المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

تماثلا بتقليد سياسي ثقافي أسست له مجلة التايم، اخترت في هذا المقال أن أهدي جائزة هذا العام و لكل عام إلى الشخصية الأكثر تأثيرا في حياتنا اليومية و الخاصة: عون الأمن. أن تسموه علنا أو خفية بتسميات متجددة ك”الحاكم” أو “السورتي” أو حتى “الحنشة” كافي لتأكيد تأثيره الكاريزماتي على مقاربتنا لوجودنا الإجتماعي و الثقافي و حتى الجسدي. هو مقتنع تماما و نحن متأكدين دائما بدوره المصيري كممثل للدولة الحازمة و كحامي للأخلاق العامة. قداسة و خطورة هذه المهام  المنوطة بعهدته تجبره أحيانا أن يوجه لك صفعة على الوجه تنسيك احساسك العام بالكرامة و أحيانا أخرى أن يلزمك على إجراء فحص شرجي لتحديد مالذي دخل وخرج من تلك المنطقة الحساسة والمهمة لشرف الجماعة.

في قراءة بسيطة تستند لمفهوم “لويثان” لتوماس هوبز و مصطلح “الوصية” لآشيل مبامبي وتتأمل في ملامح ثلاثة حوادث إجتماعية خلفت لغطا كبيرا خلال هذه السنة، أتطرق إلى الدور المميز الذي يمارسه عون الأمن العادي في حياتنا. حيث أنه وبلا جدال شخصية أكثر ثقلا و حضورنا في حياتنا اليومية من جل الشخصيات السياسية والثقافية التي تملأ الساحة التونسية. إن درجة تأثيره الغير عادية في أحداث العام الحالي -و كل عام- جعلت الكثير منا نسعى للتماثل به فقد اصبحنا كلنا عاشقين لأسطورة الرجل القوي (لا عزاء لأحمد نجيب الشابي) أو مدافعين عن عن شرف الحي ثم العرش ثم البلاد ثم الأمة بأكملها (لا عزاء للمثليين جنسيا).

في محورية شخصية عون الأمن

لنسترجع معا هذه السيناريوهات المعروفة والمعاشة لدى الغالبية من التونسيين والتونسيات والتي حظيت بإهتمام شعبي كبيرخلال العام الحالي. السيناريو الأول هو حدث يكاد يكون يومي لدى معظم قاطني الأحياء الشعبية. قد تكون جالسا بسلام تحتسي قهوة مع بعض الأصحاب أو تلعب الورق أو تتابع حدث رياضيا ما فإذ بثلاث أو أربعة سيارات شرطة تحيط بالمكان ويترجل شلة من أعوان الأمن عازمين على التنكيد على الجميع بداعي ضرورة تفقد البطاقات و البحث عن المبلغ عنهم. في الغالبية العظمى للمرات التي كنت فيها شاهدا على هذه الواقعة ينتهى الأمر دائما بتوجيه الصفعات بشكل عشوائي لمن لا يروق للأعوان الساخطين. كما تسائل أحمد خالد توفيق “من الذي ابتكر الصفع؟ من العبقري الذي عرف أن مركز الكرامة يقع تشريحيا تحت الخد؟ بحيث تشكل الصفعة ضربة مركزة إلى كرامة المرء؟”. إذا كانت كرامة المواطن التونسي تترسخ خاصة في حفظ حرمته الجسدية والمعنوية، فإن العنف البوليسي الممارس بشكل يومي عشوائي يجعل علاقتك بنفسك وبغيرك وبالدولة تقوم أساسا على العنف بأشكاله المادية و المعنوية وحتى اللغوية و الرمزية.
 
السيناريو الثاني هو كذلك كثير الحدوث. كلنا نتذكر حادثة إيقاف مواطن تونسي بجهة جبل الأحمر بتهمة احتساء الخمر بطريقة فجة و عنيفة لا لشيء إلا لأنه أراد الإستمتاع بوقته الخاص بعيدا عن الجميع وفي مكان بعيد عن الأعين. المتأمل في الصورة أسفله هو مهانة الموقف حيث نرى الرجل يستعطف مخاطبه من أجل تبرير حقه البديهي في ممارسة حريته الشخصية كما يشاء خاصة أنه لم يقلق أحدا و لم يتعدى على حريات آخرين من حوله. المشهد نفسه يتكرر في منطقة الكبارية حيث إعتدى أعوان مدنيون بشكل عنيف لاإنساني على أحد الأشخاص عقب استنجاد مواطنة مقيمة بالخارج بهم دون توضح الأمر أو التحري فيما حدث. الأسوأ في هذا كله أن الأمر لم ينتهي هناك فقد تواصل الإعتداء على حرمته الجسدية داخل مبنى مركز الشرطة. إذن أصبح عون الأمن العادي المرادف الواقعي لطوطم الأخ الأكبر المتواجد في كل مكان أكان ذلك داخل محل قهوة شعبي أو في منتزه للعموم. هو دائما موجود لحمايتك من نفسك عن طريق القسوة عليك. آخر شواهد هذه الحماية السادية هو ما حصل مع مصباح الدبابي الذي توفي بعد دخوله غيبوبة نتيجة لسقوطه من مكان مرتفع اثر مطاردة وحدات أمنية له.
 
السيناريو الثالث هو قمة السريالية حيث أصبح إجراء فحص شرجي لمن يشتبه بمثليته الجنسية أمرا عاديا. إن العنف الممنهج و العشوائي المسلط من رجال الشرطة على مواطنين و مواطنات تونسيين بتعلة الإنحراف والشذوذ الجنسي هو الوجه الأكثر قبحا لتعنت و فاشية الشرطة التونسية كجهاز سلطة تعسفي و لاحضاري. كلنا نتذكر ما حصل لأحد المثليين في مطلع هذه السنة في تونس حيث تم تحويل وجهته والإعتداء  الجسدي و الجنسي عليه من طرف أحد أعوان الأمن. الأمثلة عديدة ولا تحصى و ما خفي كان أعظم فالأرجح أن العديد من المثليين والمثليات لا يصرح بهذه الإعتداءات في بلد مازال يعتبر المثلية الجنسية رجسا من عمل الشيطان و يستبيح عرفيا و قانونيا حرمتهم الجسدية بشكل حيواني.

هل اصبحنا كلنا أعوان أمن؟

إن التأثير الكبير لعون الأمن بأشكاله العنيفة و الإستبدادية و العشوائية في حياتنا اليومية قد يمكن وصفه في تماهي العديد من أفراد هذا الشعب بكاريزمة رجل الشرطة. إذا كان، كما أكد توماس هوبز، جوهر الإنسان يكمن في بحثه الدّؤوب عن القوة و السلطة فإن العلاقة المرضية القائمة على الإحترام البالغ و الإعجاب المفرط التي تجمع المواطن الضحية و عون الأمن الجلاد هي الرغبة في رد الجميل للممثل المرئي الوحيد لتواجد الدولة وقدرتها على بعث الطمأنينة والسلام. أطروحة التمثيل المرئي للدولة لهوبز مهمة جدا فهي قادرة على تحليل لغز قبول (لحد ما طبعا) أفراد مجموعة إجتماعية ما (تونس مثلا) بالممارسات العنيفة و المستبدة وفهمها على أنها شر لابد منه.

من جهة أخرى، إن سيرورة إختزال الحضور المرئي للدولة في شخص عون الأمن هو نتيجة حتمية لإنعدام ثورة ثقافية بعد الإستقلال مما أدى إلى إستمرارية العلاقة التعسفية التي أسس لها المستعمر مع أبناء البلد المحتل والتي ضلت فعالة داخل البورجوازيات النيوكلونيالية أو الديمقراطية التي تلت فترة الإستعمار. يستعمل مبامبي مصطلح “الوصية” (commandement) في كتابه “مابعد الإستعمار” للإشارة لهذا الإرث الإستعماري القائم على مفاهيم العلوية و العنف والإستبداد والذي مازال ذو تأثير مركزي في علاقة دولة مابعد الاستقلال و اجهزتها بمواطنيها. يعرف مبامبي هذه الوصية ضمن معجم إقتصادي كيانه الفساد و الإستلاب والإستعراض المادي لكنه يتطرق، وهذا مايهمنا أكثر هنا، إلى جانب الفانتازيا في علاقة الدولة (أو عون الأمن كممثلها المرئي الأبرز) بالمواطن العادي القائم على مفردات حسية فجة و خليط من الطاقات الغامضة والتي تحول بحكم العادة والتكرار إلى ماهية ثقافية وإجتماعية (Habitus).

على سبيل المثال، يمكن أن أشير إلى تلك الحملة الضرفية زمنيا التي روج لها العديد من التجار للإعلان عن رفضهم عن تقديم خدمات للمثليين الجنسيين. جانب الفانتازيا هنا يمكن فهمها في المبادرة الفردية في إبتكار أنواع جديدة من المغالاة في التحفظ والتشدد الأخلاقي بشكل يصبح الفرد أكثر حرصا على الأخلاق العامة (كما حددتها الدولة في قانونها الوضعي) من الدولة نفسها. ففي ترويج التجار المعنيين علنا برفضهم لما يعتبرونه شذوذا جنسيا هو تكريس عفوي لفانتازيا الدولة الإسلامية السنية المحافظة حيث الجميع ينهى عن المنكر و يتصدى للفساد على قدر جهده و بطريقته الخاصة.

العنف البوليسي كمعضلة أزلية

لست بحاجة أن تقوم بمجهود خاص للإطلاع على أخبار و وقائع العنف البوليسي المسلط يوميا على أفراد الشعب البسطاء فهي تملأ الميادين العامة والخاص. راجع مثلا أرشيف نواة لتكتشف الكم الهائل من المقالات التي كتبت ومازالت تكتب في هذا الموضوع. تملأ العناوين الإخبارية حول حوادث العنف البوليسي صفحات الجرائد المحلية و العالمية و مواقع التواصل الإجتماعي. الجميع يعرف ويعي بأن هذا الإستبداد البوليسي هو ثقافة راسخة رسوخ الفكر النيوكلونيالي الذي يرى المواطنين العاديين كرعايا يجب حمايتهم من أنفسهم عن طريق ترسيخ الخوف من السلطة فيهم.  يشير هوبز في كتابه “لوثيان” بأن مهمة الدولة هي مهمةً شُرَطِيّةً بامتياز ففي تلازمية “الدولة/الشرطة” هناك تماهي في السطوة و والقوة التي لا يقدر بشر على مواجهتها. من ناحية يمكن إن أيديولوجيا العنف التي تمارس من قبل الشرطة والدولة التونسية عموما هي أيديولوجيا هوبزية خالصة كفلسفة مادية ترى أن الإنسان العادي ستحكمه قانون الغاب  اذا لم توجد سلطة حاكمة تراقب تصرفاته.

ماأريد تأكيده أنه رغم اقتناعي بأهمية الحراك المدني لتغيير الواقع فإننا سيرورة العنف البوليسي تحيلنا إلى عبثية الموقف وضرورة الإلتجاء إلى حلول أخرى. هل تتذكرون علي اللواتي؟ هل نسيتم منير عبدولي أو عماد غانمي؟ دعك من هذا، مالذي ستفعله في المرة القادمة حينما يصفعك عون أمن أمام الجميع؟ هل العنف البوليسي هو وحش ال”لوثيان” الخرافي الذي لا طاقة لنا به؟ هذه الأسئلة وغيرها يجب أن تكون محورا أساسيا لأي فعل سياسي أو ثقافي أو حتى ذاتي شخصي. لا معنى للديمقراطية إذا مازال العنف البوليسي أمرا يوميا عاديا.