20-mars-2015-fete-independance-3

غسّان بن خليفة

كيف سيحيي التونسيون “عيد استقلالهم” بعد “مجزرة باردو”؟ كان هذا السؤال الذي خامر ذهني وأنا أدلف إلى شارع بورقيبة عشيّة أمس. هل سينزلون بكثافة؟ هل سيكون لذكرى هذه السنة طابعًا خاصًا عندهم؟ هل ما زالوا يؤمنون بأهمّية إحياء الأعياد الوطنيّة؟ هل مازالوا يشعرون بـ”الحبّ – لوطنهم – في زمن داعش”؟ وهل مازالوا يشعرون أصلاً بوجود “استقلال”؟

20-mars-2015-fete-independance-18

“كنتُ كغيري سعيدًا برؤية هذا الطفل أو ذاك، معتليًا كتفيْ والده، ملوّحًا بعلم بلادٍ سيكتشف بعد سنوات أنّها استولت على قلبه رغم كلّ الشتائم اليوميّة التي قد يقولها في حقّها”

لم يكن الشارع يغصّ بالناس عشيّة أمس في الشارع الرئيسي للعاصمة، بعد أن اكتظّ بهم صباحًا. ربّما كان للطقس الغائم واحتمال المطر تأثيرًا ما، لكن في كلّ الأحوال، حافظت المقاهي المنتصبة على الأرصف على عادتها، فامتلأت بالعشّاق والأصدقاء والفضوليين. أمّا الرصيف الأوسط، حيث كانت تجري “مراسم” الاحتفال، فقد كان ضعيف الكثافة. بالكاد، تواجد به بعض مئاتٍ انتشروا بين نقطة تقاطع الشارع مع سكّة الميترو الخفيف، وبين مدارج المسرح البلدي.

20-mars-2015-fete-independance-19

أمّا عن مزاج النّاس فقد كان متنوّعًا نسبيًا. فباستثناء الأطفال الفَرٍحين بعلم البلاد مرفرفًا بيَدِ، فيما أمسكت باليدِ الأخرى أمّ أو أبٌ قَلقيْن، كانت الابتسامات قليلة. ومع ذلك، كنتُ كغيري سعيدًا برؤية هذا الطفل أو ذاك، معتليًا كتفيْ والده، ملوّحًا بعلم بلادٍ سيكتشف بعد سنوات أنّها استولت على قلبه رغم كلّ الشتائم اليوميّة التي قد يقولها في حقّها. وكنت أسعدَ بالحديث إلى رنين، بنت العشر سنوات، التي جاءت تحتفل بالاستقلال، “لأنّها تحبّ تونس وتحبّها ديما حرّة”. ولأنّها تخاف عليها، تتمنّى أن تصير يومًا ما “حاكمًا”، أيْ عون أمن بالدارجة. “أو جنديّةً، لا فرق عندي”، تضيفُ الصغيرة مبتسمة.

20-mars-2015-fete-independance-13

كان هنالك أيضا بعض المراهقين، وخاصّة المراهقات، من تلاميذ المعاهد، الذين نزلوا بأعلامٍ عصّبوا بها رؤوسهم أو رسموها على خدودهم. نور وسرور، اللاتي تدرسان بالثالثة ثانوي، قالتا أنّ ما جرى بباردو “ضربة كبيرة”، وأنّهما حزينتيْن على من قُتلُوا كما لو كانوا “أفرادًا من عائلاتهم”. أمّا مَها، بنت السادسة عشرة، التي انضمّت إلى محادثتنا، فقد عبّرت عن عجزها عن فهم كيف يمكن لتونسيين “مثلنا” أن يقتلوا تونسيين آخرين “مثلهم” أو حتّى أجانب. ثلاثتهنّ نزلن أمس كي يقُلنَ أنّهنّ غير خائفات، على عكس أولئك الذين فضّلوا الاختباء “وراء أبواب بيوتهم المغلقة” كما سخرت احداهنّ.

20-mars-2015-fete-independance-20

وكالعادة، تكون هذه المناسبات فرصة التعبير الأفضل لبعض أصحاب الشكاوي والمظالم والمآثر المجهولة؛ مثل ذلك الرجل الرافع ورقةً كتبَ عليها شعارًا بفرنسيّة ركيكة، مطمئنا من خلاله السُيّاح الأجانب على سلامتهم والذي يحدّث الجميع عن عزله ظلمًا من الجيش في عهد بن علي؛ أو مثل تلك المرأة، التي عرّفت نفسها على أنّها أرملة ذاك الطبيب الراحل الشهير، قبل أن تحدّثك عن كتبها وعن تجاهل الدولة لكفاءتها، وكذلك عن ترشّحها للرئاسيات السابقة كمستقلّة، مقدّمةً في ملفّ ترشّحها “أوسمتها العديدة عوض تزكيات المواطنين”. أولئك المواطنون الذين يحدّثونك ككلّ مرّة بعفويّة وطيبة تلامسان “السذاجة” عن “قصّة حياتهم”، إلى درجة أن تفاجأ نفسك بصدد التساؤل عن مدى صحّة كلامهم وعن أمور أخرى، فتقرّعها بعنف حتى تشعر بالذنب، وتعود للاستماع إليهم باهتمام مصطنع فيه الكثير من الحرج والمجاملة.

20-mars-2015-fete-independance-15

وربّما كان أهمّ ما لا حظتُه أمس هو عودة بعض حلقات النقاش بين المواطنين، التي نبتت كالفطر على رصيف الشارع أيّام “الزخم الثوري”. فاستمعتُ الى مواطنة متحجّبة تحاول اقناع مواطنٍ آخر بضرورة “أن لا ننزل إلى مستوى أخلاقهم (أي الارهابيين)”، مشدّدةً على أنّ “الاسلام بريئ من أعمالهم”. كما وجدتُ شيئا من سجالات الفيس بوك في كلام مواطن آخر بحلقة مجاورة، عن نقاط الغموض في ما جرى: قصّة “عاملة النظافة” التي قيل انّها استشهدت، وتقصير الأمن إلى درجة أنّه لم يتفطّن الى السائحين الاسبانيّين في قبو المتحف. فيما لم يتردّد آخر معه في الغمز نحو سناريوهات “تآمريّة”…

20-mars-2015-fete-independance-2

عشيّة أمس لم يكن عرض الأزياء التقليديّة لأولئك الشبّان والفتيات ذوي الوسامة القادمة رأسًا من بعض الأحياء المُترفة للعاصمة، ولا حتّى خيمة الصور من أرشيف الكفاح الوطني، كافيَيْن لإقناع الكثير من التونسيين بأنّ بلادهم بخير بعد تسعة وخمسين عامًا عن استقلالها المُفترض. كان “المحتفلون”، على قلّتهم، متفائلين بأنّ الآتيَ أفضل، لكنّ التَعَب، أكثر من الخوف، كان باديًا بوضوح في عيونهم.

20-mars-2015-fete-independance-32