أُسدِل السّتار مساء الاثنين 11 جانفي 2016 عن آخر فصول التحوير الوزاري الذي أعلنه الحبيب الصيد، لتحظى التركيبة الحكومية الجديدة بثقة الأغلبية المطلقة وسط سيل من الانتقادات التي طالت منهج تشكيل الحكومة ومضمونها السياسي والحزبي.
القصر يعيد توزيع المنابات
سبق وأن نقلت سعيدة قرّاش القيادية في نداء تونس تصريحا بالنيابة عن رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي قال فيه “ظلمت ابني مرتين، مرة عندما منعته من دخول الهيئة التأسيسية ومرة عندما منعته من الترشح للانتخابات التشريعية، ولا أريد أن أظلمه مرة ثالثة”. ويبدو بالفعل أن الأب قرّر القطع مع التوجه “الظالم” الذي كبح بواسطته مطامح الابن المتزايدة، معلنًا بذلك فتح صفحة “أبوية” جديدة مِلؤها الرّضا والإنصاف، وفي هذا السياق مثّل التحوير الوزاري الأخير -في بعض جوانبه- ترجمانا لهذا التوجه الجديد، إذ تظهر فيه بوضوح لمسات القصر التي عدّلت الأوضاع الداخلية ورجّحت كفة “الحصص” لصالح مجموعة ابن الرئيس.
انتصر الباجي قايد السبسي لابنه من خلال المكافئة الوزارية الجديدة التي منحها للمجموعة الداعمة له داخل الحزب، ومن ضمن ذلك إسناد وزارة الشؤون المحلية ليوسف الشاهد، رئيس اللجنة 13، التي فوّض إليها رئيس الجمهورية مهمة تسوية الخلافات داخل الحزب، ومثلت هذه اللجنة إطارا ناجعا ساهم في عزل المجموعة المنافسة لابن الرئيس التي يتزعمها محسن مرزوق، ويبدو أن الوزير الجديد يوسف الشاهد نجح في تأمين هذا الدور فشَمله الاستحقاق الذي مهدت له أيضا علاقة المصاهرة التي تجمعه بالرئيس. وفي نفس السياق عُمّمَ العطف الرئاسي ليشمل عضو الهيئة التأسيسية لحزب نداء تونس أنيس غديرة، وزير النقل الجديد، الذي كان واحدا من أبرز مهندسي اجتماع جربة، وليشمل أيضا خالد شوكات أحد أكبر الداعمين لتوجّهات قايد السبسي الإبن، علاوة على أنه عُرِف بافتتانه الشديد بشخصية الرئيس الذي وصفه في بعض إطلالاته الإعلامية بأنه “مبعوث العناية الإلهية”.
الآثار التي تركها القصر في التحوير الوزاري لم تكن مرتبطة فقط بإعادة ترتيب الأوضاع داخل حزب نداء تونس، وإنما تعلقت أيضا ببعض التوجهات السياسية العامة التي أرادت رئاسة الجمهورية ضبطها وفقا لرؤيتها الخاصة، ومن بينها مسألة السياسة الخارجية التي شكلت في بعض الأوقات محل نزاع بين وزير الخارجية السابق الطيب البكوش ورئاسة الجمهورية، وقد اتجه التحوير الوزاري الأخير نحو حسم هذا الخلاف وتعزيز حقيقة هيمنة القصر على الدبلوماسية التونسية من خلال تعيين خميس الجهيناوي، المستشار الدبلوماسي السابق لرئاسة الجمهورية، على رأس وزارة الخارجية. علاوة على أن هذا التعيين حمل بين طياته رسالة طمأنة لدوائر النفوذ العالمية خصوصا وأن الرجل عمل رئيسا لمكتب تونس بتل أبيب في الفترة الممتدة بين 1996 و1998.
حركة النهضة: “نعلن دعمنا الكامل لسياسة التوافق التي يقودها فخامة الرئيس”
وَصف مؤخّرا رئيس حركة النهضة راشد الغنّوشي التقارب بين نداء تونس وحركة النهضة بالغير متوقّع لأنه حصل في فترة زمنية سريعة على حد تعبيره. ولئن تغافل راشد الغنّوشي عن توضيح الشروط السياسية والحزبية التي سرّعت بهذا التقارب، فإن التحوير الوزاري شكّل نقطة تحوّل مفصلية في العلاقة بين حزب نداء تونس وحركة النهضة لتجد هذه الأخيرة نفسها، على قلة ما غنمته من الحقائب، في وضعية سياسية مريحة، ساهمت في صناعتها بالأساس الأزمة التي يعيشها الحزب الحاكم، والتي مثل تحديد العلاقة بحركة النهضة وبمشروع الإسلام السياسي بشكل عام أحد أبرز محاورها.
التحوير الوزاري الجديد بعث برسالة سياسية إلى حركة النهضة مفادها أن الطرف الحزبي الذي يدفع نحو التقارب مع الإسلاميين خرج منتصرا وأصبح ماسكا أكثر من ذي قبل بجهاز الحزب وبمؤسسات الحكم، ومن جهته عبّر رئيس حركة النهضة عن ارتياحه لمآلات الصراع الداخلي أثناء استضافته في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر نداء تونس، وقد قال في كلمة ألقاها في هذا السياق “مؤتمر نداء تونس يمثل مصلحة للنهضة نفسها ونعلن دعمنا الكامل لسياسة التوافق التي يقودها فخامة الرئيس”. وقد لاحظ كل المتابعين الحفاوة الكبيرة التي حظي بها راشد الغنوشي أثناء حضوره في المؤتمر، ولقيت الكلمة التي ألقاها تأييدا من قايد السبسي الابن الذي قال معلقا “الشيخ ركز في تصريحه على نتائج الانتخابات التي بيّنت بأن هناك حزبين كبيرين في تونس”.
إزاء هذا الوضع الجديد ستبحث الحركة الإسلامية عن تعزيز موقعها، وذلك من خلال دفع “الأصدقاء الجدد” إلى ترجمة نواياهم الحسنة إلى سياسات عملية تحترم حصّة الحركة في الحكم وتضمن الإجهاز النهائي على ملف الثلاث سنوات من حكم الترويكا الذي طالما مثَّل ورقة “ابتزاز” يشهرها قادة نداء تونس في وجه حركة النهضة. ومن أجل فرض هذا التوجه على الأرض ستعمد حركة النهضة إلى استغلال حجمها البرلماني لعقد اتفاقات مُرضِية مع شريكها الحاكم خصوصا بعد التقلّص العددي الذي تشهده الكتلة البرلمانية لنداء تونس.
مجلس النواب: غرفة المناورة والاحتجاج
تزامنا مع جلسة منح الثقة للتركيبة الحكومية الجديدة، شهد مقر مجلس النواب منذ صباح أمس الاثنين حركية نشيطة لمختلف الكتل البرلمانية، وقد عقدت كتلة حركة النهضة اجتماعا صباحيا مبكرا بحضور رئيسها راشد الغنوشي، ويعكس هذا الحضور الرهان الكبير للحركة خصوصا وأنها تدرك أهمية استخدام حجمها البرلماني في معركة الضغط على نداء تونس، وستسعى قدر الإمكان إلى إقناع حليفها الأول بأن منحها الثقة لحكومة الحبيب الصيد لن يكون “صكّا على بياض” وإنما بالإمكان قياسه بمنطق حساب المصالح، وبالتالي ستدفع الحركة نحو تحقيق أكبر ما يمكن من المكاسب في ظل الوهن العددي الذي يشكو منه حليفها.
من جهتها سجّلت المعارضة احتجاجها على التركيبة الحكومية الجديدة من خلال نقد منهج بناءها وافتقادها للبرنامج الاقتصادي والاجتماعي، هذا بالإضافة إلى التشهير ببعض العناصر الحكومية الجديدة على غرار وزير الخارجية خميس الجهيناوي، وقد تداول للتعبير عن هذه المواقف أكثر من 25 نائب من مختلف الكتل البرلمانية للمعارضة من بينهم نواب الجبهة الشعبية والتيار الوطني وحركة الشعب، وفي هذا السياق اعتبر عمار عمروسيّة النائب عن الجبهة الشعبية أن “الحكومة المقترحة بعيدة عن الثورة وعن المطالب الاجتماعية وقد تنال هذه الحكومة ثقة مجلس نواب الشعب ولكن لن تنال ثقة المعطلين عن العمل”. ومن جهتها انتقدت سامية عبو، النائبة عن التيار الديمقراطي، الحضور الحزبي في الحكومة الجديدة مؤكدة أن “وزير الشؤون المحلية المقترح جيء به لخدمة مصالح معينة خلال الانتخابات البلدية”. ولم تسلم الحكومة أيضا من طعنات الأصدقاء، وفي هذا السياق قال العجمي الوريمي النائب عن حركة النهضة “حكومتكم لا يمكن أن تكون حكومة ثورة”.
موقف المعارضة من حكومة الحبيب الصيد لم يحل دون منحها الثقة. وإزاء المطاعن الموجهة للحكومة حرصت حركة النهضة على البروز في صورة المنقذ الأخير في ظل حالة الرفض للتحوير الوزاري، ليس من المعارضة فقط وإنما من الاتحاد العام التونسي للشغل ومن النواب المستقيلين من كتلة نداء تونس الذين بلغ عددهم 21 نائبا تحفظوا بشكل منسق على منح الثقة لحكومة الحبيب الصيد حسب المعطيات التي أوردتها منظمة بوصلة، فيما تغيّب البعض على غرار عبادة الكافي ومنذر بالحاج علي ومنح البعض الآخر ثقته للحكومة الجدية مثل بشرى بالحاج حميدة وحسونة الناصفي.
وفي انتظار أن يعيد نواب نداء تونس بشقيه ترتيب أوضاعهم الداخلية ستعمد حركة النهضة إلى استثمار هذا الوضع من أجل دفع حليفها نحو ترجمة شعار “التعايش السياسي” إلى وقائع سياسية في محطات قادمة ولعل أبرزها الانتخابات البلدية التي تشير آخر المعطيات إلى أن موعدها قد يكون أواخر السنة الجارية.
iThere are no comments
Add yours