بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،
الديمقراطيّة الحقيقيّة تكمن في احترام خصوصيّة الأقليّة واختياراتها لا في تكريس هيمنة الأغلبيّة وسطوتها. ولكن يبدو أنّ الحملة الإعلاميّة والسياسيّة باتجاه تشجيع النّاس على الانتخاب والإختيار بين الاحزاب والقوائم المرشّحة أخذت في حادثة يوم الخميس 23 أكتوبر 2014 منحى آخر، بعد أن أخذ الضغط والحملات الدعائيّة بعدا أمنيّا مباشرا.
وتتمثّل ملابسات القضيّة في عمليّة إيقاف تعرّضت لها مجموعة من الشباب المنتمين إلى حركات وجمعيات شبابيّة إختارت أن يكون موقفها مع مقاطعة الانتخابات التي يعتبرونها مسرحيّة محسومة الفصول والنتائج.
البداية كانت مع تأسيس ملتقى مقاطعة الإنتخابات الذّي ضمّ ائتلافا من الحركات الشبابيّة والجمعيّات التي سعت إلى تنظيم حملات موازيّة للحملات الإنتخابيّة عبر نشاط مكثّف على صفحات التواصل الاجتماعيّ وتوزيع المناشير التي تشرح للنّاس دوافع موقفهم ورؤيتهم للعبة السياسيّة الحاليّة ومسار العمليّة الانتخابيّة.
وتتمثّل الحادثة المذكورة في عمليّة إيقاف تعرّض لها كلّ من محمّد خليل الخميري وناظم العربي وبشير الحامدي مساء الخميس 23 أكتوبر 2014 أثناء توزيعهم لمنشورات تدعوا النّاس لمقاطعة الانتخابات وعدم الوقوع في فخّ ما يعتبرونه “مسرحيّة لقوى الانقلاب على المسار الثوري”، بالإضافة إلى مجموعة مكوّنة من ثلاث صحفيّين تابعين لقناة “كنال بلوس” كانوا بصدد تغطية عمليّة التوزيع.
العمليّة بدأت بالتثبّت في الهويّات، لتتواصل عبر اصطحاب كامل المجموعة إلى مقرّ الأمن في منطقة برشلونة أين تمّ إطلاق سراح الصحفيّين والتحفّظ على باقي المجموعة التي نُقلت إلى مركز “فندق الغلّة” دون توجيه تهمة محدّدة لهؤلاء الشباب. وهناك أخذ التحقيق مجرى آخر عبر السؤال عن طبيعة نشاط المجموعة وأهدافها ومختلف التفاصيل المتعلّقة بملتقى مقاطعة الانتخابات لينتهي التحقيق بتوجيه تهمة “توزيع منشور تابع لجمعيّة غير مرخّص لها” واستدعائهم للمثول أمام وكيل الجمهوريّة صباح الجمعة 24 أكتوبر في محكمة باب بنات.
الهرسلة التي تعرّض لها هؤلاء الشباب كانت نفسيّة بالأساس،، وهو ما أكّده ناظم العربي، أحد الموقوفين الذّي أفاد “نواة” أنّ طبيعة التهمة الموجّهة إليهم تعكس رغبة الأمن في تعطيل نشاطهم دون مبرّر وإيقاف حملتهم المنادية بمقاطعة الانتخابات والعودة لاستكمال المسار الثوري في إطاره الصحيح وهو الشارع. وقد كانت نفس التهمة هي التي حوكم بها شباب مظاهرات 1968 وجانفي 1976. وكان آخر من حوكم بها حمّه الهمّامي سنة 2002، وهو ما يبرز بوضوح طبيعة الإيقاف السياسيّة وزيف الديمقراطيّة التي يروّجون لها في وسائل الاعلام حيث تمّت مصادرة حقّهم في الإختلاف.
ليسترسل محدّثنا في سرد وقائع عمليّة التحقيق في محكمة باب بنات، والتّي اقتصرت على سؤال وحيد : “لماذا تدعون للمقاطعة؟”. وبعد دفاع المحامين الحاضرين عن المتهمين وهم شرف الدين القلّيل وأيّوب الغدامسي وليلى حدّاد، تمّ حفظ القضيّة وعدم سماع الدعوى بعد أن تمّت مصادرة المنشورات المتبقيّة مع المجموعة التي تمّ إيقافها.
وفي ختام حديثه، أشار ناظم إلى أن خيارات “ملتقى المقاطعة” ثابتة وسيواصلون نشاطاتهم ودعواتهم لمقاطعة الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة وفق شعار حملتهم : “موقفنا المقاطعة ومهامنا المقاومة”، مشيرا إلى أنّ مجموعتهم مفتوحة أمام كلّ الفئات ومكوّنات المجتمع المدنيّ الرافضة لهذا المسار الاجباريّ التي رُسم مسبّقا وحسمت نتائجه وفق حسابات اقتسام السلطة وتكريس سلطة رأس المال الوكيل وأداته الأمنية والحزبيّة.
هذه الحادثة التي انتهت هذه المرّة باطلاق سراح الشباب الموقوف قد تكون الفاتحة “لديمقراطيّة التخيير لا الاختيار” التي تكرّس مسارا أحاديّا ولاعبين ثابتين في المشهد السياسيّ. وما بيان وزارة الشؤون الدينيّة الأخير الذّي حرّم مقاطعة الإنتخابات واعتبر التشويش عليها أو الدعوة لمقاطعتها “فسقا وفجورا” إلاّ حلقة جديدة في سلسلة من الممارسات القمعيّة لحريّة الإختلاف والإختيار بعد أن توافقت أغلب “مكوّنات المشهد السياسيّ” على اقتسام الغنيمة والصراع على السلطة وفق نواميس وقواعد ثابتة ولاعبين محدّدين ومشوّشين ثانويّين في مسار حاد تماما عن الشعارات الأولى لانتفاضة 17 ديسمبر 2010.
اِفرح إنها ديموكراسية العربان.. ديموكراسية الحزب الواحد والصوت الواحد والزعيم الواحد… المشكلة ليس في الديمقراطية وإنما في الشعب المتخلف والفخور بذلك