revolution-propaganda-tunis

الأحداث معلومة في المكان والزمان. بالإمكان القول على سبيل الحقيقة المجردة أنها وقعت بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، وبالإمكان اليوم بعد مرور خمسة أعوام استرجاع شريط الأحداث والصور وإحصاء عدد الجرحى والشهداء والأبطال الذين أخطأتهم الرصاصات. وبمقدور صحفي نصف موهوب أن يأخذنا في رحلة مدفوعة الأجر إلى الذاكرة ويستعرض أمامنا صورا فلكلورية تم التقاطها على هامش الأحداث.

طالما أن كل هذا مُتاح. فإن المسألة تتجاوز مجرد السرد أو القص الآلي للحكاية لأن الأحداث لا تحافظ على دفئها وفاعليتها التاريخية إلا من خلال المعاني التي نضفيها عليها، وبالتالي ما هو المعنى الجديد الذي بإمكاننا إعطاءه لهذه الأحداث؟ ومن هو الراوي الذي يتحكم في مفاصل السرد فيشحن الحكاية بصوره وقيمه ويصبغها بمواقفه ومصالحه؟

بعد حلول الشتاء الخامس على انتفاضة ديسمبر، يبدو أن هذه الأخيرة تخضع إلى إعادة تشكيل قسري أحادي يفرض صوره واستنتاجاته ومواقفه ويهيمن على مخيال الناس وذاكرتهم، لأنه يمتلك أدوات السيطرة التي يجسدها ثالوث الإعلام والمال والسلطة.

وبفضل القدرة على الطمس والحذف نجح الخطاب الإعلامي السائد في إنتاج صورة جديدة للفاعلين الحقيقيين – الذين يفتقرون، لسبب أو لآخر، لأدوات إعادة كتابة تاريخهم بشكل يُزاحم الرواية الساءدة – وداخل هذه الصورة المصنوعة تُمنح صفات جديدة للأحداث ورموزها، فيصبح محمد البوعزيزي حالة نفسية مَرَضية مجرّدة من أي سياق، صنعتها الصدفة والمغامرة الذاتية، ويصبح شهداء ديسمبر وجانفي حفنة من صعاليك المدينة، عاجزين عن الاندماج في المجتمع الحديث، فكانت المقبرة وجهتهم.

البوعزيزي مُعلّقا على مشانق الذاكرة

قالت شقيقة محمد البوعزيزي -عندما سُمِح لها بالكلام مؤخرا في أحد القنوات التلفزية– أن عائلتها لجأت إلى “كندا” بعد الضغوطات التي تعرضت إليها طيلة السنوات الفارطة، وقالت أيضا بأنه في كل محنة تمر بها البلاد تجد العائلة نفسها في موضع إدانة لأن ابنها أشعل باحتراقه فتيل “الفتنة” و”الفوضى”.

يسهل تصديق مزاعم شقيقة البوعزيزي، فهذه الصورة المشوّهة أصبحت مقبولة لدى الناس لأنهم راكموها تحت مؤثرات الخطاب الاعلامي السائد، وبالتالي تشكلت في المخيال الجماعي ملامح جديدة لشخصية البوعزيزي، فهو لم يعد البطل الذي نذر نفسه قربانا للفقراء والمهمّشين. وشيئا فشيئا سُحِبت صفاته البطولية من ذاكرة الناس، وحُشِر في زمرة الصعاليك والمنبوذين الذين أهلكوا البلاد بجنونهم وضيق أفقهم.

وبالتوازي مع هذا نَشِطت حملة لإدانة رمزية فعل الاحتراق في بعض الصحف المحلية المكتوبة تزامنا مع انتشار حالات الانتحار حرقا كردة فعل على التهميش الاجتماعي، إذ تحول هذا الفعل من الدلالة على قيم الجرأة وبذل النفس في سبيل أن يعيش الآخرين بكرامة إلى الدلالة على حالة سيكولوجية عاجزة، غير مُحبّة للحياة والعمل، وقد أدان البعض الآخر فعل الاحتراق من خلال التوسّل بالتفسيرات الدينية على غرار الموقف الشهير ليوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي دعا فيه بالصفح والمغفرة لمحمد البوعزيزي الذي خالف باحتراقه حُكمًا شرعيًّا يحرّم قتل النفس. وعمدت السلطات في بعض الأحيان إلى اعتقال الأفراد الذين هدّدوا أو شرعوا في إحراق أنفسهم في سياق الاحتجاج الاجتماعي على غرار الناشط الشبابي مهدي السلطاني، الذي هدد بحرق نفسه أمام ولاية منوبة شهر أكتوبر الفارط احتجاجا على تعرضه للفرز الأمني، فتم اعتقاله من قبل فرقة مكافحة الإجرام بالقرجاني ليتم إطلاق سراحه لاحقا.

هكذا طُرد البوعزيزي من سرايا الذاكرة إلى صحراءها، منبوذا ومُحاصَرا، تلاحقه تهم الجنون والصعلكة والعبث. ومن خلال الإعدام الرمزي لشخصية البوعزيزي يسهل تجفيف أقنية التمرد التي تنهل فعاليتها من رموز وقيم المقاومة، وبالمقابل تُعمّم الإدانة لتشمل كل المهمّشين والمعطلين والفقراء وجزءا من الطبقة السياسية القليلة التي تتعاطف مع هؤلاء.

الجماهير المُغرّر بها…

داخل مفاصل السّرد الإعلامي لأحداث الثورة تلوح الجماهير المنتفضة في صورة “القطيع المتزاحم” الذي لا يمتلك أدنى مقومات الوعي بمسالكه، وإنما هناك قوى من خارج إرادته تقف على رأسه وتحدّد له خط السير.

هذه الحالة الطفولية التي تُوصف بها الجماهير المنتفضة تطغى على التصوّر الذي ينظر إلى الثورة بوصفها “مؤامرة” كان القصد منها ضرب استقرار البلاد، ويدافع هذا التصور عن نفسه من خلال الارتكاز على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة التي تمر بها البلاد في المرحلة الحالية، ومن خلال تضخيم دور بعض رجالات النظام السابق في حماية أمن البلاد ليلة 14 جانفي 2011، هذه الليلة التي أصبحت –بفضل الدعاية الإعلامية- حدثا مفصليا يختزل كل سياقات الثورة وأحداثها.

بعض التصورات الأخرى تشحن الثورة بمضامين إسلاموية على غرار التصريحات المتناثرة لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي يزج بالثورة التونسية ضمن تيار الصحوة الإسلامية المبشرة بعودة القيم الدينية، ومن خلال هذا المنظور يصبح التمرد على الحكام حدثا “ميتافيزيقيا” وليس إنجازا اجتماعيا، وتصبح الجماهير الثائرة مُسيّرة من طرف العناية الإلاهية وليست مجموعة بشرية ذات إرادة خاصة تحرّضها على التغيير، وفي الحقيقة ينهل هذا التصور “اللاهوتي” من تراث فقهي قديم يحقّر من شأن الرعية ويعلي من شأن الحكام، ويلصق بالجماهير أبخس الصفات من قبيل “الدهماء” و”الغوغاء” و”السواد”…هكذا تُطرد الجماهير من ساحة الفعل التاريخي إلى غياهب العجز، ويخيم الاستيلاب على وعيها الذاتي وتفقد القدرة على التغيير وتسلّم مصيرها إلى أصحاب السلطان الذين يتحكمون في الأرض والسماء.

الذاكرة المهزومة

يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في مؤلّفه الذاكرة، التاريخ، النسيان «الذاكرة تنظيم للنسيان»، وفي الحقيقة يبدو أن النسيان في سياق الثورة التونسية يتم ترتيبه تحت وطأة الدعاية الإعلامية السائدة، التي تُسقط من خارطة الذاكرة أحداثا ورموزا وقيما ومدنا بأكملها، لتحيى رموزا قديمة على غرار الصورة “التبجيلية” التي تُرسم للزعيم الحبيب بورقيبة تزامنا مع عودة حرّاس الحداثة إلى مسرح الأحداث، ومن المعلوم أن هذه الصورة تم إخفاؤها أكثر من 23 سنة لتعود إلى سطح الأحداث من جديد في سياق توظيفي لا يخلو من أدلجة تهدف إلى التجييش الانتخابي على قاعدة التضاد مع المشروع الإسلامي المنافس.

الانتفاضة وُلِدت من رحم الهوامش، من مدن الغبار المنسية، ومن أحياء الصفيح الفقيرة، سار في ركابها المهمّشون والمعَطّلون وطلاب الجامعات والمناضلون المغمورون، ولعدة أسباب -لا يستقيم المقام لشرحها- تطورت الأحداث لتلقي بكل هؤلاء إلى سراديب النسيان، وأصبحت الملحمة التي كانوا فاعلين فيها وشهودا عليها تُسرَد بشكل مغاير على لسان الآخرين، الذين لم يكونوا مشاركين في صناعة تاريخ الانتفاضة أو لم تكن لهم مصلحة فيها.

أصبح الفاعلون الحقيقيون يشعرون بالإغتراب داخل “الذاكرة الجماعية” التي يُعاد تشكيلها تحت القصف الدعائي المهيمن، وبالتالي يحتفظون في أعمقاقهم بـ”ذاكرتهم المهزومة” التي تختزن فيها كل القيم والرموز التي تعرضت للتصفية من قبل الماسكين بزمام السلطة بجميع مستوياتها، ولعل هذه “الذاكرة المهزومة” تعيد إنتاج نفسها في لحظات أخرى من التاريخ، وفي هذا السياق يستحضر الجميع الشعار الذي كتبه شباب تالة والقصرين في جانفي 2011 على الباب الرئيسي لمقر رئاسة الحكومة بالقصبة «لقد انتصر أحفاد علي بن غذاهم»، وكأن بهؤلاء الأحفاد الذي ورثوا سيرة زعيم قبيلة “ماجر”، الذي أسره الباي بعد فشل انتفاضة 1864 وقاده مُكبّلا بالأغلال ذليلا مُهانا إلى كرّاكة حلق الوادي، أرادوا أن يقولوا بأن المعارك سجال وأن بن غذاهم لم يُقبر.