تحين بتاريخ 9 نوفمبر 2015 -أدانت محكمة الناحية بطبربة، في جلستها المنعقدة في 30 أكتوبر المنصرم، الرعاة المُتّهمين و حكمت عليهم بغرامة ماليّة بـ 100 دينار لكلّ منهم. وأفادت الأستاذة سوسن الحمّامي، محاميتهم في القضية المرفوعة ضدّهم من قبل المستثمر فوزي بالأمين، أنّ منوبيها استأنفوا القرار، وأنّهم في انتظار تحديد تاريخ الجلسة القادمة.
منذ أن قدم بالأمين إلى منطقتنا حلّ بها الخراب.
بهذه العبارة استقبلنا العشرات من مواطني قرية الشويڨي (معتمدية طبربة، ولاية منّوبة) في ما بات يُعرف بـ”قضية هنشير الشويڨي”.
آخر تطوّرات هذه القضية تتمثّل في الدعوى التي رفعها المستثمر الفلاحي الخاصّ فوزي بالأمين ضدّ عدد من أبناء القرية بتهمة إفساد محاصيله، فيما يتهمّه هؤلاء بإهمال الضيعة وعدم الوفاء بتعهداته في مجال التشغيل. وتندرج القضيّة ضمن عدد من القضايا المماثلة المتعلّقة باحتجاج مواطني المناطق الريفيّة على كيفيّة استغلال الخواص للأراضي الفلاحية التي تملكها الدولة. وقد سبق لمواطني الشويڨي أن بادروا منذ 2011 إلى التحرّك أكثر من مرّة لمطالبة السلطات بالتدخّل ورفع يد المستثمر الخاصّ، محمود بالأمين، وأبنائه عن الأرض، التي يتسوّغونها من الدولة منذ 1991. إلاّ أنّ “الدولة لم تسمعنا”، كما يقول أحد مواطني الشويڨي.
التتبّعات ضدّ الرعاة
لا تمثّل الدعوى المذكورة أعلاه سوى الرأس البارز من جبل الجليد. وتتلخّص في اتّهام بالأمين لعدد من رعاة الغنم بالمنطقة بالإفساد المتعمّد لمحاصيله من العنب والقمح. وأوضحت الأستاذة سوسن السلامّي، العضوة بفريق الدفاع، أنّ الأمر يتعلّق بستة عشرة متهّمًا أحيلوا على القضاء بتهمة “الإعتداء على ملك الغير”، بموجب مرسوم يعود إلى الحقبة الاستعمارية.
ويؤكّد فوزي بالأمين أنّ الرعاة تسببّوا في إتلاف المحاصيل وفي خسائر ماديّة فادحة، ممّا دفعه إلى اقتلاع العنب الذي كان بالضيعة. إلاّ أنّ خصومه يحاججون بأنّ الأمر لا يعدو أن يكون سوى ذريعة لتبرير تخلّيه عن زراعة هذه النبتة التي تتطلبّ تشغيل عدد هامّ من العملة وتعويضها بزراعة القمح ذي الطاقة تشغيليّة ضعيفة. إضافة إلى ذلك ينفي الهادي العيّاري، أحد الرعاة المُتهمّين، مزاعم المستثمر مؤكّدًا أنّ رعي الأغنام يتمّ على أجزاء من أراضي جميع فلّاحي المنطقة، وبموافقتهم، بما في ذلك بالأمين. ويشدّد خاصّة على أنّ نشاطهم يقتصر على “الحصيدة” (بقايا القمح إثر حصاده). بالمقابل، أكّد لنا عامليْن حاليَين بالضيعة صحّة اتّهامات المستثمر للرعاة.
جذور القضية: تفكيك التعاضدية
تعود جذور هذه القضيّة إلى أوائل التسعينات. وتندرج في سياق قرار الدولة التخلّي عن سياسة التعاضد وتشجيع الاستثمار الخاصّ في القطاع الفلاحي. إذ صدر قرار بحلّ الوحدة الانتاجية بالشويڨي في جلسة خارقة للعادة للمتعاضدين بتاريخ 1990/12/03، وبالتالي التفويت في أرض التعاضديّة، المملوكة لديوان الأراضي الدوليّة الماسحة لحوالي ألف هكتار. وتقرّر تقسيمها إلى جُزئين، وُزّع الأوّل، حوالي 320 هكتار، على 61 من المتعاضدين السابقين بمعدّل أربع إلى خمس هكتارات لكلّ منهم (فيما لم يحصل الـ 27 الذين بلغوا سنّ التقاعد على أرض). أمّا ما تبقى من حوالي 670 هكتارا، فتمّ تسويغه إلى شركة الإحياء والتنمية الفلاحية بالشويڨي، لصاحبها محمود بالأمين، وأبناؤه.
وفيما يقول فوزي بالأمين، المدير العام للشركة، أنّ عملية التقسيم تمّت بالتراضي، يقول الهادي بن خلف آخر رئيس للتعاضديّة قبل حلّها، أنّ الأمر كان نتيجة لضغوط سياسية. ويوضح أنّه تعرّض إلى تهديدات بإدخاله السجن من قبل العربي خليع، معتمد طبربة الأسبق، وحمادي السديري، رئيس شعبة الشويڨي لحزب التجمّع الدستوري – المنحلّ.
ويتحسّر العشرات من أبناء القرية على “أيّام التعاضديّة”. إذ كانت «تشغّل حوالي 150 عاملاً سنويًا، منهم حوالي الستّين بشكل قارّ ومكفولين اجتماعيًا»، حسب رضا العزّابي، الناشط من أجل استرجاع الهنشير وابن أحد المتعاضدين السابقين، مضيفًا «أنّها كانت تتكفّل بدراسة أبناء العملة وترفيههم، بما في ذلك تنظيم رحلات إلى خارج تونس». كذلك كانت التعاضدية توفّر سائقًا وسيّارة نقل على ذمّة أبناء القرية للتكفّل بحاجياتهم العاجلة، ومنها نقل المرضى إلى المستشفيات.
ويشدّد أبناء القرية والمتعاضدين السابقين على أنّ الادعاء بفشل التعاضدية غير دقيق، وأنّ السلطات تعمّدت حلّها بغاية تمكين المستثمر “المتنفذّ” من استغلالها. كما يتهمون الفريق الإداري الذي أشرف عليها في سنواتها الأخيرة، بإهمالها، ممّا تسبّب في تراجع مداخليها وازدياد ديونها. كما يتهمّ البعض منهم المصفّي القضائي الذي كُلّف بحلّها بالفساد.
وكشف عدد من المتعاضدين السابقين أنّهم سعوا إلى شراء الأرض من الدولة، بل ودفعوا جزءًا من ثمنها، إلاّ أنّ السلطات تخلّت عن وعدها بالبيع وفضّلت تسويغها للمستثمر الخاصّ. وقد تحصّلت نواة على نصّ دعوى قضائيّة، بتاريخ جوان 1988، رفعها المتعاضدون ضدّ ديوان الأراضي الدولية وطالبوه فيها بإتمام عملية البيع أو استرجاع الأموال المدفوعة.
تداعيات قرار التفكيك: فلاحون صغار ومعطّلين و”أرض مُهمَلة”
من أبرز تداعيات قرار تفكيك التعاضديّة التمييز بين الـ 61 متعاضدًا الذين تحصّلوا على قطع أرض وبين المتعاضدين المتقدّمين في السنّ، الذين لم يُمنحوا سوى جراية تقاعد. إذ يندّد اليوم أبناء هؤلاء بـ”حرمانهم من قطعة أرض يرتزقون منها”، كما قال أحدهم. وقد سبّب هذا التمييز “حالة انقسام” داخل القرية «لم يبدأوا في تجاوزها سوى مؤخّرًا لمّا توحّدوا للمطالبة بإعادة التوزيع العادل للأرض وباسترجاعها من المستثمر»، كما يوضح رضا العزّابي.
ومن أسباب توحّد الفريقين “اكتشاف” المتعاضدين أنّهم وقعوا «ضحيّة تحيّل مارسته عليهم الدولة»، كما يقولون. إذ يؤكّد هؤلاء أنّه تمّ إيهامهم بتمليكهم قطع الأرض، قبل أن تُعلمهم السلطات المحلّية بأنّ ما وقّعوا عليه في حينه لم يكن سوى عقد كراء. ويفسّر المتعاضدون السابقون ذلك بأنّهم لا يجيدون القراءة، وبالتالي عدم تمكّنهم وقتئذ من إدراك المضمون الدقيق للعقود التي وقّعوا عليها.
ومنذ 2008، تاريخ انتهاء عقود الكراء، تدهورت أوضاع المتعاضدين السابقين. إذ صارت البنوك ترفض إقراضهم، ممّا يتسبّب لهم في صعوبات مع بداية كلّ موسم لاقتناء ما تحتاجه الأرض من أدوية وأسمدة وتجهيزات. إلاّ أنّ عددًا من هؤلاء الفلاحين الصغار لا يتردّد في المقارنة بين ما يبذله من جهد للعناية بأرضه ، و”الإهمال” الطاغي على الأرض الشاسعة التي يتصرّف فيها بالأمين. وقد فسّر لنا هذا الأخير الفارق الواضح في كثافة المزوعات، بأنّ أرضه بعليّة بالأساس، فيما حصل المتعاضدون السابقون على أراض سقويّة.
الطاقة التشغيلية للهنشير
تمثّل قضيّة الطاقة التشغيلية للهنشير قطب الرحى في الخلاف الحاصل بين المستثمر ومواطني الشويقي. إذ يتهمّ هؤلاء بالأمين بـ«عدم الإيفاء بوعوده التي قطعها لدى تسلمّه الأرض»، والقاضية بتشغيل أبناء القرية. فيما يحاجج المستثمر بأنّه لا يحتاج إلى عدد كبير من العمّال بسبب “المكننَة”، وأنّ تطوّر تقنيات الزراعة يتطلبّ «عمّالاً مؤهّلين وليس مجرّد فلاحين لحراثة الأرض بالطرق التقليدية».
ويستهجن معارضو بالأمين اكتفاؤه بأربعة عمّال فحسب لخدمة الضيعة التي تمسح حوالي السبع مائة هكتار. لكنّ الأخير أكّد لنا أنّه يشغّل حوالي 15 عاملاً بشكل قارّ. وقد وعدنا السيّد فوزي بالأمين، المدير العامّ للشركة، بتمكيننا من الوثائق التي تُثبت هذا الأمر إلاّ أنّه لم يفعل ذلك رغم اتصالاتنا المتكرّرة.
وأكّد لنا أحد العاملين الحاليين بالضيعة أنّ المستثمر لا يشغل سوى 5 عمّال، وهم سائق سيّارة وأربعة حرّاس. يضاف إليهم ثلاثة آخرين يحرسون مخازنَ للقمح، قال لنا بالأمين أنّه أنشأها «بالاشتراك مع ديوان الحبوب». ورجّح محدّثنا الأوّل أنّ هؤلاء العملة يتبعون شركة “الوردة البيضاء” (المتخصّصة في انتاج المعجّنات) التي تستغلّ المخازن على وجه الكراء.
كما أكّد لنا نفس العامل – الذي فضّل عدم الكشف عن هويّته – إهمال بالأمين للأرض وسوء معاملته لمن يشتغلون عنده؛ تحديدًا مماطلته وتأخّره في دفع أجورهم لمدد «تتراواح بين 10 و20 يومًا». وجدير بالذكر أنّ هؤلاء يتقاضون أجورًا تتراوح بين الـ 360 إلى 460 دينار شهريًا، مقابل 12 ساعة عمل يوميًا، كما أكّده لنا ناجي الفطناسي، وهو أحد الحرّاس العاملين بالضيعة.
وقد تحصّلنا على وثيقة، مؤرّخة بـ 18 مارس 1991 ، تتمثّل في تقرير، رفعه المعتمد الأسبق لطبربة إلى السلطات الجهوية، يشرح تفاصيل عمليّة “تركيز المنتفعين والشركة” على قطع الأرض التي مُنحت لهم. ومن أهمّ ما ورد في هذا التقرير ما نسبه المعتمد الأسبق إلى فوزي بالأمين، المدير العامّ لشركة الإحياء والتنمية بالشويقي، من تعهّده بـتشغيل «أبناء المتعاضدين المتقاعدين والشباب العاطل بالمنطقة».
لم يتوانَ بالأمين عن اتّهام شباب القرية بـ”الكسل” ورفضهم العمل بالهنشير في موسم جني الزيتون، الأمر الذي «يضطرّه الى استقدام نساء من مناطق مجاورة للقيام بذلك». وسخر الشباب الذين تحدّثنا إليهم من هذا الزعم، معلّلين أنّ السبب الحقيقي يعود إلى الأجور الزهيدة التي يعرضها المستثمر. وحول هذا الموضوع، أكّد لنا الدكتور حبيب العايب، الباحث في مجال الجغرافيا الاجتماعية والسياسة أنّ الرأسماليين الفلاحيين يفضّلون بالفعل انتداب النساء «لا لتفوّقهم على الرجال، ولكن لأنّ ظروفهم المعيشية الصعبة، تحديدًا اعتنائهم المباشر بالأسرة والأبناء، تفرض عليهم القبول بالأجور الزهيدة». جدير بالذكر أنّ القانون التونسي قد ألغى التمييز في الأجر الفلاحي بين الجنسين. كذلك يشير الباحث من جهة أخرى إلى أنّ العاملات بالفلاحة لا تتعرّضن الى الاستغلال الاقتصادي فحسب، بل كذلك الى الاستغلال الجنسي «من قبل الوسطاء الذين يتعامل معهم الرأسماليون الفلاحيون لتوفير هذه اليد العاملة الرخصية».
الوضعية القانونية الحالية للهنشير
وبخصوص الوضع الحالي لـ”هنشير الشويقي”، يقول أبناء القرية أنّ هنالك قرارا رسميا صدر سنة 2004 ضدّ المستثمر ويقضي بإلغاء عقد التسوّغ (الذي يفترض أنّه يمتدّ حتى سنة 2030). إلاّ أنّهم يعتقدون أن بالأمين نجح في تعطيل هذا القرار بفضل نفوذه.
وفيما نفى لنا فوزي بالأمين جملة وتفصيلاً وجود هذا القرار، أكّد لنا السيّد فائز مسلمّ، المندوب الجهوي للفلاحة بولاية منوبة، علمه بوجود قضيّة رفعتها الدولة منذ سنة 1999 ضدّ المستثمر بسبب عدم التزامه بكرّاس الشروط. وأوضح أنّ الدولة قد ربحت القضية في الطور الابتدائي، فيما كسبها المستثمر في الاستئناف. وذلك قبل أن تُعقد سنة 2004 جلسة صلحيّة تحت اشراف وزارة الفلاحة. ويضيف المندوب الجهوي بأنّ المعلومات التي بحوزته تفيد فعلاً بأنّ المستثمر لا يحترم كرّاس الشروط. إذ تذكر تقارير لجان المعاينة الدورية بأنّ «الزيتون مُهمَل وأنّه لا وجود للخوخ المنصوص عليه في برنامج الإستثمار، إضافة إلى عدم استيفاء شرط زراعة ما لا يقلّ عن 360 هكتار في الجزء البعلي من الأرض». ويختم المسؤول بأنّ المندوبيّة الجهوية تعتبر شركة بالأمين وأبناؤه “شركة إحياء غير قابلة للتدارك”.
وقد سعينا إلى التأكّد من مضمون كرّاس الشروط والعقد الذين التزم بهما المستثمر، إلاّ أنّ محاولاتنا العديدة للاتصال هاتفيًا بالسيّد عبد الجليل بلحسن، عضو لجنة إعادة هيكلة الأراضي الدولية بوزارة الفلاحة، باءت بالفشل.
غادرنا الشويقي ونحن ننقل بصرنا بين خصوبة أراضيها الشاسعة وبين الفقر البادي على سكّانها وفي ذهننا يتردّد سؤال الباحث الحبيب العايب:
من له الحقّ في الأرض؟ من يفلحها ليأكل منها أم من يستغلّها بغاية الربح المادّي؟
عندنا موضوع مشابه في بني خيار ولاية نابل، ونرجو منكم الاتصال لمدكم بمعلومات لتحرير مقال صحفي https://m.facebook.com/devbenikhiar/
لا تتردد في الاتصال بالمشرف على الصفحة