… أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ سورة الشعراء / الآية 225
الأنا في شعر الشّابي
قد يستغرب البعض من التّمهيد للحديث عن الشابي و شعره و مذكّراته بآية قرآنيّة لطالما فُهِمَتْ على أنّها ذمّ للشّعراء. لكن إذا ما قاربنا الموضوع من زاوية أخرى غير تلك التي تعتبر الشعر مجرد هلوسة و مسّ من الشّيطان، سنجد أنّ فهمنا لهذه الآية يمكن أن يكون عكسيا تماما. فأن يهيم الشّاعر على وجهه – على عكس ما ورد في القرآن والموروث الإسلامي – ليس عيبا أو نقيصة و إنما تعتبرمن خصاله التي تميّزه عن غيره من البشر. فالشّاعر يسافر بذهنه ( روحيا ) أو بجسده ( حسيّا ) إلى عوالم لطالما ظلت عصيّة على العوام ولكنها تنفتح و تبوح له بأسرارها فيترجمها جملا مُوَقَّعَة وكلمات ذات رونق خاصّ. ورغم أنّ الشابي لم يعمّر طويلا في هذه الحياة ( 25 سنة )،إلاّ أن كثافة التّرحال والهيام من جهة وعمق التأمّل من جهة ثانية جعلت شعره محطّة هامّة في تاريخ الأدب والفكر العربي عموما. إذا نحن إزاء تجربة شعريّة فريدة يستبطن من خلالها أبو القاسم ما يحيط بنا من موجودات ليعيد تشكيلها وصياغتها بطريقة جديدة تستهوينا وتشدّنا. و لئن حسم الفيلسوف الفرنسي موريس مارلوبونتي مسألة الذّات في علاقتها بالعالم بتأكيده على أنّنا “لسنا فكرا قبالة العالم”، فلا يسعنا إلا أن نخلص إلى أنّ تجربة الشابي الشعريّة تعزّز هذا التصوّر الفينومينولوجي لا بل إنّ نصوص الشاعر التونسي تظهر الذّات منصهرة تماما مع العالم لتمتزج بمكوناته و تصبح أحد أبعاد وجوده.
القلق كدافع للكتابة
إنّ القلق الوجودي هو محرّك وركيزة لدى كثير من الأدباء والمفكّرين الكبار الذين تركوا أعمالا خالدة على مرّ العصور ( لعلّ أشهرهم الكاتب البرتغالي فيرناندو بيسوا بكتاب اللاّطمأنينة ) وأبو القاسم الشابي بمذكراته سجّل إسمه في قائمة الكتّاب الذين حولوا قلقهم إلى مادة إشتغلوا عليها ليخرجوا نصوصًا تستفزّ القارئ. و الحقيقة أنّ من يتتبّع مذكرات الشابي و يمعن في أدقّ تفاصيلها يكشف شخصيّة متفرّدة و متشائمة، تشاؤما يصل حدّ العدميّة في كثير من الأحيان. “أشعر الآن أنني غريب في هذا الوجود، وأنني ما أزداد يوما في هذا العالم إلا و أزداد غربة بين أبناء الحياة و شعورا بمعاني هذه الغربة الأليمة” والملفت للنظر أيضا هو تعامل مؤلّف ديوان “أغاني الحياة” مع نسق الحياة اليوميّة فهو تارة ينساق مع تيارها و يجاريها بسلاسة غير مكترث بأيّ شيء وتارة أخرى ثابت وعاجز أمام أدقّ تفاصيلها.
ينقلنا الشابي في أكثر من موقع إلى مشاهد من الحياة اليومية ويجعلنا نعيش معه لحظات بسيطة في ظاهرها ولكنها في الواقع عميقة ومهمة لما لها من دور في التأثير على الشاعر الذي يهتم بأدق التفاصيل و أتفهها “… وأما المساء فقد قضيته بين التنقل من بيت إلى بيت، ومن الوقوف مع هذا الطالب الذي يخاصم العامل ويتهمه بأنه غشه ولم يخلص في عمل … وهكذا تصرم العشي وإنقضى.” علاقة الشابي بالآخر وبالمكان هي علاقة غريبة متقلبة لا يمكن أن نصفها بدقّة فهو يختلظ بأصدقائه ويتجول في المدينة و لكنه في بعض الأحيان يخيّر العزلة والوحدة” أحس بكآبة عميقة تستحوذ على مشاعري وتقبض على قلبي وتجعلني أكره الكتب والأسفار والمحابر والأقلام.” و لقد إنعكس هذا المزاج المتقلّب على كتابة الشابي الذي يظهر محبا للحياة ويكرهها في آن، إنه ذلك القلق الوجودي يقضّ مضجعه فيحرمه من السكون ويولد في أعماقه أحاسيس متضاربة ومتصارعة فتخرج جملا وأبيات ظلّ صاحبها غريبا طوال حياته “لست والله غير طائر غريب يترنم بين قوم لا يفهمون أغاني الطيور، ولكن هل يحفل الطائر بالوجود حين يترنم ؟ هل يسأل الناس أيكم يفهم أغاني الطيور ؟ كلا! يا قلبي! سر في سبيلك يا قلبي. ولا تحفل بصفير الأبالسة، فإن وراءك أرواحا تتبع خطاك”
iThere are no comments
Add yours