بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،
في هذه المرحلة الأخيرة ممّا يُعرف بالفترة الإنتقاليّة، ركّزت أطياف المشهد السياسيّ التونسيّ كلّ جهودها على الإستحقاق الإنتخابيّ القادم. خلف هذا المشهد السياسيّ المزدحم، تبدو الصورة الإقتصادية قاتمة خصوصا في ما يتعلّق بمعيشة المواطنين وتواصل غلاء الأسعار، حيث تحوّلت قرارات الترفيع إلى ما يشبه الحدث الروتينيّ في مقابل تسليم شبه مطلق من المواطن الذّي حوصر بهاجس الإرهاب و الغلاء وتاه في مشاهد سياسيّة سرياليّة راوحت بين الغموض والسطحية والفكاهة.
سياسة الهروب إلى الأمام التي انتهجتها الحكومات الإنتقاليّة المتتالية عبر الترفيع في الأسعار، لم تنحصر ارتداداتها على فئة دون أخرى، بل تجاوزت مُفاقمة معاناة الطبقات الضعيفة والفقيرة إلى محاصرة الطبقة الوسطى والحدّ من مستواها المعيشيّ لتتآكل هي الأخرى منتجة صورة مرعبة لسوق استهلاك ثنائيّ التقسيم؛ بين مستهلك الرفاهة ومستهلك الحدّ الأدنى الضروريّ.
فما هو واقع السوق الإستهلاكيّة ومعدّلات الأسعار في الفترة الراهنة ؟ وأين هي منظّمة الدفاع عن المستهلك من كلّ هذه الإشكالات ؟
واقع السوق الإستهلاكيّة ومؤشّرات الأسعار
إنّ المقدرة الشرائيّة للمواطن التونسي لم تعرف مثل هذا التهديد من قبل، حيث طالت الزيادة في الأسعار كلّ المنتجات الإستهلاكيّة تقريبا، بدأ بالحليب والحبوب ومشتقاتها مرورا بالخضر والغلال واللحوم وصولا إلى المحروقات واللباس والعقارات، والمبرّر كان دائما معالجة الأزمة.
في هذا السياق، أصدر المعهد الوطني للإحصاء أواخر شهر أوت الماضي دراسة استعرض خلالها مؤشّرات الأسعار الأخيرة والتحوّلات التي عرفتها السوق الإستهلاكيّة في مختلف الموّاد الغذائيّة والمحروقات والمنتجات المصنّعة والتّي تكمن أهميّتها في نصيبها الذي يقارب 30% من مجموع مصاريف العائلة التونسيّة.
و أوردت الدراسة المذكورة أنّ نسبة التضخّم ورغم تراجعها الطفيف عن نظيرتها في شهر جويلية بنقطتين، إلاّ أنّها لم تنزل عن المعدّل الخطر، حيث بلغت النسبة العامّة 5,8% مع نهاية شهر أوت، ولكنّ النسب التفصيليّة التي تتعلّق بالموّاد الغذائيّة والمحروقات والتي تستأثر بالنصيب الأكبر من مصاريف المواطنين تتجاوز بمعدّل الضعف المؤشّر العامّ. حيث ارتفعت أسعار اللحوم بنسبة 9,7 % والزيوت الغذائية بنسبة 10,6 % والغلال و الفواكه الجافة بنسبة 8,6% والخضر بنسبة 7% الملح والتوابل بنسبة 8,2 %، كذلك ارتفعت أسعار المشروبات بنسبة 4.9 % بالمقارنة مع شهر أوت من السنة الماضية.
أمّا بالنسبة للمنتجات المصنّعة، فقد ارتفعت مجموعة اللباس و الأحذية باحتساب الإنزلاق السنوي بنسبة 7,1% نتيجة ارتفاع الملابس بنسبة %7,2 و الأقمشة بنسبة 3,5 % والأحذية بسنبة 7,1 %.
في ذات السياق شهد مؤشر مجموعة السكن و الطاقة المنزلية ارتفاعا بنسبة 5,8% مقارنة بنفس الشهر من السنة المنقضية.
و يعود هذا الارتفاع إلى الزيادة في أسعار الكهرباء و الغاز و الوقود بنسبة 10,3 % نتيجة التعديل الأخير في تعريفة الكهرباء و الغاز الذي وقع اعتماده من طرف الشركة التونسية للكهرباء والغاز. كذلك شهدت أسعار ماء الشرب و التطهير ارتفاعا هامّا بنسبة 7,5 % نتيجة التعديل الأخير في أسعار التطهير العمومي.
في المقابل، ورغم التبريرات والشكاوى الكثيرة للفريق الحكوميّ من صعوبة الوضع الإقتصاديّ واضطرارها للترفيع في الأسعار كحلّ من الحلول المتاحة لإنقاذ موازنات البلاد، فإنّ الحكومة تبدو متعنّتة تجاه الحقوق الإقتصاديّة للعاملين والموظّفين في القطاعين الخاصّ والعّام. فلم تتجاوز الزيادة الأخيرة في أجور موظّفي القطاع الخاصّ 6 % رغم المؤشّرات التي سبق استعراضها.
فإزاء هذا التطوّر الكبير في أسعار المواد الإستهلاكية المختلفة، فإنّ نسق ارتفاع الأجور كان أقلّ بكثير من المطلوب لإحداث التوازن بين المقدرة الشرائيّة للمواطن وارتفاع الأسعار. إذ أنّ المؤسّسات الخاصة و العموميّة لم تستطع مجاراة التغيّرات الحاصلة في السوق الإستهلاكية على صعيد الأجور المقدّمة وهو ما خلق عجزا أمام الموظفين والعملة الذين لم تعد جرايتهم قادرة على تغطية استهلاكهم اليوميّ ونفقاتهم الإعتيادية من أكل وملبس ومسكن وتنقّل، حيث لم تتطوّر الأجور في المؤسّسات الخاصّة على سبيل المثال إلاّ بنسبة 2% على أقصى حدّ خلال سنة 2013 حسب معطيات المعهد الوطني للإحصاء.
كما أنّ الحدّ الأدنى للأجور في تونس لم يتجاوز اليوم وفي ظلّ هذا الارتفاع المشطّ للأسعار عتبة 280 دينار وهو مبلغ لا يمكن أن يفي بأي حال من الأحوال باحتياجات المواطن التونسيّ أو أن يضمن له العيش الكريم. ومن هنا بإمكاننا أن نستنتج بمجرّد مقارنة بسيطة بين نسبة الزيادة ومؤشّرات أسعار شهر ماي، أنّ الضغط سيستمرّ وربّما يشتدّ أكثر على جيوب التونسيّين وأنّ ما يتحدّث عنه البعض من تحسّن للمقدرة الشرائيّة بعد الإتفاقيّة الأخيرة لا يعدو أن يكون سوى وهم لا غير.
هذه الزيادات المتواصلة منذ أكثر من 3 سنوات تطرح أكثر من تساؤل حول دور منظّمة الدفاع عن المستهلك؟ وهل أنّ وزارة التجارة والحكومة من وراءها تتصرّف بمفردها في ما يتعلّق بقرارات الترفيع؟
منظّمة الدفاع عن المستهلك: من يحمينا كي نحمي المواطن؟
رغم الصبغة الغير تقريريّة لمنظّمة الدفاع عن المستهلك، إلاّ أنّ هذه المنظّمة استطاعت في السنوات السابقة أن ترسّخ صورة شبه رسميّة في أذهان المواطنين الذين يلتجؤون إليها للتشكّي من المخالفات أو الرفع الغير قانوني في الأسعار أو في حالات الغشّ والتحيّل. كما كانت للمنظّمة مهمّة استشاريّة وإعلاميّة بالنسبة لوزارة التجارة في ما يتعلّق بمراقبة الأسواق وتوجيه السياسات العامة للوزارة حول مسالك التوزيع ونقاطها ومعدّلات الأسعار.
إلاّ أن النسق السريع للترفيع في أسعار المواد الإستهلاكيّة خلال الفترة الأخيرة طرح العديد من نقاط الإستفهام حول دور هذه المنظّمة التي بدت عاجزة عن التصدّي لهذه القرارات الحكوميّة اكتفت بردود الفعل الإعلاميّة والبيانات.
وتعليقا حول هذه التساؤلات ولتوضيح موقف المنظّمة من السياسات الحاليّة للحكومة ووزارة التجارة، يقول السيّد محمود الزرّاعي، كاتب عام منظّمة الدفاع عن المستهلك في ولاية أريانة أنّ المنظّمة تقرّ بالعجز الذي أصابها تجاه الأحداث الجاريّة وأنّها صارت غير قادرة على التصدّي لتيّار الزيادات المتواترة للموّاد الإستهلاكيّة.
فمنذ شهور تمّ إقصاء منظّمة الدفاع عن المستهلك من اتخاذ القرار بخصوص سياسات الوزارة وتهميش دورها الرقابيّ والإستشاريّ. فصارت لا تعلم بالزيادات إلاّ بعد إقراراها بعد أن اتخذت سلطة الإشراف قرارا غير معلن باستبعاد المنظّمة من كواليس اتخاذ القرارات.
كما يضيف محدّثنا أنّ الأمور لم تتوقّف عند هذا الحدّ، بل رفعت الجهات المسؤولة الحماية والدعم الأمني والقانونيّ عن لجان المراقبة التابعة لها، حيث لم يعد لا الأمن ولا الوزارة تحميهم من بطش المخالفين أو توفّر لهم الدعم اللوجستيّ والقانونيّ لممارسة مهامهم.
ويرى السيّد محمود الزعيري، أنّ تهميش دور المنظّمة وإقصاءها من التدخّل في ما يخصّ معدّلات الأسعار، يعطي الوزارة حريّة مطلقة في تحديد المؤشّرات وأسعار الموّاد الإستهلاكيّة ويحرم المواطن من هيكل يسهر على حماية حقوقه والدفاع عن الإنتهاكات التي تلحق به سواءا من الجهات الرسميّة عبر القرارات المجحفة وغير المدروسة أو من المحتكرين والمخالفين للوائح والقوانين.
وفي هذا الإطار يشدّد الكاتب العامّ لمنظّمة الدفاع عن المستهلك على ضرورة وضع تشريعات تمنح الشرعية لعمل المنظمة وتحميها من السلطات العموميّة والتجّار في آن واحد، فإلحاق المنظّمة بالسلطة البلديّة أو بأي هيكل عموميّ سيكون ضمانا لحسن أداء مهمّتها الأساسيّة وهي الدفاع عن المواطنين وضمانا لاستمراريّتها وحمايتها أمنيّا وقانونيّا.
ويختم الزعيري حديثه بالإشارة إلى أنّ ما يتعرّض أليه المواطنون من استنزاف لجيوبهم عبر القرارات اللاّمدروسة من قبل الوزارة بالإضافة إلى إقصاء منظّمتهم وحرمان المستهلك من هيكل يدافع عن مصالحه لا يخدم إلاّ أطرافا معيّنة في الساحة الإقتصاديّة والسياسيّة، حيث يبحث أصحاب المصالح التجاريّة عن مضاعفة أرباحهم على حساب تدهور المقدرة الشرائيّة للمواطن، في ما يسعى السياسيّون إلى استغلال معاناة المواطنين وحنقهم لصالح المزايدات السياسيّة الحزبية وجعل هذه النقطة ورقة للمضاربة الإنتخابيّة.
iThere are no comments
Add yours