تزامنا مع انعقاد المؤتمر العاشر لحركة النهضة الإسلامية الذي انطلقت أشغاله الرسمية صباح اليوم، شكّل الإعلان عن الفصل بين الدعوي والسياسي من قبل رئيس الحركة راشد الغنوشي مركز اهتمام العديد من المتابعين للظاهرة الإسلامية في تونس وخارجها. وتنقسم المواقف إزاءه بين من يرى فيه استثناءا محليا يؤسس لانقلاب تاريخي في فكر الحركات الإسلامية المعاصرة، وآخر يعدّه مجرد إجراء شكلي فرضته السياقات السياسية في تونس والمنطقة.

ولعل العودة إلى خصائص نشأة الحركة الإسلامية والوقوف على المنعطفات الفكرية والسياسية التي عرفتها طيلة أكثر من 40 سنة، يتيحان قراءة أفضل لطبيعة التحول الذي أعلنته حركة النهضة خلال مؤتمرها الأخير، فهل يندرج في سياق مراجعات إيديولوجية اعتملت داخل التاريخ الطويل للحركة أم هو إعادة تشكيل مشروع الإسلام السياسي بأنماط جديدة؟

نشأة من خارج الامتداد الديني المحلي

نشأت النواة الأولى لحركة النهضة الإسلامية مطلع سبعينات القرن الماضي في الفضاء المسجدي، كحركة دينية ذات خصائص دعوية وتبشيرية، متأثرة في بدايتها بجماعة التبليغ والدعوة ذات الأصول الهندية التي أسسها الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي سنة 1926، ونشطت في تلك الفترة في ”جمعية المحافظة على القرآن الكريم“، وهي جمعية دينية تحظى بالاعتراف القانوني من قبل السلطات التونسية آنذاك. ولكن سرعان ما تأثرت الحركة الوليدة بأطروحات الإخوان المسلمين في مصر من خلال استلهام أدبيات حسن البنا والسيد قطب وشقيقه محمد قطب وفتحي يكن وعبد القادر عودة، وأدبيات الداعية الباكستاني أبو الأعلى المودودي. علاوة على هذا عَجَّلت بعض العوامل المحلية والإقليمية بانتقال الحركة الإسلامية الناشئة من العمل الدعوي إلى العمل السياسي، من بينها الأزمة الاجتماعية التي شهدتها البلاد في 26 جانفي 1978 والثورة الإيرانية سنة 1979، لتعلن بذلك عن نفسها تحت اسم ”الجماعة الإسلامية“ في أول مؤتمر تأسيسي انعقد في صائفة 1979، وانتخِب فيه راشد الغنوشي الرئيس الحالي للحركة أميرا للجماعة.

ورغم الخطاب الجديد الذي يزعم امتداد حركة النهضة في المسار الإصلاحي التونسي الحديث والتواصل الفكري مع رموزه الكبار على غرار خير الدين التونسي والشيخ الثعالبي والطاهر بن عاشور، فإن النشأة تشير إلى أن الحركة تأثرت بروافد فكرية خارجية ولم تكن امتدادا للحركة الدينية المحلية التي احتضنها بشكل خاص جامع الزيتونة، وقد كان الجدل حول الفكر الإخواني أحد محاور الانقسام داخل الجماعة الإسلامية لتنشق عنها مجموعة من المؤسسين بداية من سنة 1977 عُرِفت بـ”الإسلاميون التقدميون“، وقد خاض هذا التيار قبل انفصاله عن الجماعة نقاشات دار معظمها حول ”الهوية العامة للجماعة“، وقد دافع رواده عن ”بناء تجربة ذاتية، وما تعنيه من نقد التجارب الإخوانية والتأكيد على عدم إلزاميتها بل والتدليل على فشلها التاريخي“.1

مؤتمرات غابت عنها المراجعات الإيديولوجية

رغم التجارب السياسية والتاريخية المتنوعة التي مرت بها الحركة الإسلامية في تونس: السجن، التهجير الهدنة المؤقتة مع الأنظمة، التقارب مع ”المعارضة العلمانية“، الحكم…فإنها لم تخض مراجعات فكرية من شأنها أن تقطع مع المقاربة الشمولية للإسلام التي نصت عليها الوثيقة المرجعية للحركة ”الرؤية الفكرية والأصولية لحركة النهضة“ التي أقرها المؤتمر الرابع المنعقد في ديسمبر 1986، وقد تكثفت هذه المقاربة الشمولية في مستهل الوثيقة التي ورد فيها ”انطلاقا من مبدأ التعامل الصادق والمسؤول مع ديننا الحنيف، واعتمادا على مبدأ الشمول في فهم الإسلام بشكل لا يحصره في مجال العقائد والشعائر بل يتعداه ليشمل إلى جانب ذلك الحيز الاجتماعي والاقتصادي…“.

وقد عبّرت الحركة طيلة المؤتمرات التي عقدتها في الفترة الممتدة بين 1986 و2012 عن تمسكها بهذه الوثيقة إطارا مرجعيا، فقد ورد في البيان الختامي للمؤتمر الثامن المنعقد في لندن سنة 2007 ”جدّد المؤتمرون التزام حركة النهضة بالهوية التي حددتها وثائقها السابقة، والتي تعني الاعتماد على المرجعية الإسلامية“، وقد اعتبر البعض آنذاك هذه الإشارة بمثابة ردة فعل على النصوص التي أثارتها هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات المتعلقة بالمساواة بين الجنسين وحرية المعتقد التي أمضت عليها حركة النهضة الإسلامية في إطار تقارب سياسي مع بعض الأطراف اليسارية من أبرزها حزب العمال الشيوعي التونسي 2. وفي نفس الاتجاه لم يشكل المؤتمر التاسع للحركة المنعقد في 12 جويلية 2012 حالة استثنائية، رغم التحولات السياسية التي عرفتها الحركة بعد صعودها لسدة الحكم في 23 أكتوبر 2011، بل أكد على الالتزام بالطابع العقائدي الشمولي للحركة رغم الصيغ العامة التي تضمّنها بيانه الختامي، إذ ورد فيه ”وقد صادق المؤتمر على رؤية للمجتمع ودوره في بناء المستقبل مؤسّسة على المبادئ الإسلامية في هذا الشأن… والدولة في هذه الرؤية هي التي تدير هذا الدور المجتمعي“.

لم تخل مؤتمرات الحركة الإسلامية من بعض التحويرات الطفيفة التي لامست الأشكال دون الجواهر، وقد أملتها في معظم الأحيان ظروف المنع التي اضطرت الحركة إلى القيام بمراجعات تكتيكية، وربما الصدف السيئة في بعض الأحيان. فقد كان الإعلان عن تغيير اسم الحركة من ”الجماعة الإسلامية“ إلى ”حركة الاتجاه الإسلامي“ في مؤتمر صحفي علني في أفريل 1981 والمطالبة بالتأشيرة القانونية بمثابة الإجراء الوقائي الذي قامت به الحركة بعد أن اطلع البوليس على وثائق سرية للجماعة تضم قائمات القيادات وأسماء المنخرطين في حقيبة أحد مسؤولي الحركة أثناء إيقافه عرضيا. وفي محطة لاحقة غيرت حركة الاتجاه الإسلامي اسمها لتصبح “حركة النهضة” في مؤتمرها الخامس المنعقد سنة 1988، وذلك في سياق السعي إلى التكيّف مع قانون الأحزاب والجمعيات الذي يمنع إسناد رخص لأحزاب ذات مرجعية دينية. أما المؤتمرات الثلاث التي عقدتها حركة النهضة في المهجر 1995، 2001، 2007، فقد كان الهدف منها الإبقاء على جهاز الحركة و”المحافظة على ما تبقى من التنظيم”.3

الفصل بين الدعوة والسياسة: فكري أم وظيفي؟

جَذَبت قضية الفصل بين الدعوي والسياسي أنظار المتابعين لمشروع الإسلام السياسي في تونس وخارجها، وقد ذهبت الكثير من التأويلات إلى الإشادة العامة بالنموذج التونسي، الذي نأى بنفسه عن النماذج الإسلامية السائدة في المنطقة، على غرار الإخوان المسلمين بمصر، وأخذ يندرج في سياقه المحلي المتجه نحو “العلمنة” والديمقراطية على حد وصف العديد من القراءات.

ولئن كانت أوضاع حركة النهضة الإسلامية مختلفة من زاوية الاندماج الاجتماعي ومضامين الخطاب السياسي عن بعض الكيانات الإسلامية المجاورة، فإن الإعلان عن الفصل بين الدعوة والسياسة لا يعكس انقلابا فكريا داخل الحركة لتصبح بذلك منخرطة بشكل كلي ومبدئي في مسارات التحديث والعَلمَنة بأبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية، وإنما يندرج هذا التمايز الجديد في إطار الفصل الوظيفي داخل المشروع الإسلامي الواحد والشامل، الذي يحمل أبعادا عقائدية واجتماعية واقتصادية وحزبية وجمعياتية. وهذا التوجه عبّر عنه رئيس الحركة راشد الغنوشي في الحوار الذي أجرته معه جريدة الشروق التونسية الصادرة يوم أمس الجمعة 20 ماي 2016، إذ قال في معرض حديثه عن هذه القضية ”فلسفيا ليس هناك فصل بين الدين والدنيا، ولكن كون الإسلام رسالة شاملة لا يعني أن الأدوات التي تخدمه ينبغي أن تكون أيضا شاملة، فشمولية الفكرة لا تعني شمولية التنظيم“. وتلوح الإشارة واضحة في هذا الشاهد إلى أن الفصل المعلن لا يمس الطرح الشمولي للفكرة الإسلامية بقدر ما يهدف إلى الفصل الوظيفي بين أبعاد المشروع.

ولعل هذا الإجراء اقتضته الحاجة إلى إعادة تشكيل مشروع الإسلام السياسي التونسي على ضوء متطلبات التجدد الداخلي لأجهزته التنظيمية، وتكيّفا ما فرضته السياقات المحلية والإقليمية والدولية من متغيرات لم تعد تسمح باستمرار هذا المشروع بأشكاله القديمة. فعلى مستوى الأوضاع الداخلية لحركة النهضة -وعلى عكس ما تذهب إليه بعض القراءات من أن الحركة ستصبح جسد سياسي متحرر من البعد الديني- فإن هذا الفصل يهدف إلى رد الاعتبار للجانب الدعوي الذي كاد يذوب في التوجه السياسي البراغماتي للحركة، وستتجه الأجهزة الدعوية للحركة التي ستتحرر بمقتضى الفصل من الإكراهات السياسية نحو إعادة الانتشار في الفضاء الديني العام –أحد الأطر التعبوية للحركة- الذي اكتسحته أطروحات السلفية الجهادية المنافسة. وتتقاطع هذه الحاجة الداخلية لإعادة تنظيم أبعاد المشروع الإسلامي الشامل مع السياقات الخارجية التي تمارس ضغوطات سياسية ودعائية على الحركة الإسلامية من خلال اتهامها بالمزج بين الدين والسياسة، ولعل هذا الفصل الإجرائي سيمكّن الحركة من دفع هذه الشبهة، وهو ما بدأت تباشيره تظهر في تصريحات قادة الأحزاب ”الديمقراطية“، على غرار الكلمة التي ألقاها الرئيس السبسي ومؤسس حزب نداء تونس، أثناء حضوره أمس حفل افتتاح أشغال المؤتمر.

هوامش

1. المقدمات النظرية للإسلاميين التقدميين، مجموعة كتاب، تونس: دار البراق، 1989، ص12.

2.من قبضة بن علي إلى ثورة الياسمين: الإسلام السياسي بتونس، مجموعة باحثين، ط3، الإمارات: مركز المسبار للدراسات والبحوث، 2011، ص 282.

3. عبد اللطيف الحناشي، الحركات الإسلامية في تونس: مرحلة ما بعد الثورة. ورقة ضمن الحركات الإسلامية في الوطن العربي، ط1، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2013، ج2، ص 1734″.