Tunisian Foreign Bank

مشاكل القطاع البنكي في تونس ماضية أكثر فأكثر نحو التأزّم. وقد سعت الحكومة مدعومة من أغلبية نيابية إلى اتخاذ عدد من الإجراءات على غرار تكريس استقلالية البنك المركزي، أو رسملة البنوك العمومية إضافة إلى قانون المؤسسات المالية والبنكية الذي لم ينته الجدل حوله بعد. لكن الوثائق الذي تحصّلت عليها نواة ونشرتها تباعا، تثبت أن الأزمة التي تعاني منها المصارف العمومية التونسية أكبر من أن تحلّها جملة من القرارات أو النُقل في ظلّ سعي محموم لمعالجة الأوضاع في الظلّ والتستّر على الفساد وحماية الفاسدين الذّين كانوا السبب المباشر لأزمة القطاع المالي العمومي.

مرّة أخرى، تكشف وثيقة تحصّلت عليها نواة، فصلا جديدا في سلسة المساعي للتغطية على مشاكل بنك تونس الخارجي Tunisian Foreign Bank بعد عملية التعيين السياسي في شهر أوت الماضي. حيث لم تؤتي عملية التغيير في مركز اتخاذ القرار في البنك المذكور أكلها، لتتواصل مشاكل هذه المؤسسة الوطنية العمومية التي تدير عملياتها المالية في الخارج مع سلطات الرقابة الفرنسية إضافة إلى تراكم الخسائر التي تهدّد وجودها.

نفض الغبار عن أزمة بنك تونس الخارجي

تغيير الرئيس المدير العام لبنك تونس الخارجي في 19 أوت 2015، نفض الغبار عن قضيّة هذا المصرف الذّي ظلّ يغرق في صمت طيلة السنوات الماضية. هذه المؤسّسة الماليّة العموميّة التي يرجع تاريخ انشائها إلى سنة 1977، خضعت سنة 2013 لعمليات تدقيق من السلطات التعديلية المالية الفرنسية والتي كشفت عدة خروقات في التسيير انجرت عنها خطية مالية ناهزت 700 ألف يورو نتيجة غياب الشفافيّة وتأخّر التصريح بالمعاملات المالية لدى المصالح الفرنسيّة المختصّة، ممّا جعل بنك تونس الخارجي مهدّدا بسحب الترخيص من قبل سلطة الرقابة الحذرة والإنقاذ الفرنسيّة. الأزمة لم تنتهي عند هذا الحدّ، إذ بحسب التقرير الماليّ السنوي لسنة 2014، فاقت الخسائر المتراكمة لهذا البنك 35 مليون أورو.

التدخّل الحكوميّ في ذلك الوقت، اقتصر على تغيير الرئيس المدير العام للبنك صلاح الدين العجيمي بعد أقلّ من سنة على تعيينه، وتنصيب النائبة في مجلس نواب الشعب عن حزب نداء تونس حياة كبيّر على رأس هذه المؤسسة المالية العمومية. هذا التعيين الجديد لم يمرّ دون خلافات في دوائر السياسة المالية في تونس. حيث كشفت نواة مراسلة من البنك المركزي التونسي إلى وزارة المالية يستهجن فيها هذا الأخير عمليّة التغيير التي استهدفت المسؤول الأوّل عن تسيير بنك تونس الخارجيّ.

المذكّرة نبّهت إلى الانعكاسات السلبيّة لمثل هذا القرار كإرباك المساهمين المرجعيّين ودفع سلطات الفرنسيّة إلى مزيد التشدّد إزاء حالة عدم الاستقرار وتقطّع التواصل بين الإدارة وسلطات الرقابة نتيجة التغييرات المستمرّة التي يشهدها البنك. وقد اعترض البنك المركزي التونسي على قرار تغيير المسؤول الأوّل عن تسيير بنك تونس الخارجي في هذا الظرف بالذات. وقد شكّكت المذكّرة في الكفاءة المهنيّة للمديرة الجديدة حياة كبيّر ڤوتة مقارنة بسابقها، حيث رأى البنك المركزيّ أنّها لا ترقى لمستوى كفاءة الرئيس المدير العام السابق، في تلميح إلى الصبغة السياسية للتعيين الجديد.

بعد خمسة أشهر من التعيين الجديد: تواصل تدهور وضعية بنك تونس الخارجي

الوثيقة التي نشرتها نواة بخصوص الاجتماع الوزاري المضيّق لمناقشة وضعية البنك الفرنسي التونسي، تناولت في جانب منها استعراض الأزمة التي يعيشها بنك تونس الخارجي وخيارات “الإنقاذ”. وفي هذا المقال، تعيد نواة نشر محضر الجلسة كاملا والذّي ترأسه الحبيب الصيد في 15 ديسمبر 2015، بحضور عدد من مثلي الأجهزة الحكومية المالية على غرار وزير المالية سليم شاكر ووزير الاستثمار ياسين إبراهيم ومحافظ البنك المركزي الشاذلي العياري ووزير أملاك الدولة حاتم العشّي إضافة إلى عدد من كتّاب الدولة والمديرين في البنك المركزي.

⬇︎ PDF

استهل الاجتماع باستعراض الوضع المالي لبنك تونس الخارجيّ والذّي كشف عن حجم الأزمة التي يعيشها هذا المصرف العمومي الاستراتيجي. حيث كشف محضر الجلسة الوزارية (من الصفحة 9 حتى الصفحة 20) عن تواصل التراجع الحاد لمؤشّرات نشاط البنك للسنة الثالثة على التوالي. إذ انحسر نشاط المصرف بالخارج، (وهو الهدف الاستراتيجي من تأسيسه)، حيث لم تتجاوز إيداعات التونسيين بالمهجر 30% من إجمالي الإيداعات التي تبلغ قيمتها الجملة 120 مليون أورو.

وقد أقرّ المسؤولون عن القطاع المالي أنّ بنك تونس الخارجي وصل إلى وضعيّة حرجة، لم يتمكن إثرها على الاستمرار لولا القروض الممنوحة من البنوك التونسيّة لضمان توفير السيولة اللازمة للمعاملات. حيث تفاقمت خسائر البنك التشغيليّة نتيجة عجز الناتج البنكي الصافي عن تغطية أعباء الاستغلال. ومن جهة أخرى، كشفت التقارير الموردة في الوثيقة المذكورة انخفاض قيمة الموارد المعبّأة ب36% أي ما يناهز 43 مليون أورو في مقابل تفاقم حجم القروض المصفاة ب19 مليون أورو.

هذه المؤشرات والإحصائيّات، أفضت في نهاية المصاف على ارتفاع الخسائر المتراكمة لبنك تونس الخارجي التي بلغت قيمتها الإجمالية لسنة 2014 نصف راس المال المحرّر (القابل للتداول) أي 35.5 مليون أورو.

مشاكل مصرف تونس الخارجي تجاوزت اختلال التوازنات المالية، ليكشف الاجتماع أنّ الأزمة تفاقمت مع سلطات الرقابة الحذرة والإنقاذ الفرنسية، نتيجة عدة خروقات في التسيير وغياب الشفافيّة وتأخّر التصريح بالمعاملات المالية لدى المصالح الفرنسيّة المختصّة، إضافة إلى انخفاض الأموال الذاتية للبنك دون نصف رأس المال المحرّر. هذه الوضعيّة الكارثية لبنك تونس الخارجي وضعته تحت طائلة الفصل 39-L612 من المجلّة المالية والنقدية الفرنسية، حيث أصبح هذا الأخير مهدّدا بسحب رخصة النشاط، أو بصريح العبارة إيقاف نشاطه على الأراضي الفرنسية.

تقييم دون تحميل المسؤوليات!

بعد تحديد الوضعية المالية والقانونية لمصرف تونس الخارجي، شرعت الجلسة الوزارية في تقييم آداء البنك ومحاولة تحديد أسباب الخلل التي أدّت على هذه الأزمة. وقد خلصت المداولات إلى أنّ هذه المؤسّسة قد ظلّت طيلة سنوات تفتقر لسياسة تجارية واضحة المعالم أو نمط أعمال محدّد، وهو ما أفضى إلى الارتجالية وعجز المساهمين عن تطوير نشاط المصرف في السوق الفرنسية، ممّا أدّى بدوره إلى تراجع حجم الإيداعات في الخارج. وهو ما أفضى، إلى حياد المصرف عن الأهداف الأساسية التي أنشأ من أجلها والمتمثّلة في استقطاب مدخرات التونسيين بالخارج ودعم المؤسسات الاقتصادية التونسية الناشطة في فرنسا.

أما بخصوص الخسائر المتواصلة لبنك تونس الخارجي، فقد كشف محضر الاجتماع أنّها تعود إلى بدايات نشاط هذا المصرف، حيث بلغت سنة 1992 ما يقارب 43 مليون فرنك فرنسي، كما تم اللجوء سنة 2009 إلى الترفيع في رأس ماله ب30 مليون أورو، دون أن تفضي هذه التدخلات إلى إيقاف التدهور نظرا لاستهلاك الخسائر للمبالغ التي يتم ضخّها.

كما أوضحت الرسالة التي بعثتها مديرة البنك المعيّنة حديثا، حياة كبيّر، غياب أي جهد حقيقي لإصلاح الوضع بشكل جذري، حيث اشتكت هذه الأخيرة من اقتصار دعم المساهمين على الجانب المالي وغياب “برنامج تصحيحي متكامل ومتين يضمن مقومات الديمومة والمتانة المالية للمصرف”.

من جهة أخرى، غاب عن محضر الجلسة الوزارية وعن نقاشات مسؤولي الدوائر المالية التونسية أي إشارة لضرورة تحديد المسؤوليات ومحاسبة المتسبّبين في تدهور وضعية بنك تونس الخارجي، خصوصا وأن عملية التقييم الذاتية وملاحظات سلطات الرقابة الحذرة والإنقاذ قد أفضت إلى ان السبب الرئيسي للأزمة يعود بالأساس إلى غياب الشفافية وعدم احترام المعايير المعتمدة في التسيير والتصرف. لكنّ الحكومة والحاضرين في الاجتماع المذكور أسقطوا هذه النقطة من حساباتهم، وفضّلوا القفز على معالجة الأسباب والمضي مباشرة إلى سبل التدارك.

“الخيار الأمثل”: اثقال كاهل البنوك العمومية وتسليم المصرف للخواص

بعد تداول عدد من الخيارات المتاحة “لإنقاذ” بنك تونس الخارجي، أقرّ المجلس الوزاري خيار الترفيع في راس مال المصرف المذكور بقيمة 35 مليون أورو بالتوازي مع البحث عن شريك استراتيجي من الخواص التونسيّين أو بشراكة مع الخواص الأجانب.

محافظ البنك المركزي الشذلي العياري، ووزير الاستثمار ياسين إبراهيم إضافة إلى وزير المالية سليم شاكر كانوا من المدافعين عن هذا الخيار باعتباره المنفذ الأنسب لإخراج بنك تونس الخارجي من عنق الزجاجة. وبشكل تفصيلي، تعتمد الخطّة التي تبناها المجتمعون في المحضر المنشور قيام المساهمين المرجعيين وهم بنك الإسكان والشركة التونسية للبنك بالتكفّل بدفع القسط الأوّل المقدّر ب15 مليون أورو ليتولّى الشريك الاستراتيجي التكفّل بدفع العشرين مليون أورو المتبقيّة.

هذه الخطوة، ستتيح تخفيف الضغط عن البنوك العمومية المساهمة في راس مال البنك واسترجاع جزء من الخسائر التي تكبّدتها طيلة السنوات الفارطة. لكن في المقابل، فإنّ هذه المؤسسة العمومية ستؤول إلى المؤسّسة البنكية الخاصّة التونسيّة أو المشتركة بين التونسيين والأجانب، لتتجاوز حصّتها 50% ممّا يتيح لها التحكم في سياسات بنك تونس الخارجي.

كما أن اللجوء إلى هذا الخيار دون التيقّن من وجود شريك جاهز، قد يفسح المجال لتحمّل البنوك العمومية تكاليف القسط الثاني المقدّرة ب20 مليون أورو، وهو مبلغ لا تقدر هذه المؤسسات على تحمّله في ظلّ ظروفها الراهنة مما قد يؤدي إلى تعطيل أو إرباك عملية الرسملة التي تخضع لها البنوك المذكورة.

أخيرا، ينصّ هذا الخيار على تخلّي البنك المركزي عن أي دور له في رأس مال بنك تونس الخارجي والاستقالة عن دوره في دعم المؤسسات المالية العموميّة، ويبدو أن الحاضرين تناسوا أنّ استمرار هذه المؤسسة الاستراتيجية بحسب تعبير وزير المالية سليم شاكر لم يكن ليتمّ لولا تدخل البنك المركزي التونسي في أكثر من مناسبة لتوفير السيولة وضمان عدم انهيار بنك تونس الخارجي.

مجلس الوزراء الذّين ناقش وضعيّة البنك الفرنسي التونسي وبنك تونس الخارجي، لم يشذّ كما هو الحال بالنسبة للمؤسسة البنكية الأولى عن خيار الهروب إلى الأمام، وتجاهل المحاسبة وتحميل المسؤوليات. حيث اعتمد في نهاية المطاف خيارا يقضي بتجريد الدولة مجدّدا من أحد مؤسساتها المالية الاستراتيجيّة في نهج يتناسق مع الإجراءات الأخيرة القاضية بتكريس “استقلالية البنك المركزي” وقانون المؤسسات البنكية والمالية ورسملة البنوك العمومية. او بشكل أكثر وضوحا؛ انتزاع سيادة الدولة عن القطاع المالي والمصرفي.