المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

gouvernement--medias

بقلم: شكري بن عيسى (*)

اول الوعود التي اخلفتها حكومة الصيد، هو عدم اعلان الاولويات الخمس لكل وزارة على حدة والاولويات العشر للحكومة ككل، التي التزمت بتقديمها في ظرف عشرة ايام امام كافة الشعب التونسي في مجلس نواب الشعب غداة جلسة منح الثقة في 5 فيفري الفارط. واكتفى رئيس الحكومة في الاجل الاقصى (16 فيفري) في لقائه برئيس مجلس النواب بمجرد عرض الاولويات التشريعية لحزمة من مشاريع قوانين اغلبها متعلقة باتفاقيات ذات طابع مالي مع دول او مؤسسات مالية زيادة على مشروع قانون مكافحة الارهاب وغسيل الاموال، استدعتهم “الحاجة” وقرب انقضاء “الاجال القصوى” وليس البرمجة المسبقة.

واستمر وضع الانتظار والتأجيل الى اليوم، في مقابل تسريب عدة وزارات بطريقة غير رسمية للاولويات (المُتَعَهَّد باعلانها على الملأ امام مجلس النواب) على اعمدة بعض الصحف او على لسان الوزراء في معرض احاديثهم وحواراتهم. ما يطرح عديد الاستفهامات عن استراتيجية الاتصال لهذه الحكومة، خاصة وانها انطلقت من اليومي وابتلعها الميدان، في نفس الوقت الذي عبّر فيه الكثيرين عن استحسانهم لهذا “النهج” الذي اعتبروه يعبر عن قرب والتحام بواقع المواطن ومباشرتية في العمل فضلا عن وجود العزم والديناميكية والجاهزية في معالجة المشاكل.

٠ زيارات ميدانية.. على وقع الطوارىء

لأول مرة تقريبا في تاريخ الحكومات التونسية نسجل هذا الكم العالي من الزيارات الميدانية للجهات والمؤسسات لحكومة وجدت نفسها في قلب “المعمعة” تواجه “الطوارىء” منذ اليوم الاول مع اندلاع شرارة احتجاجات الذهيبة التي خلفت قتيلا وعديد الجرحى على يد قوات الامن، وصعّدت الاحتقان في الجنوب الى حده الاعلى على خلفية الاختلال التنموي العميق والبطالة المتصاعدة وعلى وقع اتاوة 30 دينار المفروضة عند مغادرة التراب الوطني التي عمّعقت اثرها الاتاوة المضاعفة التي ردّت بها السلطات الليبية.

تنقلات وزيارات للجهات كان تعهّد بها الصيد الذي اعتبر منذ تولي حكومته (واكدها في ندوة الولاة يوم 21 فيفري) ان العمل الميداني والاتصال المباشر هو قاعدة النّجاعة، وليس المكاتب، ولكن سرّعتها الاستحقاقات المتلاحقة. فزيادة على التأزم الحاصل في الجنوب ايام 6، 7 و8 فيفري وما بعدها لم تتأخر الاحداث المزلزلة من جديد في ليلة 17 فيفري بعد تنفيذ كمين دموي راح ضحيته 4 امنيين في بولعابة، وفي يوم 26 فيفري وما تلاه بعد حصول فيضانات كارثية غمرت مدينة بوسالم ووضعت آلاف العائلات في الملاجىء، احداث شغلت الرأي العام بقوة ودفعت بالتحرك الحكومي صلب الميدان.

التحرك الميداني الحكومي لم يكن مباشرا وآليا وتوزّع في الواقع بين ما يقوم به رئيس الحكومة وما يقوم به الوزراء المعنيين بالحادثة، وعادة ما تمت زيارات الوزراء للجهات المعنية بعد عدة ايام ليتسنى دراسة الامر والتمكّن من مكوّنات الملف. وخلال الزيارة يتم الالتقاء بالمواطنين والسلط المحلية والجهوية والمجتمع المدني وعقد الاجتماعات واجراء المعاينات، وتتوّج الزيارات باجتماعات مع رئيس الوزراء ثم تتبعها زيارات الاخير صحبة الوزراء المباشرين للملف للجهة المعنية، يقع خلالها الاتصال بمختلف الاطراف والاعلان في النهاية عن جملة من القرارت، كما تم يومي 28 فيفري و1 مارس على التوالي في ولايتي تطاوين ومدنين، كانت على رأسها الغاء معلوم الاتاوة على المغادرة على مواطني دول المغرب العربي الذي تم المصادقة عليه من قبل مجلس النواب في جلسة يوم الجمعة 6 مارس الجاري.

٠زيارات “فجئية”.. على وقع الاهتمام الاعلامي

وكما هو واضح فالزيارات خصت جهات مهمشة تاريخيا، ارتقت بها الاحداث الى مركز اهتمام الراي العام وجعلتها تشغل مجمل وسائل الاعلام. نفس الاهتمام الاعلامي خصّ الطفل محمد الدشراوي المعروف بـ”حمّة حمّة” الذي وافاه الاجل وكان منطلق الزيارات الميدانية لرئيس الوزراء لعائلته بحي الكبارية 1 الشعبي لتقديم مساعدات عاجلة لعائلته المنكوبة بتوفير مسكن واعادة ابنيها للدراسة وتأمين مورد رزق لرب العائلة، والتقى خلالها بالمواطنين. نفس الاهتمام الاعلامي كذلك بموت التلميذة ندى الميساوي من جراء اصابتها بفيروس الالتهاب الكبدي هو الذي فسّر تنقل الصيد للرقاب من ولاية سيدي بوزيد ومعاينة مركز الصحة الاساسية بالسعيدة والمدرسة الابتدائية بالغابة السودة، اعقبتها اجراءات “استعجالية” لفائدة الجهة تهم اساسا الصحة من تهيئة مركز جديد للصحة الاساسية وتوفير ادوية وتلاقيح ومعدات والتعجيل في مدّ قرابة 8 كلم من قنوات المياه الصالحة للشرب وربط المدرسة الاعدادية بالجهة بالماء، وتحويل منطقة السعيدة الى معتمدية واحداث بلدية بها.

زيارتين اخريين قام بهما الصيد، احدهما في اتجاه فرنانة من ولاية جندوبة التي زار خلالها مؤسسات تربوية والمستشفى والتقى بموظفيهم وعملة الحضائر والثانية في حدود تونس للمطار، والجامع بين هذه الزيارات الاربع الاخيرة هو انها “فجئية” او هكذا يتم التسويق لها، كما انها تتم بمصاحبة الوزير المختص، الشؤون الاجتماعية لحي الكبارية 1 والصحة للسعيدة والداخلية للمطار والتجهيز بالنسبة لفرنانة، كما انها تمت عن طريق طائرة عمودية لكل التنقلات التي تمت خارج العاصمة وغالبا ما يتبعها اجتماع وزاري مضيق او واسع لاعلان حزمة من الاجراءات “السريعة”.

٠زيارات مسترسلة.. وتورط اعلامي

politique-et-communication---media

بقية الزيارات خصت اغلب الوزراء وانطلقت اساسا مع وزير التجارة في اليوم الثاني لتسلم المهام لسوق الجملة ببئر القصعة كررها في اليوم الموالي لنفس السوق تلتها زيارات اخرى لاسواق الخضر والغلال لعدة مدن منها بنزرت ونابل وسوسة، وعُدّت في مجملها “فجئية” والحال ان اغلب الاسواق كستها حلّة خاصة مع الزيارة و”احتشمت” خلالها الاسعار، وكان التواجد الاعلامي كثيفا. معاينة نقاط بيع الخضر والغلال واسواق الجملة، تفسّر بالتزام الحكومة على رأس اولوياتها بتحسين المقدرة الشرائية للمواطنين عبر الضغط على الاسعار، وقد صحبها اتفاقيات مع بعض المجامع المهنية والفضاءات التجارية الكبرى للضغط على الاسعار خلصت الى انخفاض نسبي في اسعار بعض المنتجات مثل لحم الدجاج الذي انخفض الى ما دون خمسة دنانير للكلغ الواحد.

وزير العدل بدوره زار مركز ايقاف وسجن والمحكمة الابتدائية بتونس وانتقد الاكتضاض واعلن الاتجاه نحو توسيع بعض السجون وزيادة اخرى وتنقيح قانون 92 المتعلق بالمخدرات نحو الغاء عقوبة السجن في الجنح المتعلقة بمادة القنب الهندي التي تمثل النسبة الكبرى في اسباب الايقاف والسجن، في حين تفقد وزير الداخلية اعوان الامن في القصرين واعلن قرار العودة الى خدمات “المخبرين” (هكذا دون اطار قانوني!؟) واعطى اشارة انطلاق “الحملة الوطنية للنظافة” من ولاية بن عروس، والامر يفسر باولوية الحكومة في بسط الامن والاستقرار ومكافحة الارهاب واختيار القصرين كان لغرض رفع معنويات اعوان الامن بعد عملية بولعابة، وايضا في الاهتمام المركزي بالنظافة والبيئة، واشترك الغرسلي يوم 7 مارس مع وزير الدفاع في زيارة للحدود الجنوبية لتفقد الحدود والوحدات العسكرية والامنية في نطاق مكافحة التهريب والارهاب، مباشرة بعد عملية حجز اسلحة وذخائر ببن قردان.

وكان لوزير التشغيل زيارات لبعض مراكز التكوين والصالون الاقليمي للتشغيل في سوسة، وركز وزير التربية على مدارس المناطق الريفية والاحياء الشعبية ومركز التجديد البيداغوجي. وكانت تنقلات الوزراء وزياراتهم حثيثة ومتعددة بمعدّل يومي ويصعب حصرها بالدقة اللازمة واشتركت في اغلبها في صفة “الفجئية”، التي كانت الكلمة البارزة التي وشّحت صفحات الشبكات الاجتماعية “فايسبوك” للوزارات المعنية للتعليق على الصور الاستعراضية التي اكتسحت هذه الصفحات. ووصل الامر الى بعض الزيارات “التنكرية” لأحد الولاة الذي صوّر نفسه في صفّ بأحد المؤسسات الادارية لتجتاح بعدها الصورة عديد المواقع الالكترونية والاجتماعية.

طبعا اغلب الزيارات كان الغرض منها الاستماع لمشاغل المعنيين والاطلاع على المشاكل عن كثب، للمعاينة والقيام بالتدخلات الاستعجالية المستوجبة، ولكن لم يكن غائبا الاستثمار الاعلامي العالي، فالترويج الدعائي كان “مميزا” والتغطية الاعلامية في الفضائيات والاذاعات والمواقع الالكترونية والجرائد كانت عامة وفي كثير من الاحيان كانت فورية ومباشرة والنشرات الاخبارية خصصت اجزاء كبيرة للغرض. وسائل الاعلام التي كانت في كثير منها مبرمجة على الزيارات الفجئية النوفمبرية وجدت “ضالتها” في المشاهد الحالية التي تجاوبت معها بـ”شجن”، وأطْرت عليها بقوة، خاصة وان التركيز على التلقائية من الوزراء وارتباط الزيارات بقضايا حارقة او حيوية جعلها احداث ذات قيمة اخبارية “مميزة”.

٠الاولويات الغائبة.. البوصلة المفقودة

وبين “الضرورة” التي يستدعيها التدخل الميداني والمعاينات التي تتطلبها اعداد وثيقة الاولويات الحكومية يبدو ان لعبة “الميدان” صارت فاتنة، والتعديل صار صعبا الى حد ما، والحكومة عجزت بعد انقضاء ثلث مدة 100 اليوم الاولى على تحديد اولوياتها المستعجلة العامة (10 للحكومة ) منها او الخصوصية (5 لكل وزارة) بصفة دقيقة، فضلا عن ان مؤشرات التأزم هي الطاغية ولا يوجد اتجاه لارساء برنامج انقاذ فعّال، فلا المواطن احس ان الامن والاستقرار انطلق في التحسن ولا الاسعار بدأت في الانخفاض ولا المؤسسات الاستشفائية لاحت بوادر تجويدها، ولا قطار التنمية انطلق من جهة ما ولا ماكينة التشغيل شرعت في الدوران.

عدم تحديد الاولويات بالدقة المستوجبة واخلاف اول وعودها يفقد الحكومة الثقة التي تبحث على كسبها لدى المواطن التي تمثل ابرز اهدافها الاتصالية المرتبطة جوهريا بفعالية السياسة الحكومية، ثم انه يحول دون معرفة بوصلة الحكومة خلال الـ 100 يوم الاولى، ويحول دون تحقيق الرقابة البرلمانية والسياسية عموما خاصة وان الاهداف المستعجلة الي اعلن عنها رئيس الوزراء في خطاب نيل الثقة كانت عامة ومرسلة فضفاضة وكان لزاما ضبط اهداف كمية مرقمة وبآجال وهو ما تعهد به الصيد حينها على ان يتم في ظرف 10 ايام. ايضا تحديد الاولويات يمكن من ضبط منطلقات الميزانية التكميلية التي لم يعد يفصل عن ضبطها سوى ثلاثة اشهر وكذلك في خصوص تحديد قاعدة التحضير لميزانية 2016 التي تتطلب توضيح الرؤيا والتوجهات فوراً.

٠ شكوك متعددة حول جدية ومصداقية الزيارات

السياسة الفعلية والاتصالية للحكومة يبدو انها طغت عليها الشكلانية المفرطة عبر الزيارات الميدانية “الفجئية” و”التفقدية” و”التنكرية” وفرطت في اهدافها في تحقيق النجاعة والفعالية من جهة وكسب ثقة وتفهّم وتأييد ومشاركة المواطنين، من اخرى، فضلا عن التناسق المستوجب الذي غاب، وطغيان عديد السفاسف زيادة عن الاخطاء الفادحة في عديد التدخلات. ويظهر ان الارتجال وحتى الرعوانية هي السائدة ولا توجد استراتيجية اتصالية مظبوطة اصلا، فالاتصال والاعلام اليوم اختصاصات قائمة الذات لها اصولها وضوابطها الصارمة، واي ابتعاد عن القواعد يكون جسيم الكلفة.

“الجعجعة” باتت بلا “طحين” واضح ولم نشتم على الاقل رائحته (الطحين) لننتظر نزوله، وعدة زيارات استهجنها المواطنون وحتى رفضوها والاحتجاجات كانت حاضرة في مدنين وتطاوين والسعيدة وجندوبة وكلمات “ديغاج” ترددت في عدة مناسبات، والحماية الامنية لاحت لصيقة في عديد الزيارات لاعضاء الحكومة، وطبعا تحمل دلالات سلبية بعدم وجود تقبّل للنشاطات او شكوك في مصداقيتها او جدواها. والوعود التي قدمها الصيد في ولاية تطاوين المتعلقة بالصحة لم تمنع اضراب مؤسسات الصحة في كامل الولاية يوم 5 مارس، في دليل واضح على عدم وجود تقبل لما قدمه رئيس الحكومة ضمن اجراءاته الكثيرة. والشكوى التي قدمها احد المواطنين للصيد في فرنانة ووجدها مرمية في الارض القت بشكوك مباشرة حول جدية الزيارات وتفاعل الحكومة مع المواطنين.

رئيس الحكومة الذي لجأ في حالة المرأة المسؤولة عن النظافة في احد المعاهد في فرنانة الى الوعود الشخصية على الطريقة “المَلَكِيّة”، باجابتها “اسمع خلاَّها عْلِيَّا أنا الحَجَّة”، دلّل على محدودية المقاربة بل وشعبويتها، اذ اتّضح الاستثمار الاعلامي الدعائي المفرط للزيارات والمغالات في استغلال اضواء الكاميرات التي انساقت بل وتورّطت ولم تقم بالغربلة وسقطت في الدعاية المجانية باهمال للبعض وبتعمّد للعديدن. نفس الشأن تعلق بحضور الصيد تحية العلم باحد المدارس، وبطرده احد الموظفين وصل متأخرا في ندوة الولاة. دليل هيمنة الدعاية على حساب الجوهر هو الاستخفاف بما تم التعهد به من فتح تحقيق أول في خصوص مقتل الشاب صابر المليان وجرح آخرين وفي خصوص التحقيق الثاني المفتوح حول الاعتداءات على صحفيين من امنيين في القصرين بقيت بعد عدة اسابيع بلا نتيجة، والحال ان تقرير المنتدى الاجتماعي والاقتصادي حول احداث الذهيبة جهز بتفاصيله الدقيقة ونتائجه منذ 19 فيفري برغم عدم توفر الوسائل.

وما يبرر الانشغال والشكوك حول وجود الجدية والمصداقية والشفافية، في نشاط اعضاء الحكومة، وبالتالي طغيان الرهانات الدعائية، ولم نثر الشكوك حول وجود رؤية عميقة للاصلاح، هو بقاء العديد من الاحداث بغرابتها في خانة الالغاز، من حيث حصولها، ومن حيث غياب التفاصيل حولها. احداث غريبة، ابتداء من الكمين الذي حصل للامنيين في بولعابة، واجتياز اكثر من 100 شاحنة بوابة راس جدير عنوة، وحصول حالات اغماء وانهيار لاطفال اثر تلقيهم تلقيح بمستشفى القصرين يشتبه في انتهاء صلوحيتها، وتهريب اكياس دم الى ليبيا، وانتشار حالات قُمّل في عديد رياض الاطفال والمؤسسات التعليمية، وانقطاع قوارير الغاز بعديد المناطق فضلا عن بقاء آلاف الاطنان من لحوم العلوش والبقر والدجاج التي تم ضبطها فاسدة في عديد المناطق وايضا المواد الغذائية الفاسدة مجهولة التفاصيل، خاصة وانه اتضح انها تتجاوز مجرد المخالفات البسيطة الى مستوى الجريمة المنظّمة التي تستهدف الحرث والنسل.

٠ السقوط في التناقض

الانسجام الحكومي المطلوب وما يرتبط به من اتصال، لاح مفقودا في عديد المواضع، والتفكك الى حد التناقض كان فادح الخطورة. ومواقف وزير الخارجية المظطربة من ليبيا بعد “تفهّمه” الضربات الجوّية المصرية على خلفيات حادثة مقتل المصريين، وانحيازه لطرف على حساب ثان في النزاع القائم بليبيا قبل ان يتم تبني “الرؤية الجزائرية” عبر رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وتعديل الموقف نحو الحياد، واقرار فتح قنصليتين بكل من طرابلس وبنغازي تبعه ارتجال في التصريحات. وزير الخارجية “الفاقد للدبلوماسية” استعاد حالة الاضطراب من جديد بتصريح بدا فيه تدخّل في الشأن الليبي رد عنه المكلف بالاعلام في حكومة طبرق بصلافة لم تعهد لها الدبلوماسية التونسة مثيلا في تاريخها. أمين عام نداء تونس باشرافه على احد اجتماعات الحزب فجّر من جديد “ازمة ديبلوماسية” داخلية هذه المرة بتحذيره من حل البرلمان اذا فازت النهضة في المحليات!

أمّا الخطيئة السياسية الفادحة فجاءت على لسان وزير المالية سليم شاكر الذي صرٌح يوم 5 مارس بان حكومته ورثت وضعية مالية مزرية على حكومة جمعة متساءلا عن كيفية تغطية بقية نفقات 2015 في اتساق مع ما صرّح به قبله محافظ البنك المركزي الشاذلي العياري الذي صعق الجميع بخبر امكانية عجز الدولة عن سداد الاجور في الايام القادمة. ولا ندري عن قيمة “المجهود” الذي تقوم به الحكومة الساعية لجسر فجوة الثقة مع المواطن وارسال رسائل الطمأنة لكسب تأييده ولجلب الاستثمار الخاري في الوقت الذي تأتي التشكيكات المربكة من الماسكين بالمالية العمومية!؟

السقوط في التشويه.. وغياب “خطاب الازمة”

وهل ان الامر “تكتيكي” يتنزل في اطار مواجهة تصاعد الطلبات المهنية بالزيادة في الاجور خاصة من الاساتذة، وعلى وقع انطلاق المفاوضات الاجتماعية للزيادة في اجور الموظفين؟ نقول ذلك خاصة بعد الطريقة التي اعتمدتها “الكتيبة الاعلامية” الداعمة للسلطة بالترويج لما صرح به بدهاء سياسي عال مرزوق بخصوص فيضانات بوسالم التي روّج ان ما حدث لالاف العائلات هو بسبب بنائها في مواقع الفيضان، وايضا بعد تصريح وزير التربية بان “المؤسسات التربوية أصبحت مدارسا للإرهاب” وان وزارته “ليست بيت مال المسلمين لتوفير مبلغ يناهز 200 مليار” للاساتذة في اثارة قوية ضد الاساتذة عمّقتها عديد وسائل الاعلام التي وصف ما قامت به الامين العام لاتحاد الشغل سامي الطاهري بـ”العودة الى اعلام التعليمات”، في اشارة الى عودة الاعلام الى “بيت الطاعة”.. ولكن الاختيارية هذه المرة! الوكالة “الرسمية” للانباء “وات”، المصدر الاساسي لأغلب الاخبار التي تتداولها وسائل الاعلام، تم تسمية ر. م. ع. جديدة (حميدة البور) ، ولا ندري الى اي حد حقيقة يرتبط توصيف الطاهري بهذا القرار.

السقوط في التشويه في كارثة فيضانات جندوبة وبوسالم وفي ازمة اضرابات التعليم عوّض في الحقيقة الصمت الذي خيّم في القصبة من قائد الفريق الحكومي الذي اختار الابتعاد عن الظهور الاعلامي طواعية ولم يقم بتوجيه الخطاب الذي عادة ما ينتظره الشعب والمعنيين لبعث رسائل الطمأنة والاهتمام، نفس الشيء ينطبق على عملية بولعابة التي سقط فيها اربعة من امنيينا وفي ما حصل من مظاهرات في الذهيبة وبن قردان سقط ضحيتها شاب، وغاب الخطاب الفوري المباشر من الصيد عبر وسائل الاعلام وغاب الحوار التلفزي الذي يفصّل الموقف الفوري المستوجب من الازمة. وهو ما انطبق على قرطاج، اذ خيّر رئيس الجمهورية الانسحاب ولا ندري هل هو بسبب العجز او نقص الخبرة واكتفى رمز الوحدة الوطنية والتضامن والمسؤول الاول عن الامن القومي بتدخل يتيم في برنامج اذاعي، كما فعل عند اغتيال عون الامن الشورابي بالفحص بالتدخل عبر مكالمة العائلة هاتفيا، في احداث وطنية كبرى هي من صميم الامن القومي، هذا القصور يسجل اليوم في نفس الوقت الذي كنا نستقبل قبل 2014 حوارات السبسي كل اسبوع تقريبا لتقديم المقترحات والبدائل.

٠ محاذير الافراط في الاتصال الميداني

طريقة الزيارات الميدانية انتهجها سابقا بورقيبة ضمن “فلسفة” خاصة بشخصه ومرتبطة بزعامته وكارزماتيته، واعتمدها المخلوع بن علي ضمن طريقة ماكرة للبروبغندا السياسية اعتمد فيها كل مؤثرات الصورة والكلمة والمشهد لتزييف الواقع، وسلكها بعض وزراء حكومات ما بعد الثورة، وفي الاغلبية الساحقة للحالات بقيت الامور على حالها كما كانت قبل الزيارات بدون تغيير يذكر، ولم تكن في الحقيقة سوى مجرّد تخدير لا يغيّر الواقع سوى في المخيال.

محاذير عديدة في الواقع ترتبط بهذه الطريقة:

اولا، الاكثار منها والافراط في تحويلها الى نهج ثابت يفقدها كل فاعلية تحت عامل “الاهتراء”.

ثانيا، تحويلها الى نهج دعائي يفقدها ايضا كل مصداقية.

ثالثا، عدم تحقيقها للفاعلية المرجوّة يحوّلها الى اخفاق حاد، وفقدان سياسة الحكومة لثقة المواطن في المستقبل.

رابعا، عدم التخلص من مرحلة المعاينة والاستماع والتشخيص بالسرعة المطلوبة والانتقال الى مرحلة وضع الخيارات الاستراتيجية ثم المرور الى التنفيذ، او السقوط في وضع الخيارات الظرفية المجزأة، ومعالجة الحالات المعزولة ما يغرق الجهد في الموضعي والارتجال والترقيع الذي يفتقد معه الاستشراف وعمق وشمولية المقاربات والاصلاح.

٠ مبادىء الاتصال الحقيقية.. تبدأ من الجوهري

الاتصال الحكومي والعلاقات العامة الحكومية تنبني في الحقيقة على مبادىء اساسية ومقاربات علمية، لم يتضح وجودها في ما تقوم به الحكومة، اذ كان المفروض ان “يبدأ الاتصال داخل الهيكل الحكومي” ذاته وهو ما تم تسجيل نقيضه في عديد الحالات بوجود تضارب وتضاد في التصريحات، كما ان “اعتماد النزاهة وعدم اخفاء الحقائق” لم يكن سائدا وكثير من الوقائع الحساسة يلفها التعتيم بل ان بعض الممارسات كانت تشويهية مثلما حدث مع الاساتذة في اضرابهم، كما ان مبدأ ” التكامل بين الاداء الجيد والاعلام عنه” لم يراع اذ لا يزال “الاداء” مرتجلا في اغلبه، كما ان الرسائل لم تكن واضحة بما يكفي ولم تحقق بيداغوجيّاً المرتجى، ويظل مبدأ “خدمة الصالح العام” اساسيا في الصدد في حين يبدو انه لم يقع الالتزام به.

ولم يقدم اعضاء حكومة جمعة كلهم التصاريح المستوجبة دستورا وقانونا المتعلقة ببمتلكاتهم ولا يوجد لدينا لحد اللحظة ما يفيد اجراءها برغم مطالبة عديد المنظمات المعنية بالشفافية بالقيام بها، كما انه يسجّل باستغراب عدم اقدام هذه الحكومة على اجراءات رمزية بتخفيض اجور اعضائها والتقشف في مصاريفهم، و العزم على ارساء الاليات المستوجبة لمكافحة الفساد والمحسوبية والرشوة التي بدونها ستتواصل علاقة الانفصال بين الحاكم والمحكوم وبين المركز والجهات.

وايضا الارادة في حفظ المال العام بجرد وصون الثروات الطبيعية والمنجمية والطاقية وحسن استثمارها والتصدي لمراكز النفوذ والهيمنة المالية الخارجية بالقطع مع املاءات الصناديق والبنوك الدولية االليبرالية التي رهنت قرارنا وسيادتنا، والداخلية بمكافحة التهريب والجريمة المنظمة والتهرب الجبائي والاحتكار وتبييض الاموال، والمضي قدما في استرجاع الاموال المنهوبة التي تقدر بعشرات المليارات من الدنانير والتوجه الحاسم نحو تأسيس نظام جبائي يضمن العدالة الجبائية يكرس خاصة الضرائب المستوجبة على الثروات الفاحشة ويحقق اعادة توزيع الثروة بشكل يرسي العدالة الاجتماعية في عمقها ومضمونها، وليس مجرد “رقصات” هنا وهناك لاثارة الرأي العام لا تسمن ولا تغن من جوع!

(*) قانوني وناشط حقوقي