضراب الجوع الذي دخله المنشّط والمنتج سامي الفهري في 18 ديسمبر 2012 احتجاجا على ما اعتبره هذا الأخير ظلما في حقّه بعد رفض النّيابة العموميّة لإطلاق سراحه ولوجوده في السّجن دون موجب قانوني.

إضرابات الجوع التي سلف ذكرها، حظيت بتغطية إعلاميّة كبيرة وأثارت الكثير من اللغط على الساحة الشعبيّة والسياسيّة نظرا للثقل السياسيّ أو الإعلاميّ للمضربين، ولكنّ وفي المقابل، بقيت تحرّكات أخرى مماثلة في الظلّ وقيد التجاهل رغم فداحة الوضع الذي وصل إليه المضربون.

ولعلّ أبرز مثال على ما سلف ذكره، إضراب الجوع الذّي دخلته عائلات الشهداء في أواخر شهر أفريل 2014، بعد صدور حكم المحكمة العسكريّة بخصوص قضاياهم، ليطالبوا في ظلّ غياب شبه تامّ لوسائل الإعلام بفتح تحقيق للبحث حول الظروف والأسباب التي أدت لصدور مثل هذه الأحكام الظالمة وكشف من يقف ورائها واتخاذ إجراءات عاجلة للتصدي لإفلات جميع المتهمين من العقاب وأيضا سحب الملفات من القضاء العسكري. ولكنّ الأهالي انتهوا على تعليق إضرابهم بعد تدهور صحّة العديد منهم والتجاهل الإعلامي والرسميّ لمطالبهم.

تجربة إضراب عائلات الشهداء المحبطة لم تثن مؤخّرا عاملات Latelec بفوشانة على الدخول في إضراب جوع منذ 19 جوان احتجاجا على طردهن من وظائفهنّ على خلفيّة نشاطهنّ النقابيّ منذ ما يزيد عن سنة ونصف، باتّفاق ثلاثيّ بين إدارة المعمل والاتحاد العام التونسي للشغل ومنظّمة الأعراف.

وفي حوار سابق لنواة مع النقابيّة سنية جبالي وإحدى المشاركات في الإضراب، أفادت أنّهن اضطررن لنقل مقر الإضراب من التفقديّة العامة للشغل بعد طردهنّ من هناك ورفض الرابطة التونسيّة لحقوق الإنسان استقبالهنّ بتعلاّت واهية إلى مقرّ الإتّحاد العام لطلبة تونس حيث يرابط في نفس الوقف كلّ من المناضلين السابقين في الاتحاد العام لطلبة تونس والمتمتعيّن بالعفو التشريعي العام؛ أيوب عمارة ووليد عزّوزي منذ يوم 16 جوان 2014 في إضراب جوع احتجاجا على عدم تمكينهما من حقّهما في الوظيفة العموميّة والمماطلة في تسوية وضعيّتهما وانسداد آفاق الحوار والتسوية مع السلطة.

وقد تدهورت صحّة أيوب عمارة بشكل خطير ممّا استوجب نقله إلى مستشفى شارل نيكول ولكنّه رفض العلاج أو تعليق إضراب الجوع وعاد إلى مقرّ الإضراب، كذلك كان الحال بالنسبة إلى سنية جبالي وإن بشكل أخطر خصوصا وأنّها تحتاج إلى تناول أدوية وتتابع علاجا صحيّا سيكون لقطعه والاستمرار في الإضراب عن الطعام انعكاسات سلبيّة وخطيرة على صحّتها.

وقد حمّل جلّ المضربين مسئوليّة ما قد يحلّ بهم للحكومة وكلّ الأطراف المعنيّة بقضاياهم نتيجة تجاهلهم وصممهم الإراديّ عن الاستماع لمطالبهم ومعالجة وضعيّاتهم.

إضراب الجوع: حلّ مثاليّ أم حلّ يائس ؟

إذن ورغم الحريّة النسبيّة التي مكّنت من خوض جميع الأشكال الاحتجاجيّة كالمظاهرات والإضرابات والإعتصامات، إلاّ أنّ إضراب الجوع ظلّ أحد أبرز وأعنف إشكال الاحتجاج، إذ يلجأ المحتجّ إلى المخاطرة بحياته والإقدام على ما يشبه الإنتحار البطيء في سبيل الضغط على الطرف الآخر.

وتتضارب الآراء حول مدى صحّة هذا الشكل الاحتجاجي، فيرى البعض من وجهة نظر إنسانية ودينيّة أنّ الحياة البشريّة مقدّسة ولا يجوز المخاطرة بها أو ارتهانها في مثل هذه التحرّكات وأنّ النضال يكون في سبيل المحافظة على الروح البشريّة وتوفير حياة أفضل، لا اللجوء إلى تكريس ثقافة الموت ووضع صحّة الإنسان وحياته على المحكّ.

ولكن، وبغضّ النظر عن بعض الإضرابات الشخصيّة التي تندرج ضمن خانة المظالم الشخصيّة والخلافات المهنيّة المحدودة، فإنّ معاناة المضربين تتجاوز ما قد يسيل من حبر للتبرير والتنظير، فعندما يفقد الإنسان الأمل وتنسدّ أمامه الآفاق ويجابه بالتجاهل والصمم الإراديّ للجهات المسئولة عن معاناته والقادرة على إنهاءها، تستوي حينها عنده الحياة والموت.

إنّ ما قد يدفع شخصا ما إلى الانتحار البطيء والتضحية بحياته أعمق واعقد من التصريحات والوعود والتبريرات، فالمسئولون وحتّى الرأي العام قد يقيس الوقت والأحداث والبرامج بالأرقام ويقيّمها بالكلمات والتحاليل، ولكلّ مأساة المضرب الذي التجأ إلى سلاح الجوع، وتفاصيل معاناته اليوميّة والآلام النفسيّة التي تثقل كاهله نتيجة الإحساس بالغبن والتجاهل والتناسي، لا يمكن تقييمها أو قياسها بالمعايير المعمول بها.

لا أحد يختلف حول قداسة الحياة البشريّة وحرمة الجسد والنفس وحتمية مقارعة صعوبات الحياة، ولكن الجوع يصبح السلاح الأنجع لمواجهة سياسة التجويع والتهميش، ولا معنى للحياة حينئذ إن انعدمت كرامة الكائن الحيّ.

سياسة قنابل الدخان والصمم الإرادي هي منبع اليأس

خلال سلسلة إضرابات الجوع التي شهدتها البلاد بعد 14 جانفي، علّقت جميع إضرابات الجوع تقريبا دون أن تتحقّق مطالب المضربين عدى حالة الأمين العام للاتحاد العام لطلبة تونس وائل نوّار، الذي خاض إضراب الجوع تواصل لأكثر من أسبوع ولم يتمّ تعليقه إلاّ بعد أن استجابت وزارة التعليم العالي لمطالب الإتحاد والتوصل إلى حلول حول النقاط التي قدّمها هذا الأخير للوزارة.

أمّا باقي الإضرابات فقد اصطدمت بجدار الصمم والتجاهل من قبل الأطراف المعنيّة والمسئولة وخصوصا في الفترة الأخيرة وتنصيب حكومة التوافق. إذ اعتمدت الحكومة كما غيرها من الحكومات السابقة أسلوب غضّ النظر والمحاصرة الإعلاميّة لإضرابات الجوع. وللأسف انخرطت بعض وسائل الإعلام وأكثرها تأثيرا ومتابعة من قبل الرأي العامّ في سياسة التجاهل والتغييب لهذا الشكل من التحرّكات الاحتجاجية رغم أهميّة بعضها وبعدها الوطنيّ كقضيّة الشهداء التي مرّت مرور الكرام وتمّ تعمّد التعتيم على تحرّكات الأهالي وتغطيتها بالجدل الذي أثارته الوزيرة والمتعلّق بدخول الحجّاج الاسرائيليّين إلى تونس ومسألة تجريم التطبيع والتي تحوّلت اليوم إلى ورقة للمزايدة السياسيّة والحملات الانتخابيّة وأفقدها مضمونها الشعبيّ المحسوم. لتتدهور صحّة الأهالي ويُعلّق الإضراب وتدخل قضيّتهم طيّ النسيان في حين تستمرّ الهوامش في جلب اهتمام المواطنين دون إرادتهم، وهي سياسة قنابل الدخان التي تحجب ما وراءها، لتواد مطالب الناس المستعجلة وراء سحابة من التجاهل والنسيان.

إنّ أسلوب الرئيس السابق بن عليّ لم يتغيّر، واستمرّ أسلوب المحاصرة الأمنيّة والتهميش الإعلاميّ والصمم الإراديّ عن مطالب المحتجّين بدعوى هيبة الدولة وتحريم “ليّ ذراعها”، في حين تعجز هذه الهيبة في فرض احترام النّاس لها عبر توفير ما يحفظ كرامتهم وحلّ مشاكلهم وأن تتحوّل الحكومة إلى أداة لخدمة النّاس وتسهيل حياتهم بدل أن تدفعهم إلى مجابهة سياسة التجويع بسلاح الجوع وأن تتحوّل الأمعاء الخاوية إلى جدار الدفاع الأخير عمّا تبقّى من كرامة المضربين.