منذ إسقاط حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة وإجبارها على ترك الحكم لصالح حكومة “التكنوقراط”، بعد ماراتون الحوار الوطني، انكفأت الأحزاب في ترتيب بيوتها الداخليّة والإستعداد للإستحقاق الإنتخبيّ التشريعيّ والرئاسيّ.

وقد كان من أوليّات الفريق الحكوميّ الجديد تأمين الوصول لتاريخ الإنتخبات والنأي بنفسها عن الصراع السياسيّ الذّي يسبق ذلك الإستحقاق، والتعهّد بعدم المشاركة أو الترشّح للإنتخبات المقبلة، وهو ما أعلنه رئيس الحكومة في كلمته التي توّجه بها إلى الشعب التونسيّ مساء 17 سبتمبر 2014.

في سياق هذه الإستعدادات ومعارك تسجيل النقاط، شهدت الساحة السياسيّة العديد من السجال والحروب الكلاميّة والمزايدات على الأسماء والتاريخ والممارسات التي عرفتها البلاد منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات سواء في المجلس التأسيسيّ أو خارجه من قبل جميع الأحزاب تقريبا، ولكنّ أطياف المشهد السياسيّ يبدو أنّها لم تحسم رؤيتها الإقتصادية بعد، عبر تقديم برنامج اقتصاديّ واضح المعالم خصوصا في الفترة الأصعب من تاريخ تونس على مستوى الوضعيّة الإقتصاديّة والماليّة التي صار فيها رغيف الخبز ومواجهة غلاء الأسعار، من أكبر التحديّات التي تواجه المواطنين.

فما هي أبرز الملامح السياسات الإقتصاديّة للأحزاب التونسيّة ؟ وكيف ستتعامل هذه الأخيرة مع الوضعيّة الإقتصاديّة الراهنة والخيارات الإقتصاديّة التي انتهجتها حكومة “التكنوقراط”؟

الواقع الإقتصادي التونسيّ قبيل الإستحقاق الإنتخابي وأبرز التحديّات الإقتصاديّة

يشهد الوضع الإقتصاديّ التونسيّ أحلك الفترات التي عرفها خلال عقود من الزمن. إذ لم تقتصر الأزمة على بعض القطاعات دون غيرها، بل شملت كامل النسيج الإقتصاديّ دون استثناء، وتنوعّت الأسباب بين ارتدادات التغيير السياسيّ عقب 14 جانفي 2011 وعوامل هيكليّة وخيارات النظام السابق، و من جهة أخرى ممارسات الحكومات التي تعاقبت خلال السنوات الثلاث الأخيرة.

واليوم، تعكس المؤشّرات الإقتصاديّة التي لم تستطع الحكومة الجديدة إخفاءها أو تجميلها واقعا مرعبا للحالة التي يعيشها الإقتصاد الوطنيّ ممّا يطرح أكثر من نقطة استفهام حول مقدرة أيّ من الأطياف السياسيّة على إيجاد مخرج لهذه الأزمة.

وتكشف الإحصائيات المتتالية عمق المشكلة الإقتصاديّة وحجم المعاناة التي يتكبّدها المواطن نتيجة هذا التدهور، إذ بلغت النسبة العامّة للتضخّم 6% لشهر أوت الماضي، مسجّلة نسبا قياسيّة في العديد من الموّاد خصوصا في المحروقات والمواد الغذائيّة ممّا ينعكس مباشرة على المستوى المعيشيّ للمواطن التونسيّ الذّي تناهز نسبة مصاريفه الشهريّة لهذه الموّاد 27%.

وقد ورد في تقارير المعهد الوطني للإحصاء ارتفاع أسعار التغذية و المشروبات بنسبة 7,2 % مقارنة بشهر ماي 2013، كما ارتفعت مجموعة اللباس و الأحذية باحتساب الإنزلاق السنوي بنسبة 6,9% نتيجة ارتفاع الملابس بنسبة %6,8 و الأقمشة بنسبة 3,2 % والأحذية بنسبة 7,2 %، في ذات السياق شهد مؤشر مجموعة السكن و الطاقة المنزلية ارتفاعا بنسبة 6,9% مقارنة بنفس الشهر من السنة المنقضية.

و يعود هذا الارتفاع إلى الزيادة في أسعار الكهرباء و الغاز و الوقود بنسبة 10,2 % نتيجة التعديل الأخير في تعريفة الكهرباء و الغاز الذي وقع اعتمادها من طرف الشركة التونسية للكهرباء والغاز.

كذلك شهدت أسعار ماء الشرب و التطهير ارتفاعا هامّا بنسبة 9,8 % نتيجة التعديل الأخير في أسعار التطهير العمومي.

أمّا على صعيد المؤشّرات الكبرى القطاعيّة، فهي لا تقلّ كارثيّة عن ما سبق ذكره من نسب وأرقام، حيث سجّلت الموازنات الماليّة للبلاد عجزا بلغ هذه السنة ما يناهز 12 مليار دينار تونسي. رقم يثير الرعب إذا ما تمّ ربطه بحجم الديون التونسيّة التي بلغت خلال السنوات الأربع المنقضية 25 مليار دينار والتّي صارت تستنزف ما يقارب ال50 % من الناتج المحليّ الخام للبلاد. كما بلغت خسائر المؤسّسات 3000 مليون دينار تونسي خلال العقدين الأخيريّن. أمّا عن البنوك العموميّة، فقد بلغت ديونها ما يقارب ال2.5 مليار دينار، وهو ما يجعلها عاجزة عن دعم بقيّة المؤسّسات العموميّة الأخرى أو تمويل مشاريع تنمويّة جديدة.

هذا وتدهورت قيمة الدينار التونسي لمستويات قياسيّة بلغت 1,7 مقابل الدولار و2,3 مقابل الأورو خلال الشهر المنقضي، ممّا انعكس بدوره على الميزان التجاريّ الذي بلغ عجزه ما يزيد عن 30 %، بالإضافة إلى تراجع الإستثمار الأجنبي المباشر، وهو ما انعكس على التصنيف الإئتمائي لتونس و أدّى إلى تخفيضه بما يعنيه ذلك من إخضاع للإقتصاد التونسي لرحمة هياكل النقد الدولي.

الرهانات الكبرى لأطياف المشهد السياسيّ، لا تتوقّف عند هذا الحدّ، بل تشمل وضعيّة المناطق الداخليّة التي كانت ومازالت تمثّل قنابل موقوتة ستنسف أيّ جهود لترسيخ الإستقرار وإصلاح الوضعيّة الإقتصاديّة إذا ما تواصل تهميشها وتذييلها لقائمة الأولويّات، حيث تتضاعف نسب الفقر والأميّة والبطالة عن نظيرتها على المستوى الوطنيّ، بالإضافة إلى معضلة الإرهاب التي تزيد من تنفير المستثمرين من تلك المناطق وتزيد من تأزم الواقع الإقتصاديّ والإجتماعيّ.

أخيرا تبدو مشكلة الإرهاب تحديّا صعبا أمام المتنافسين في المرحلة القادمة، بسبب ما فرضه هذا المعطى الجديد نسبيّا من أعباء أمنيّة وسياسيّة جديدة، وما تسبّبه جهود مكافحة الإرهاب من ارتفاع النفقات الأمنيّة والعسكريّة التي ناهزت سنة 2014 ما يقارب 2279,824 مليون دينار بالنسبة لوزارة الداخليّة مسجّلة ارتفاعا ب17,3% عن سنة 2013 و 1538,879 مليون دينار بالنسبة لوزارة الدفاع بارتفاع بلغ 19,8% عن السنة السابقة، هذا وتجدر الإشارة إلى أن ميزانيّة كلتا الوزارتين تمثّلان تقريبا 10% من الميزانيّة العامّة للبلاد والتي تبلغ إجمالا 28125,000 مليون دينار.

البرامج الإقتصادية للأحزاب: بين أحزاب تعد وأحزاب فضحتها الممارسة

إلى حدود كتابة هذه الأسطر، لم تطرح أغلب الأحزاب في الساحة السياسيّة برامجها الإقتصاديّة التفصيليّة، عدا حزب آفاق تونس، والجبهة الشعبيّة التي كانت أوّل من قدّم مشروع ميزانيّة بديلة إبّان الحوار الوطني وخلال جلسات الحوار الوطني الإقتصاديّ والتي تعكس رؤيتها الإقتصاديّة المقبلة وطرق معالجتها للأزمة، وأخيرا تيّار المحبّة الذّي حاول أن يطرح من منظوره ما أسماه “برنامجا” يتناول سياسته الإقتصاديّة إذا ما وصل إلى الحكم.

تيّار المحبّة، أو العريضة الشعبيّة كما عُرفت في إنتخبات أكتوبر 2011، كانت من الأوائل التي طرحت ما أسمته برنامجا إنتخبيّا شاملا، تناول الخطوط الكبرى، السياسيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة كما تصوّرها رئيس التيّار هاشمي الحامدي والتي نشرها في موقعه في ماي 2013.

ولكنّ المطلّع على البرنامج الإقتصاديّ لهذا الفصيل السياسيّ سيلحظ تواصلا لما يمكن نعته بالسطحيّة والإبتذال في الوعود والبرامج التي تبدوا في مجملها إمّا فضفاضة وعامّة وإمّا غير واقعيّة ومُسقطة دون دراسات مستفيضة أو دراية بالواقع الإقتصاديّ للبلاد. حيث تضمّن البرنامج إنشاء ديوان الزكاة، زيادة الإنفاق على التعليم العام وتطويره، وإنشاء مؤسسة للعلوم والتقنية في القصرين تتفرغ فيها نخبة من الباحثين لصناعة أول حاسوب، وأول سيارة، وأول طائرة من صنع تونسي! ووعود أخرى بتخصيص مبلغ 150 مليون دينار سنويا لتأمين خدمة التنقل المجاني لمن أتم الخامسة والستين من العمر، وستكون الأولوية طبعا للمستحقين لهذه الخدمة، وليس للأثرياء الذين لا يحتاجون إليها، كما دعا “البرنامج الإقتصاديّ” لتيّار المحبّة إلى غلق التلفزة الوطنيّة وتقسيم ميزانيّة الإعلام الحكوميّ بين وزارتي التشغيل والصحّة.
بالإضافة على عشرات النقاط المماثلة التي تغرق في السطحيّة والشعبويّة وإثارة النعرات الطبقيّة حينا والجهويّة حينا آخر. بالإضافة إلى الملاحظة الأهمّ وهي أنّ برنامج 2014 لم يختلف عن نظيره لسنة 2011، وكأنّ الأوضاع الإقتصاديّة لم تتغيّر منذ ثلاث سنوات.

أمّا الجبهة الشعبيّة فقد طرحت من خلال مشروع ميزانيّتها البديلة نقاطا أساسيّة تمحورت بالأساس حول مسألة المديونيّة والإستثمار ودور الدولة، إذ جاء في مشروعها ضرورة تعليق الديون التونسيّة التي تستنزف 50% من الناتج المحليّ وتوجيه الديون والقروض إلى الإستثمار لا الإستهلاك، كما شدّد المشروع على ضرورة مراجعة النظام الجبائيّ في تونس ومحاربة التهرّب الضريبيّ وخصوصا من أصحاب الشركات ورؤوس الأموال، بالإضافة إلى الإعتماد على الإكتتاب الداخلي أو “الإقتراض من الشعب” لتخفيف الإعتماد على التداين من الخارج، وضرورة تخصيص منح البطالة وتدعيم دور الدولة في الاستثمار.

هذه النقاط المطروحة بشكل تفصيليّ في مشروع الميزانيّة تعاني العديد من الهنّات وتحمل أوجها عديدة للقصور، ففي البداية وجب التنبيه إلى أنّ ما طرحته الجبهة الشعبيّة وإن حمل بعض التفصيل والأرقام والنسب، إلاّ أنّه يظلّ مجرّد شعارات وعناوين كبرى يصعب تحقيقها دون الإطلاع المباشر على الوضعيّة الإقتصاديّة الحقيقيّة للبلاد. فمسألة تعليق الديون وإن كانت حقّا شرعيّا للدولة في حال وصولها إلى حافة الإفلاس، إلاّ أنّ إمكانية تحقيقها في تونس تظلّ صعبة للغاية خصوصا وأنّ الجبهة فقط هي من تطرح هذا الخيار، فهل تمتلك الجبهة الشعبيّة من الدعم الشعبيّ والسياسيّ الداخليّ ما يمكّنها لو وصلت يوما ما إلى الحكم أن تواجه سخط العالم إزاء خطوة مماثلة؟

ثانيا، مسألة الإقتراض الداخليّ في الظروف الحاليّة للإقتصاد المحليّ لن تكون ذات نفع يذكر، فالإقتراض الداخليّ لا يؤدي لزيادة الثروة المحليّة وإنما ينقل جزء من هذه الثروة من الأفراد المكتتبين في القرض إلى الدولة، فهو عبارة عن إعادة توزيع لجزء من الثروة الوطنيّة لصالح الدولة. ولكنّ انعكاسه سلبيّ على الإستهلاك، إذ أنّ التقليص من الكتلة الماليّة أو إخراجها من الدورة الإقتصاديّة سيحدّ من نسق الإستهلاك وبدوره سيتراجع الإستثمار الذي لن يتحسّن في ظلّ مثل هذا الإنكماش الإقتصاديّ والذّي عمقته سابقا إجراءات البنك المركزيّ الذي رفع من نسبة الفائدة الرئيسيّة كخطوة للسيطرة على ارتفاع نسبة التضخّم دون أن يأخذ بالحسبان انعكاساتها السلبيّة على الإستثمار.

أمّا على صعيد الأشخاص الطبيعيّين، فلا بدّ من وضع أكثر من نقطة استفهام. فالأزمة المستمرّة منذ 3 سنوات، سبّبت تآكل الطبقة الوسطى بشكل رهيب، ممّا أثّر على مقدرتها الشرائيّة بشكل ملموس، وهو ما يخرجها تماما من المساهمة في الإقتراض الداخليّ نظرا للأعباء المعيشيّة التي تثقل كاهلهم وهي الشريحة الأكبر والأهمّ من الشعب التونسيّ.

النقطة الأخيرة التي وجب التنبيه إليها بخصوص مشروع الجبهة الشعبية الإقتصاديّ، هو أن من ينوي تعديل النظام الجبائيّ وتشديد الرقابة على مسألة التهرّب الضريبيّ للمؤسّسات المحلية والأجنبيّة لا ينسّق مع رئيسة منظمة الأعراف ولا يتلقّى منها التوصيات في مكتبها.

أمّا بالنسبة لحزب آفاق تونس، فما أعلنه خلال الندوة الصحافية لم يتجاوز بدوره الشعارات العامّة والوعود المجترّة منذ 2011، كتشجيع المبادرة الفردية وثقافة النجاح وتوجيه الديون نحو الإستثمارات وغيرها من النقاط التي غرقت في التعميم وكانت في قطيعة مع الواقع الإقتصاديّ للبلاد ومدى قدرة الإقتصاد على الإستجابة للخطط المطروحة.

إلى حين استكمال بقيّة الأحزاب تقديم برامجها الإقتصاديّة، يبقى التساؤل الأكبر حول ملامح الخطط الإقتصاديّة لحزب نداء تونس وحركة النهضة اللذين لم يقدّما حتّى هذه الساعة برنامجا تفصيليّا حول سياستهما الإقتصاديّة للمرحلة القادمة. ولكنّ هذين الحزبين كان لهما تجربة في الحكم وهو ما يتيح تكوين صورة عن رؤاهما الإقتصاديّة حتّى قبيل تقديم البرامج التفصيليّة.

فحزب نداء تونس الذّي تولّى رئيسه الباجي قايد السبسي الحكم خلال 8 أشهر الأولى قبل إنتخبات أكتوبر 2011، لم يستطع أن يوجد بديلا اقتصاديّا أو حتّى خطّة إنقاذ خلال تلك المرحلة وهو ما كان له تأثير كبير على الوضعيّة الإقتصاديّة للبلاد خلال السنوات التالية. فاقتصرت سياساته على خطوات مسكّنة لتخفيف الإحتقان الاجتماعيّ من قبيل منحة البطالة والترفيع في الأجور بطريقة غير مدروسة وضخّ السيولة اللازمة لصندوق الدعم دون معالجة هيكليّة لمشاكله، ممّا فاقم من عجز موازنات الدولة، ولم يكن ليستمرّ في سياساته تلك لولا سيل الهبات والقروض التي تدفّقت على تونس خلال تلك المرحلة والتي مكنّته من الوصول بسلام إلى استحقاق أكتوبر 2011.

وبالنظر إلى البرنامج العام للحزب في موقعه الرسميّ، يبدو نداء تونس هو الآخر ماضيا في سياسة التعميم واعتماد الشعارات والوعود الفضفاضة، رغم تبجّحه خلال تأسيسه بضمّه لما يقارب 200 خبير اقتصاديّ. ولكنّ المطروح في صفحاته الرسمية وموقعه لا يعكس ثقل هذا العدد وتأثيره المتوقّع في صياغة برنامج واقعيّ وفعّال.

كما انّ طبيعة الحزب الليبراليّة تعكس توجّهاته الإقتصاديّة التي تعتبر استمرارا لسياسات الماضي من خلال التوجّه نحو اقتصاد السوق والخصخصة والتعويل على الإستثمارات الخارجيّة والتداين لتوفير احتياجات الدولة من السيولة.

أمّا حركة النهضة، فيبدو تمشيها السياسيّ واضحا من خلال تجربتها في الحكم التي استمرّت ما يقارب السنتين، حيث اعتمدت هذه الأخيرة في خياراتها الإقتصاديّة على سياسة الترفيع في الأسعار كما حدث في أكثر من مناسبة مع المحروقات وبعض المواد الغذائيّة بالإضافة إلى فرض آتاوات وضرائب جديدة لم تتراجع عنها إلاّ بعد ضغط شعبيّ هائل نهاية السنة الفارطة، تماما كما حدث مع مشروع استخراج غاز الشيست والذي قوبل برفض شعبي واسع خصوصا في القيروان وهو ما اضطر النهضة لتعليقه لحسابات سياسيّة تتعلّق بالإستحقاق الإنتخبيّ.

أمّا على صعيد التداين، فلا تجد حركة النهضة حرجا في اعتماد الإقتراض من الخارج كحلّ لمعضلات الإقتصاد الوطنيّ ، تماما كتعاملها مع مسألة الإستثمار الأجنبيّ المباشر، حيث شهدت فترة حكمها تغيّر الخارطة الإستثماريّة في البلاد نحو لاعبين جدد أبرزهم تركيا ودول الخليج وخصوصا قطر. رغم التحذيرات العديدة من طبيعة هذه الإستثمارات ومحدوديّة موازناتها وتأثيراتها على المشاكل الإقتصاديّة المحليّة، وخضوعها للحسابات السياسيّة لا لحسابات المردوديّة.

إذن، فمن الملاحظ أن الإستقطاب بين حركتي النهضة وحركة النداء الذّي يلقي بضلاله على المشهد السياسيّ، يتمحور بالأساس حول مكانة الدين في السياسة وفي المجتمع أكثر من أي خلاف آخر. إلى درجة أن الحركتين لا تختلفان في الواقع حول الإختيارات الإقتصادية والإجتماعية الكبرى التي تتلخّص في اختيار اقتصاد السوق الليبرالي وفي الإنخراط في العولمة الليبرالية والتعويل على الإستثمار الأجنبي وعلى أولوية التصدير.

هل تقدر الأحزاب على إخراج البلاد من الطريق المرسوم سلفا؟

من الأسئلة البديهيّة التي يجب أن تُطرح عند مناقشة البرامج الإقتصاديّة للأحزاب، هو حول مدى قدرتها على إحداث التغيير الجذريّ للهيكلة الإقتصاديّة المحليّة وليس الإقتصار على الترقيع وخلق حلول إنقاذ أشبه بالمسكّنات. كما يجب الإنتباه إلى الخطوات الإقتصاديّة التي تمّ تنفيذها خلال الفترة الإنتقاليّة وخصوصا في المرحلة الأخيرة بقيادة مهدي جمعة ومنظّمة الأعراف والتي تصبّ في مجملها نحو رسم ملامح عامّة للإقتصاد الوطنيّ رغم الطابع الوقتي والمحدّد لفريقه الحكوميّ.

حيث شرعت “حكومة التوافق” منذ تنصيبها إثر الحوار الوطنيّ في تجاوز صلاحياتها الأساسية المحصورة أساسا في تأمين الوصول إلى الإستحقاق الإنتخابيّ وتوفير حلول اقتصاديّة عاجلة وسريعة للأزمة الراهنة. وتجلّى سعيه لإحداث تغييرات هيكليّة في الإقتصاد التونسيّ من خلال ما جاء على لسانه في أكثر من لقاء إعلامي حول ضرورة إعادة هيكلة القطاع العامّ من مؤسّسات وبنوك ومراجعة منظومة الضمان الاجتماعي ومنظومة الدعم وبدأ عمليّة التدقيق في البنوك العموميّة وسحب مشروع مجلّة الإستثمار لمراجعتها والتدقيق في ما ورد فيها ربّما لتضمينها المزيد من التسهيلات للمستثمرين الأجانب في تناسق مع مرحلة الخصخصة القادمة.

كما شهدت مرحلة مهدي جمعة ترفيعا غير مسبوق للأسعار في جميع الموّاد تقريبا، فهل ستقدر الأحزاب على مراجعة هذه الزيادات في ظلّ الأزمة الإقتصاديّة الحاليّة وبعد أن تمّ اعتماد الأسعار الجديدة وهوامش ربحها في موازنات 2014، وكيف ستتعامل الحكومة المقبلة مع فرضيّة التراجع عن الأسعار الجديدة وما ستخلقه هذه الخطوة من اختلال على مستوى الموازنات العامّة؟.

هذا بالإضافة إلى التصريح الأخير بخصوص مسألة غاز الشيست والعقود المسكوت عنها، والمبرمة تحت مسمّى الشراكة بين القطاع الخاّص والعامّ الذّي لم يتمّ تمريره والمصادقة عليه حتّى هذه الساعة من قبل المجلس الوطني التأسيسي، دون أن ننسى عقود تجديد الإستغلال كما حصل مع شركة “كوتوزال” وشركة “بوشمّاوي” النفطيّة وغيرها من الملفّات العالقة والتي لا يستطيع الحسم فيها سوى حكومة منتخبة تمتلك شرعيّة إنتخبيّة وبرنامجا إقتصاديا طويل الأمد.

إلى حدّ هذه اللحظة، يبدو أنّ الأحزاب السياسيّة لم تستوعب درس 17 ديسمبر 2010، حين كان القادح الأساسي لغضب النّاس هو الجوع، أو بالأحرى التجويع نتيجة للخيارات الإقتصاديّة الخاطئة واستشراء الفساد في البلاد وتكييف الإقتصاد لصالح الحسابات السياسيّة. واليوم يبدو أنّ المكوّنات السياسيّة ما زالت تعتبر الورقة الإقتصاديّة مجرّد تفصيل في معاركها السياسيّة وليست صمّام الأمان والمقياس الحقيقيّ لنجاح مشروعها السياسيّ. tبدأ بالسبسي مرورا بالجبالي والعريّض وصولا إلى الأسماء الجديدة التّي ستحلّ بالقصبة وقرطاج، سيظلّ العامل الإقتصاديّ خاضعا لضرورات التسيير لا لرهانات التغيير الحقيقيّ ومشروع بناء اقتصاد وطنيّ متماسك يكون حجر الأساس في تكريس السيادة الوطنيّة وحالة السلم الاجتماعيّ.