بعد ستّة أسابيع من اعلان الباجي قايد السبسي عن مبادرة رئاسيّة لتشكيل حكومة وحدة وطنية، تشمل جميع أطياف المشهد السياسي والمنظّمات النقابية، تمّ التوقيع ظهر الإربعاء 13 جويلية الجاري على وثيقة أوليات حكومة الوحدة الوطنية القادمة، أو ما اصطلح على تسميتها اتفاق قرطاج.
اثنتا عشر منظّمة وحزبا، وقّعوا على هذه الوثيقة، خاطين خطوة إضافية في مسار انهاء مهام رئيس الحكومة الحالي الحبيب الصيد، الذّي انقلب ضدّه جميع داعميه السياسيين، الذّين لم يبقى أمامهم سوى إيجاد مخرج مشرّف لرجل لم يعد ”صالحا“ لمقتضيات المرحلة القادمة كما يراها أصحاب القرار الحقيقيّون. لكن هذه الورقة التي تضمنت ما يشبه الخطّة الجاهزة لعمل الحكومة القادمة، لا تعدو كونها اجترارا لمطالب وبرامج الأحزاب والمنظّمات الوطنية والمدنية وحتّى مطالب المواطنين، والتي ظلّت تنتقل طيلة خمس سنوات من مكتب رئيس حكومة لآخر دون أن تتقدّم قيد أنملة.
وثيقة قرطاج: برنامج فضفاض لحكومة مجهولة
حتّى هذه الساعة، ما تزال التكهّنات وبالونات الاختبار سيّدة الموقف حول اسم رئيس الحكومة المنتظر. لكن الرئاسة والمنظّمات والأحزاب الموقّعة على وثيقة قرطاج، اختارت أن تمضي في رسم اضلاع مرّبع الخيارات وهامش التحركات القادم للحكومة الجديدة، قبل ان تعيّن رئيسها.
ثلاث منظّمات وطنية، هي الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية إضافة إلى اتحاد الفلاحة والصيد البحري، كانوا من بين الاثني عشر الموقّعين على هذه الورقة التي شهدت تعديلات عديدة بسبب بعض البنود التي اعترض عليها اتحاد الشغل بالخصوص حول قضيّتي المصالحة والهدنة الاجتماعيّة. أمّا باقي الموقّعين فمن الأحزاب السياسية الحاكمة ومن خارجها على غرار حركة النهضة ونداء تونس وحزب مشروع تونس والاتحاد الوطني الحر إضافة إلى آفاق تونس والحزب الجمهوري وحزب المسار وحركة الشعب وأخيرا حزب المبادرة.
وقد تضمّنت هذه الوثيقة ما يشبه البرنامج الجاهز أو الأولويات القادمة للحكومة الجديدة، قُسّمت على ستّة محاور رئيسيّة، أوّلها كسب الحرب على الإرهاب، تسريع نسق النمو لتحقيق أهداف التنمية، مقاومة الفساد وإرساء مقومات الحكومة الرشيدة، التحكم في التوازنات المالية ومواصلة تنفيذ سياسات اجتماعية ناجعة، إرساء سياسة خاصة بالمدن والجماعات المحلية إضافة إلى دعم نجاعة العمل الحكومي واستكمال تركيز المؤسسات.
الأولويّة المطلقة التي تجلّت في معظم خطابات المسؤولين، في مناسبات سابقة كان الهاجس الأمني الذّي ظل على رأس الأولويات للحكومة الجديدة، مجترّا نفس الأهداف القاضية بتدعيم القدرات المادية واللوجستية للقوات الأمنية والعسكرية، إضافة إلى مقاومة التهريب وتشديد الرقابة على تمويلات الجمعيات ووضع استراتيجية وطنية لمقاومة الإرهاب، والتي ما تزال قيد الدرس رغم دخول تونس في حرب فعلية ضد الإرهاب منذ أول رصاصة في ماي 2011 في الروحيّة. أما قضايا الاغتيال السياسي فماتزال تراوح مكانها رغم تعهّد حزب نداء تونس منذ الحملة الانتخابية سنة 2014 بالكشف السريع عن قتلة شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
الفشل في إدارة الملف الاقتصادي، وتتالي الفضائح وملفات الفساد، إضافة إلى تفاقم حالة الاحتقان الاجتماعي، كانوا من الذرائع الأساسية التي ارتكز عليها الداعون لانهاء مهام الحبيب الصيد. الأولويات اللاحقة فيما يعرف بإتفاق قرطاج، تناولت هذه الجوانب بشكل لم يتجاوز النقاط العامة والصيغ الفضفاضة التي لم ترتقي إلى برنامج عمل واضح، يؤسّس لحكومة انقاذ إن صحّ التعبير. فأهداف على غرار تسريع نسق النمو لتحقيق أهداف التنمية، مقاومة الفساد وإرساء مقومات الحكومة الرشيدة، التحكم في التوازنات المالية ومواصلة تنفيذ سياسات اجتماعية ناجعة هي شعارات رُفعت خلال جانفي 2011، وردّدتها مختلف الأحزاب خلال المحطّتين الانتخابيتين في 2011 و2014، وارتكز علها رئيس الحكومة الحبيب الصيد خلال التحوير الوزاري في جانفي 2016 بعد انفجار موجة الاحتجاجات في كامل ولايات الجمهورية خلال تلك الفترة.
وثيقة الترضيات
في المقابل، أسقطت هذه الوثيقة العوامل الحقيقيّة لتأزّم الوضع الاقتصادي وتزايد حالة الاحتقان الاجتماعي، حيث لم تتّم الإشارة إلى كيفية معالجة الحكومة القادمة لملف المديونية وتفاقم عجز الموازنات العمومية إضافة إلى وضعيّة المؤسسات العمومية والاعتصامات والمطالب النقابيّة لعدد من العاملين في قطاعات مختلفة كالفسفاط في قفصة أو بيتروفاك أو اعتصامات المعطّلين عن العمل وغيرها. علاوة على ذلك، لم تشر وثيقة أولويات حكومة الوحدة الوطنية إلى تغيير حقيقي في سياسات الدولة وخياراتها الاقتصاديّة التي كانت مسؤولة عن تأزّم الوضع الحالي. وإن كان الباجي قائد السبسي قد أجاب سابقا عن هذه النقطة بإعلانه الصريح في الثاني من جوان الفارط قائلا: ” “حكومة الوحدة الوطنية ستناقش الخيارات التي مضت فيها سابقتها، وتواصل فيها”. وهو ما يعني ضمنيّا أن الحكومة المرتقبة ستمضي قدما في إقالة الدولة من دورها الاقتصادي والاجتماعي، والتفريط تباعا في القطاع الحكومي ومهادنة الفساد والمراهنة على القروض، والحل الأمني أو التجاهل في مواجهة المطالب والتحركات الاحتجاجيّة. فهل ستكون حكومة الوحدة الوطنية القادمة أداة لتشريك الجميع في الفشل؟
مسار إعداد وثيقة قرطاج والتعديلات التي خضعت لها، يكشف بشكل جليّ أن النسخة الممضاة كانت أشبه بوسيلة لاستدراج الممانعين في وقت ما لمدّ أيديهم إلى العجين كما ردّد رئيس الجمهورية في أكثر من مناسبة. تلافي ذكر مشروع قانون المصالحة، والتركيز على استمرار المفاوضات الاجتماعية دون أليات واضحة ودقيقة، إضافة إلى الاستغناء عن مطلب الهدنة الاجتماعية، لا يعدو كونه محاولة لإرضاء جميع الأطراف وتوسيع قائمة الموقّعين.
النتيجة النهائية كانت ورقة توافقيّة ركّزت على الترضيات أكثر من معالجة القضايا العاجلة وحسم نقاط الخلاف في الملف الاقتصاديّ.
حكومة جديدة مع تأجيل التنفيذ
‘الحبيب الصيد، فشل دون ريب في معالجة الملف الاقتصادي، ولم يمتلك الإرادة الحقيقيّة لمحاربة الفساد والدفع قدما في مسار اصلاح المؤسسات العمومية واختار في المقابل الرضوخ للخيارات التقليدية القائمة على إملاءات هيئات النقد الدوليّ. هذا الرجل الذّي تحسّس كرسيّ رئاسة الحكومة في جانفي الفارط عقب الموجة الاحتجاجيّة المطالبة بالتشغيل، خرج فجأة من دائرة رضا الحزبين الحاكمين أو الشيخين بشكل أدّق. حسابات المرحلة القادمة، وصراع توازنات القوى، جعلت من حبيب الصيد الذّي قدّموه ذات يوم على انه رجل المرحلة الذّي لا يتعب ولا يكّل، عبئا اليوم على الدولة وشماعة لتعليق إخفاقات الجميع.
الرئيس الباجي قائد السبسي أعلن في خطابه عقب توقيع وثيقة أولويات حكومة الوحدة الوطنية احترامه للرجل وتبرأته من أي اخفاق أو فشل، وأنّ مبادرته لا تستهدف رئيس الحكومة في شخصه، لكنّه لم ينس أن يوضح استعداد معسكره إن صحّ التعبير للمضي قدما في القنوات الدستورية لإقالة هذا الأخير إن لم يستجب لمطالب الإستقالة، في إعلان ضمني وواضح على إصرار رئيس الجمهورية على إبعاد الحبيب الصيد من المشهد السياسي القادم. وفي المقابل يبدو الحبيب الصيد مصرّا على عدم المغادرة حاملا وزر الجميع وأخطائهم.
لم يتمّ التخلّي عن الحبيب الصيد لأنه فشل في إدارة الحكومة أو في القيام بأية إنجازات لهذا البلد/المزرعة، وإنما لأنه لم يعد يحظى بثقة ودعم ابن الرئيس وعائلته وبطانته من المقرّبين ورجال “العمايل” وأصحاب المصالح. يبدو أنّ الحبيب الصيد لا يوافقهم في “السرقة بالمفضوح” ويرغب في “ستر ما ستره الله”، بينما نجل الرئيس وجماعته يتعجّلون الآفاريات، ولا يهتمون للفضائح، ويرغبون في التمتّع سريعا بما تمتّع به الطرابلسية والماطري وغيرهم من قبلهم. في اعتقادي، الصيد ليس بطلا وطنيا بل هو في النهاية مجرد خادم مطيع لأولياء نعمته، يأكل من كل الموائد التي تعرض عليه. أما الرئيس ونجله وعائلته ومقرّبيه فلا يقلّون فسادا واستبدادا وجهلا عن بن علي وزمرته بل يتفوقون على هؤلاء بوقاحتهم وسلاطة ألسنتهم، وهذا معلوم لكل ذي عقل في هذه الربوع الموبؤة. المهمّ في الموضوع عندي هي مواقف بن اخونج الداعمة للفساد والاستبداد والراعية لمصالح الرئيس ونجله مقابل المغانم السياسة والمادية وجزء من كعكة الحكم، وهي قرائن تخرس ألسنة كل هؤلاء المدّعين بنقاء ونزاهة وشرف الزمرة الاخوانجية لمجرّد ادّعائها الدفاع عن الإسلام. في مطلق الأحوال، لن ينصلح حال هذا البلد/المبغى ولو أتيت له بحكومات الدول الاسكندنافية مجتمعة، وذلك لسبب بسيط: الأزمة الأخلاقية التي يعيشها هذا الشعب لا دواء لها على المدى القريب، وغير ذلك مجرد تفاصيل
دولة_الاستبدادا_والفساد_باقية_وتتمدّد#
عربان_جرذان_ويفتخرون#
شعب_القردة_السعيدة#
الجماهيرية_التجمّعية_الإسلاموية_البوليسية_العظمى#