بقلم محمد سميح الباجي عكاز،
مفهوم “العدالة الجبائيّة” كان من أوّل المسائل التي طُرحت على المستوى الاقتصاديّ بعد 14 جانفي 2011 كأحد الآليات الضروريّة لإصلاح المنظومة الاقتصاديّة ككلّ. فالضرائب تعتبر المورد الأساسي لموازنات الدولة وعاملا حاسما في دفع الاستثمار واستقرار الدورة الاقتصاديّة وضمان الحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعيّة عبر تقسيم مصادر التمويل العموميّ حسب الشرائح والمداخيل.
ولكنّ المنظومة الجبائيّة، كغيرها من المؤسّسات والمنظومات التي تتأسّس عليها الدولة، سُخّرت لصالح النظام طيلة عقود وتحوّلت إلى سلاح لابتزاز أصحاب المشاريع أو وسيلة لمحاباتهم. وقد انطلقت المساعي لصياغة مشروع إصلاحي حقيقيّ للنظام الجبائيّ منذ سنة 2011، عبر جمع العديد من الأطراف التي سعت إلى نقل تصوّرها الخاصّ حول العدالة الجبائيّة وإرساء منظومة مثاليّة أو حماية نفسها من إجراءات قد تمسّ مصالحها.
الإصلاح الجبائيّ والأمتار الأخيرة في الفترة الانتقاليّة
في الثاني عشر والثالث عشر من شهر نوفمبر الجاري، نظّمت وزارة الماليّة اجتماعات موسّعة مع جميع الأطراف المساهمة في صياغة مشروع الإصلاح الجبائيّ تحت عنوان “الاستشارة الوطنيّة حول إصلاح المنظومة الجبائيّة” في نزل البلاص بقمرت.
وقد كان فريق نواة حاضرا خلال ورشات النقاش التي عرضت خلالها اللجان المختلفة أعمالها وتصوّراتها التي أدرجت في مشروع الإصلاح الجبائيّ والتي تكوّنت من:
– لجنة الضرائب المباشرة
– لجنة الضرائب غير المباشرة
– لجنة التصدّي للتهرّب الجبائيّ ودعم ضمانات المطالبين بالأداء
– لجنة تعصير إدارة الجباية
– لجنة الجباية المحليّة
بعد تقديم اللجان مشاريعها وشرح الخطوات “الإصلاحية” التي ستنهض بالمنظومة الجبائيّة، فتح باب النقاش بين مختلف الأطراف المشاركة في الاستشارة والتي كانت مساهمة في أعمال اللجان، وهي وزارة الماليّة، أو “الإدارة” كما يدرج على تسميتها، والإتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة والإتحاد العام التونسي للشغل بالإضافة إلى منظّمات المجتمع المدني ذات الصلة بالموضوع كالجمعيّة التونسيّة للمحاسبين العموميّين وجمعية الخبراء المحاسبين والغرفة الوطنيّة للمستشارين الجبائيين وجمعيّة الشفافيّة الماليّة التونسيّة.
ليّ الأذرع بين منظّمة الأعراف والإدارة والمجتمع المدني
النقاشات التي دارت بين مختلف الأطراف اتسّمت منذ البداية بالفئويّة، فتدخّلات ممثّلي منظّمة الأعراف أو الجمعيات أو الوزارة كانت عبارة عن مداخلات هجوميّة ضدّ ما اعتبره كلّ طرف مسّا من مصالحه أو دفاعيّة عندما يكون طرف ما عرضة للنقد والهجوم من الآخرين.
أعنف الملاحظات أو الإتهامات كانت بين الإتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة ضدّ المشروع الإصلاحي، حيث عبّر هذا الأخير على لسان ممثّله السيد مصطفى حبيب التستوري عن غرفة المهن الصغرى والحرفيين، عن خيبة أمل كبيرة تجاه المشروع الإصلاح الجبائيّ الذي لم يراعي مصالح رجال الأعمال وأصحاب المشاريع خلال تناوله مسالة المرور من النظام التقديري إلى النظام الحقيقي في تقدير الضرائب، كما اعتبر أنّ الحديث عن مفهوم “العدالة الجبائيّة” ذي طابع سياسيّ بالأساس وتشوبه الكثير من الضبابيّة، حيث لم يقع تناول المسألة باستفاضة وعقلانيّة تحمي مصالح كلّ الفاعلين الاقتصاديّين.
وختم مداخلته قائلا أنّ هذه الاستشارة وما طرحته من مشاريع “إصلاحية” ستساهم في بقاء العلاقة متوتّرة بين الإدارة وأصحاب المشاريع وستفاقم من مناخ الخوف وانعدام الثقة وهو ما لا يخدم الجهود الجماعيّة لدفع الاستثمار ومحاربة البطالة.
بدوره، لم يختلف محتوى مداخلة السيّد توفيق العريبي ممثّل منظّمة الأعراف عن الغرفة الوطنيّة للتجارة عن سياق من سبقه، إذ اعتبر البرنامج المطروح ترهيبيّا بأتمّ معنى الكلمة خصوصا مع الإجراءات الأخيرة التي تمّت المصادقة عليها، من قبيل رفع السرّ البنكيّ ومراقبة الصادرات ومقترح إنشاء “بوليس جبائي”. وترى منظّمة الأعراف من خلال ما جاء على لسان ممثّلها أنّ مشروع الإصلاح الجبائيّ سعى إلى تدعيم قدرات الإدارة على الرقابة والتحصيل ولكنّه في الآن ذاته تجاهل إعطاء ضمانات أكثر للطرف الاقتصاديّ، فهاجس الدولة حسب رأيه هو تحصيل أكبر قدر ممكن من الموارد وهو المحرّك الأساسي لصياغة هذا المشروع دون الأخذ بعين الاعتبار الوضع الاقتصاديّ الصعب الذي تعيشه البلاد منذ فترة والذّي كانت له ارتدادات سلبيّة على مردوديّة استثمارات رجال الأعمال التونسيّين.
كما انتقد السيّد العريبي التأخير الحاصل في تشريك منظّمته، حيث وقع إقصاءهم عن إعداد اللجان وتمّت دعوتهم في وقت متأخّر –حسب رأيه-، كما أنّ نسق الاجتماعات الذّي كان شبه يوميّ حدّ من قدرة المنظّمة على التواجد والمشاركة الفعّالة في صياغة مشروع الإصلاح الجبائيّ.
وقد خلصّ ممثّل منظّمة الأعراف في ختام مداخلته إلى أنّ المشروع المطروح لا يخدم مصلحة الجهود الرامية إلى إعادة بناء الثقة بين مختلف الفاعلين الاقتصاديّين في البلاد ولن يساهم بشكل إيجابيّ في دفع الاستثمار والنشاط الاقتصاديّ عموما.
المجتمع المدنيّ ممثّلا في الجمعيات والمنظّمات ذات الصلة بالمسألة الجبائيّة، لم يخفي خلال مداخلاته المختلفة عدم رضاه عن المشروع الإصلاحي، حيث اعتبر السيّد يوسف الرياحي ممثّل جمعية الشفافيّة الماليّة أن ما تمّ إعداده من خطوات وإجراءات لإصلاح المنظومة الجبائيّة لا يتضمّن رؤية اقتصاديّة واضحة تأخذ بعين الإعتبار الارتدادات الآنية على الدورة الاقتصاديّة، ويعود ذلك بحسب رأي المتدخّل إلى أن المشروع قد صيغ برؤية جبائيّة بحتة.
كما انتقد هذا الأخير غياب أيّة مراعاة للمؤسّسات الصغرى والمتوسّطة والتي تمثّل 80% من النسيج الاقتصاديّ في البلاد، خاصّة وأنّها الأكثر تضرّرا من الأزمة الاقتصاديّة التي تعرفها تونس منذ ما يزيد على الثلاث سنوات، بالإضافة إلى التعقيدات الكثيرة على المستوى الإداريّ وعدم تناول مسألة التعامل مع معضلة التجارة الموازية.
أمّا السيّد محمّد زرّوق نائب المنظّمة التونسية للدفاع عن المستهلك فقد تمحورت مداخلته حول الضغط الجبائيّ الشديد والذّي يثقل كاهل المؤسّسات، ممّا يدفعها حسب رأيه إلى إلقاء هذا الثقل على المستهلك عبر الأداء غير المباشر على القيمة المضافة TVA.
هذا ووجب التفكير جديّا في مسألة العدالة الجبائيّة وضمان حلول منصفة لجميع شرائح المجتمع، عبر إحداث آليات تخفّف الضغط الجبائيّ عن محدودي الدخل والموظّفين وتكون أرضيّة حقيقيّة لتحقيق الهدف الأساسي من مشروع الإصلاح.
وحول مؤاخذات المجتمع المدني وأهل الاختصاص حول الاستشارة الوطنيّة وما قدّم في مشروع الإصلاح الجبائيّ، كان لنواة حوارا مع السيّد نزار القرافي، رئيس جمعيّة المحاسبين العموميّين، الذّي تحدّث عن الاخلالات والنقائص التي طرحت على الأطراف ذات الشأن خلال يومي 12 و13 نوفمبر الجاري.
وقد عقد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة ندوة صحفيّة في مقرّه بوسط العاصمة لتناول مسألة الإصلاحات الجبائيّة كما تمّ عرضها للعموم خلال الاستشارة الوطنيّة.
[youtube https://www.youtube.com/watch?v=ZH0Dv-5fXow&w=640&h=360]
وأصدرت إثر ذلك دراسة مستفيضة تحصّلت نواة على نسخة منها، تناولت مآخذها الرئيسيّة والنقاط التي اعتبرتها بعيدة عن الهدف الحقيقيّ لعملية الإصلاح الجبائيّ.
الوزارة وسياسة رمي الكرة
خلال جلسات الاستشارة الوطنيّة، اتسّم موقف الوزارة بالسلبيّة ومحاولة الدفاع عن النفس وتعويم الانتقادات الموجّهة إليها من جميع الأطراف، ففي أكثر من مناسبة سعى الوزير أو رؤساء اللجان إلى التلميح بأنّهم لا يمتلكون السلطة التقريريّة وأنّ المجلس الأعلى للمحاسبة سيتكفّل بمراجعة كلّ الملاحظات. هذا دون أن تسعى “الإدارة” إلى إعطاء موقف واضح من المشروع الذّي كان لها النصيب الأكبر في إعداده وصياغته.
وقد حاولت نواة أن تتحدّث إلى احد المسؤولين في الوزارة من اجل توضيح وجهة نظرها تجاه الانتقادات الموجّهة ضدّ مشروع الإصلاح الجبائيّ وتسليط الضوء أكثر حول النقاط الخلافيّة، إلاّ أن المماطلة والوعود كانت دائما الإجابة الرسميّة لمن تمكّنا من الاتصّال بهم.
iThere are no comments
Add yours