يذهب البعض إلى أن محادثة هاتفية ساخنة بين رئيس الحكومة ووزير الوظيفة العمومية عبيد البريكي أدت إلى إعلان تحوير وزاري جديد واستبدال لاعبين بآخرين. قد تكون هذه الرؤية الاختزالية ناجمة عن هيمنة التصور الدراماتيكي للفعل السياسي التونسي، ولكن السياسة بشكل عام لا تُفهم خارج السياقات وبمنأى عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية.
الخروج المعياري عن الآداب الحكومية التي وضعها يوسف الشاهد لم يكن سوى سببا مُعدّا للاستهلاك العام. وبعيدا عن “إتيقا الهيبة” شكل التحوير الوزاري الجديد إعلانا عن تحول هيكلي في منظومة الحكم، يُصنع على ضوء محدّدين رئيسيين: استكمال برنامج “الإصلاح الشامل” المفروض من قبل صندوق النقد الدولي. التخلي النهائي عن الدور الاجتماعي للدولة وترتيب علاقة جديدة مع الاتحاد العام التونسي للشغل تتراوح بين التحييد والمواجهة.
حكومة الشاهد بين شقي الرّحى: اتحاد الشغل وصندوق النقد
رغم أن الوزير السابق للوظيفة العمومية، عبيد البريكي، مَالَ في حواره الأخير على قناة التاسعة إلى الإبقاء على شعرة معاوية مع رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، وفضّل الانسحاب دون بناء سردية متكاملة لما حدث. ولكن هذا لم يمنعه من إرسال إشارات عامة، أحال من خلالها على أحد أبرز وجوه الخلاف مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وهو كيفية استكمال برنامج الإصلاح الإداري في قطاع الوظيفة العمومية. هذا البرنامج قال الوزير السابق أنه محل جدل ويطرح خلافات بين النقابات والحكومة، ولمّح إلى وجود إجراءات قيد التداول في كواليس الحكم من قبيل الإحالة على التقاعد الوجوبي. كما لم يدَع عبيد البريكي الفرصة تمر دون الإشارة إلى التعاطي الحكومي مع النقابات التي وصفها بـ”التقنية”، مذكرا بفلسفة إدارة الخلافات القائمة على ثنائية: التفاوض والتشاور.
الإشارات العامة لوزير الوظيفة العمومية المُقال أكّدها يوسف الشاهد أثناء الظهور ليلة البارحة مع بعض أعضاء حكومته على قناة الحوار التونسي. إذ أحال على بعض الإجراءات الاجتماعية والاقتصادية المزمع اتخاذها: الترفيع في سن التقاعد، ضريبة القيمة المضافة الاجتماعية (TVA sociale)، تجميد الانتدابات وتسريح العديد من الموظفين، التفويت في البنوك العمومية والمنشآت العامة، إصلاح الصناديق الاجتماعية…هذه الإجراءات تندرج ضمن التزامات دولية تعهدت بها حكومة الشاهد والحكومات السابقة مع صندوق النقد الدولي في إطار ما يعرف ببرنامج “تسهيل الصندوق الممدد” الذي تحصلت بمقتضاه تونس على قرض مدته أربعة أعوام بقيمة 2,8 مليار دولار. التقليص في كتلة الأجور وتجميد الانتدابات وغيرها من الإجراءات ضمّنها صندوق النقد الدولي ضمن التوصيات الرئيسية لوفده الذي زار تونس بين 12 و19 جويلية، وأوردها كملحق خاص في تقريره الصادر في تلك الفترة بعنوان “استراتيجية هيكلة الوظيفة العمومية: العناصر الأساسيّة”. وقد سبق لموقع نواة أن نشر هذا الملحق مرفوقا بتقرير حول الزيارة المذكورة.
اصطدم الالتزام بهذه الشروط بواقع المقاومة النقابية، إذ اعتبرها الاتحاد العام التونسي للشغل في بيان سابق “مثقلة لكاهل الأجراء وعموم الشّعب ومعمّقة للحيف المسلّط عليهم”، وأجرت قيادته النقابية اتصالات مباشرة بإدراة صندوق النقد الدولي، مطالبة إياه بتوضيح مسألة الضغط على الحكومة بخصوص تقليص كتلة الأجور. بالتوازي مع ذلك واصل صندوق النقد مراقبته للاتفاقات المبرمة، ولم يخف عدم رضاه على الأداء الحكومي من خلال تأجيل صرف القسط الثاني من القرض الذي كان مبرمجا في ديسمبر 2016، وقد رجحت وزيرة المالية في آخر تصريحاتها أن يتم صرف القسطين الثاني والثالث موفى شهر مارس، وهو التاريخ المُبرمج لقدوم وفد الصندوق للإطلاع على مسار الالتزامات التي تعهد بها الطرف التونسي.
بين الضغط المتواصل لصندوق النقد الدولي وبين مقاومة الاتحاد العام التونسي للإجراءات المتعلقة بالقطاع العام، سعت حكومة الشاهد طيلة الفترة السابقة إلى بناء توازن مؤقت، مراهنة على إضعاف الموقف النقابي وعزله أو تحييده في أهون الحالات. وقد برزت في الفترة الأخيرة نزعة قوية داخل الائتلاف الحاكم تدفع نحو فرض الإجراءات والدخول في معركة كسر عظام طويلة الأمد مع النقابات والأجراء، وقد تمظهرت هذه النزعة في تعيين خليل الغرياني، الرجل الثاني في اتحاد الأعراف والمعروف بصلابته في إدارة الصراع الاجتماعي.
مثلت هذه النزعة أيضا أحد أوجه الخلاف بين يوسف الشاهد وعبيد البريكي، إذ أصر هذا الأخير على تمرير الإجراءات عبر التفاوض والمناورة في آن واحد، بينما كان الشاهد مشدودا إلى النزعة المتصلبة، معدلا بذلك عقارب ساعته بشكل كلي على واشنطن وليس على بطحاء محمد علي، التي أصبحت تُشعره بالضجر أكثر من أي وقت مضى.
دولة في خدمة طبقة المستثمرين
تكمن أهمية الحوار الذي أجراه يوسف الشاهد ليلة البارحة في طرح التصور الحكومي لدور الدولة على نحو يتسم بالوضوح والمباشراتية. إذ أكد الشاهد، الخبير الفلاحي السابق في السفارة الأمريكية والمتأثر بأطروحة تحرير الاقتصاد والانفتاح على الأسواق العالمية، على أن الدور الجديد للدولة هو “تهيئة المناخ الملائم للاستثمار لاغير”، ودعى التونسيين إلى الترحم على الدولة التي تنتدب وتُشغّل وتنمي الخدمات العامة.
الدور الاجتماعي للدولة القائم على رعاية مصالح المستثمرين والمضاربين وكبار المحتكرين ليس انقلابا نظريا جاء به يوسف الشاهد، وإنما له أساس في الواقع الاقتصادي والاجتماعي متجذر في التاريخ التونسي المعاصر، إذ اتجه دور الدولة منذ تدشين العهد الليبرالي أوائل السبعينات نحو خدمة الأقلية المستأثرة بالسلطة والثروة، وهو ما خلّف واقع التفاوت بين الفئات والجهات الذي يقر به رئيس الحكومة نفسه، وخلّف أيضا أزمات اجتماعية متتالية منذ 26 جانفي 1978 وصولا إلى 14 جانفي 2011، وقد قُدّر للاتحاد العام التونسي للشغل أن يكون طرفا فيها بشكل أو بآخر.
أواخر شهر فيفري 2017 يُطرح اكتفاء الدولة بخدمة المستثمرين كاستئناف تاريخي لدورها القديم، ولكن التحول الجديد يكمن في الذهاب نحو الإلغاء التام لتدخل الدولة في القطاع العام الذي ورثته عن حقبة الستينات، إضافة إلى تصفية آخر المكاسب الاجتماعية مثل التقاعد والتأمين الاجتماعي. هذا التحول سبقته دعاية رسمية حثيثة لفكرة الخوصصة والتشهير بوضعية القطاع العام، الذي بلغ حالة من التهرم البنيوي بسبب استفحال البيروقراطية والفساد المالي والإدراي.
هذا ما يريده شعبنا البائس وتلك هي حصيلة “الديمقراطية” عندما تُطبّق في بلدان العربان التي تحكمها المافيات والعصابات. الدفاع عن “صنبة بورقيبة والنمط التونسي المتمثل في استهلاك أجدادنا للتكروري وبلعة نهار السبت” والدفاع عن “الاسلام الذي في خطر” يحتاج لكل التضحيات الممكنة وعلى رأسها الاحتلال الأجنبي الاقتصادي والديبلوماسي، وإن لزم الأمر العسكري. تلك هي خيارات الدهماء والرعاع في هذه الربوع الموبؤة والبلاد المخصية حيث “لحية سيدي الشيخ” و”كرافات البجبوج” أهم بكثير من الحرية والعدالة والسيادة الوطنية. تحيا تونس الشهيدة، يسقط الشعب المخنّث