essebsi-bsaies

بقلم محمد سميح الباجي عكاز،

رئيس الجمهوريّة الباجي قايد السبسي كان ضيف الاعلاميّ برهان بسيّس مساء الثلاثاء 22 سبتمبر 2015 على قناة نسمة في حوار مطوّل تناول المواضيع التي أثارت الجدل في الفترة الأخيرة في محاولة لوضع حدّ لها بطريقته الخاصّة. بعد صور الاستقبال الذّي أصرّت نسمة على ارفاقه بالحوار، ليظهر فيه رئيس الجمهوريّة رفقة نبيل القروي مالك القناة، وبعد عبور السجّاد الأحمر وعرض الصبايحيّة، كان في انتظار السبسي محاوره الذّي جهّز لضيفه ديباجة أعادت للمشاهدين ذكريات تملّق الاعلاميّين للسلطة.

محاوِر يجمّل المحاوَر

الحوار الذّي دام ساعة ونصف تناول العديد من المواضيع على غرار توقيع الاتفاقيّة بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل حول الترفيع في الأجور، الوضع الأمني، العلاقة مع دولة الامارات، تقييم أداء حكومة حبيب الصيد، موضوع تحييد المساجد وأخيرا مشروع قانون المصالحة الاقتصاديّة والماليّة التي كانت سببا في تحرّكات احتجاجيّة في أغلب ولايات الجمهوريّة طيلة الأسبوعين الأوليّن من شهر سبتمبر الحالي.

دون التركيز على عبارات المديح والمجاملة المجانيّة التي كالها برهان بسيس للرئيس، وبغضّ النظر عن كرسيّ السبسي الذّي تعهّد المحاوِر انّه لن يكون لغيره، كان مجرى الحوار وطبيعة الأسئلة مريحة للمستجوَب، مستفزّة للمشاهد، وكأنّنا “بالإعلاميّ” ومؤجّره نبيل القروي يكرّران بسط السجّاد الأحمر.

مشروع قانون المصالحة الاقتصاديّة والماليّة كان محور 20 دقيقة من مداخلة رئيس الجمهوريّة، ولكنّ عوض أن يسعى هذا الأخير إلى تناول الموضوع بجديّة أكبر والغوص أكثر في تفاصيله ونقاطه التي اثارت الراي العام، فقد اكتفى بخطاب سطحيّ وصل إلى حدّ التنصّل من مسؤوليته عن هذا المشروع وتحميل مجلس النوّاب مسؤوليّة التعديل والنقاش نافيا نيّته تعديل أيّ فصل من فصوله.

في إجابته حول دستوريّة مشروع قانون المصالحة، تجنّب الرئيس الخوض في التفاصيل مكتفيا باستعراض عدد من الأسماء الخبيرة في المجال الدستوريّ التي استشارها قبل طرح المبادرة على غرار الأساتذة صادق بلعيد، عياض بن عاشور، سليم اللغماني، فرحات الحرشاني، الأمين محفوظ وغازي الغرايري والتي أكدّت له حسب ما جاء على لسانه دستورية المشروع وتماشيه مع قانون العدالة الانتقاليّة، محجّما في الآن ذاته دور هيئة الحقيقة والكرامة.

تظاهر المحاور بالتطرّق إلى محتوى قانون المصالحة، لكنّه ساير الضيف في تجنّب الوضوح والدقّة، فكانت إجابة الرئيس عامّة وسطحيّة، حيث وصف معارضة المشروع بالمواقف السياسيّة ليسهب في استعراض كارثيّة الوضع الاقتصاديّ والتراكمات السياسيّة والاقتصاديّة التي أدّت إلى هذه الأزمة. ليصل في النهاية إلى ضرورة ردّ الجميل للإدارة التونسيّة بفاسديها من الإداريّين نظرا لتحمّلها مسؤوليّة ديمومة الدولة خلال الأيّام الأولى التي أعقبت 14 جانفي 2011.

مرّة أخرى، حاول المحاور الذّي لم يخف تعاطفه وتأييده لموقف الرئيس أن يتظاهر بالمهنيّة ليعيد التساؤل دون الحاح حول حق التونسيّين في الكشف عن منظومة الفساد وصولا إلى تفكيكها، ليحضر بورقيبة حينئذ في إجابة الرئيس السبسي الذّي اكتفى بالدعوة إلى تجنّب الأحقاد والعفو عمّا سلف قدوة بخطاب الحبيب بورقيبة في منزل شاكر!

تواصلت بعدها عمليّة المناورة من ضيف البرنامج بموافقة ضمنية من المحاوِر حول المعارضة ومسيرة 12 سبتمبر 2015 ضدّ مشروع المصالحة والتي اعتبرها الرئيس تنفيسا ضروريا ودليلا على ديمقراطيّة النظام الحاليّ خصوصا بعد تطمينات المعارضة والجبهة الشعبيّة والتزامها بتأطير المسيرة، متناسيا كمحاورِه حجم العنف البوليسي وحملات التخويف الاعلامية وبيانات وزارة الداخليّة المتكرّرة حول ضرورة احترام قانون الطوارئ.

حوار السبسي والحجج المنسيّة

مشروع قانون المصالحة الاقتصاديّة والماليّة الذّي طرحته رئاسة الجمهوريّة نهاية شهر جويليّة الفارط، لم يكن بتلك السطحيّة والبساطة التي حاول الرئيس تسويقها في حواره الأخير، إذ ما دفع الشارع أو بالأحرى جزء منه للتحرّك ضدّه ارتكز على عديد المستويات القانونيّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة.

في المستوى الأوّل، فإنّ الملاحظات الأساسيّة بخصوص بعض الفصول الواردة في مشروع قانون المصالحة تتعلّق بنقطتين أساسيّتين.

على المستوى الأخلاقيّ والمعنوي يعتبر قانون المصالحة انتهاكا صارخا لمبدأ المحاسبة واسترداد حق المتضرّرين سواء كانوا من الأفراد أو الدولة نفسها نتيجة اهدار المال العام وسوء التصرّف بغضّ النظر عن التهم المستثنية في مشروع القانون والتي تضمّ الرشوة واختلاس المال العموميّ. فالفساد المالي وإهدار الأموال الخاصّة بالمجموعة الوطنيّة لا تقلّ خطورة عن الأفعال المستثنية. كما أنّ تجاوز مبدأ المحاسبة قبل المصالحة يعتبر تشجيعا للمفسدين على المضيّ قدما في تجاوزاتهم، إذ تعتبر المحاسبة بحدّ ذاتها رادعا نفسيّا وقانونيا ضامنا لعدم تكرار تلك الانتهاكات.

الجانب الثاني يتعلّق بعدم دستوريّة هذا المشروع وتجاوزه للقضاء والسلطة التشريعيّة، إذ وكما نصّ الفصلان الثالث والخامس من مشروع قانون المصالحة، تعتبر أحكام اللجان المسؤولة عن المصالحة نهائيّة غير قابلة لأي
وجه من أوجه الطعن أو الإبطال أو دعوى تجاوز السلطة. وهو ما يسقط عن المتضرّرين القدرة على الاستئناف أو الاعتراض على مسار المفاوضات الصلحيّة وما يترتّب عنها من إغلاق نهائيّ للملفّات.

كما تجدر الإشارة أنّ السلطة التشريعيّة قد تمّ تحييدها تماما عن هذه القضيّة، إذ نصّ الفصل الثالث من هذا المشروع أن لجنة المصالحة تخضع رئاسيا وهيكليا لرئاسة الحكومة ولا تتمتع بالاستقلال المالي ولا بالشخصية المعنوية. هذا وتتولى الحكومة تعيين أربعة من أعضائها الستة أما العضوين المتبقيين فيتم تعيينهم من هيئة الحقيقة والكرامة وهو ما يتعارض بشكل واضح مع القانون الأساسي عدد 53 المؤرّخ في 24 ديسمبر 2013 والمتعلّق بإرساء العدالة الانتقاليّة والذّي وضع صلاحيات تعيين أعضاء الهيئة والتعامل مع ملفّ المحاسبة ضمن صلاحيات مجلس النوّاب.

كما تمّ من خلال هذا المشروع إعطاء صلاحيات كبيرة للحكومة دون ضوابط أو رقابة من السلطة التشريعيّة، إذ
تنفرد هذه الأخيرة بالنظر في جميع القضايا المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام. وهو ما يطرح احتمالات كبيرة للسمسرة بهذه الملفّات والرشوة والابتزاز والمحسوبيّة وغيرها من الانتهاكات والممارسات التي تنخر مؤسّسات الدولة.

الجانب الاقتصاديّ غاب تماما عن حوار رئيس الجمهوريّة رغم ادعاءه بأنّ الدافع الاساسيّ لطرح هذا المشروع هو انتشال تونس من أزمتها الراهنة. هذه الحجّة ردّ عليها الخبراء الاقتصاديّون لعلّ أبرزهم الأستاذ عبد الجليل البدوي، في لقاء سابق مع نواة، ليبيّن أنّ العوائد المالية المنتظرة من المصالحة لا تتجاوز مجرّد التخمينات والدعاية في ظلّ غياب المعطيات الكاملة حول عدد المشمولين بالمصالحة والمبالغ التّي يمكن استرجاعها.

[youtube https://www.youtube.com/watch?v=sir_YskAkzQ&w=640&h=360]

أمّا الجدوى الاقتصاديّة، فهي مجرّد دعاية، أمام الأسباب الحقيقيّة للتدهور الاقتصاديّ وتراجع نسق الاستثمارات المحليّة والأجنبيّة واختلال الموازنات العامّة والتّي تعود إلى عوامل هيكليّة بالأساس إضافة إلى غياب الإرادة السياسيّة لخلق بدائل للموارد التقليديّة على غرار الإصلاح الجبائيّ وتعديل مجلّة الاستثمار والانعتاق من الاحتكار التجاريّ الخارجيّ.
أخيرا فإنّ تزامن المشاريع الاصلاحيّة على غرار رسملة البنوك العموميّة، سحب مشروع مجلّة الاستثمار، ومشروع قانون المصالحة وتماشيها مع الاملاءات الصادرة من هيئات النقد الدوليّة يثير الكثير من الشكوك حول الهدف الحقيقيّ من طرح هذه المبادرة.

الاطلالة الأخيرة لرئيس الجمهوريّة لم تضع حدا للتساؤلات الكثيرة حول مشروع قانون المصالحة الاقتصاديّة والماليّة، بل كانت سببا في اثارة العديد من التساؤلات الجديدة حول مستقبل هذه المبادرة وأهدافها المبطنة. ولعلّ الرسالة الأهمّ ليست في حديث السبسي بقدر عودة مالك قناة نسمة للتموقع على الساحة السياسيّة بطريقة تذكّرنا أنّ التاريخ لا يعيد نفسه إلاّ في شكل مهزلة.