يلوح غريبا في نظر البعض أن يلجأ أمس الخميس رئيس الحكومة يوسف الشاهد –صاحب أطروحة تحرير الاقتصاد والانفتاح على الأسواق العالمية- إلى الاقتباس من الفيلسوف الألماني كارل ماركس. ولكن في الحقيقة شهدت السنوات الماضية عودة كثيفة للماركسية من قبل خبراء الرأسمالية العالمية وسَاستها، خصوصا في الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008، إذ حصدت دور النشر في أوروبا وأمريكا أرباحا استثنائية من إعادة طبع كتب ماركس وفي مقدمتها “رأس المال”. كانت العودة إلى هذا المُؤلّف بالذات للاستفادة من التحليل الماركسي لنظام السوق والتخفيف من وطأة الأزمة التي عاشتها الرأسمالية العالمية آنذاك.

الاقتباس من الماركسية على مستوى المنطوق ومناقضتها على مستوى الفعل شَكَّل جزءا من استراتيجيات خطاب رئيس الحكومة، الذي كان يحشد الأمثلة والحجج للإقناع بحصول تحوّل هيكلي في منظومة الحكم من وضع “الفهم” (التسيير العادي) إلى وضع “التغيير” (الإصلاح الهيكلي). وفي هذا المستوى كان لابد من الاستنجاد بالماركسية بوصفها نسق فلسفي قائم على “البراكسيس”، الربط الجدلي بين النظر والممارسة التاريخية. لم يكن من ضمن أهداف الخطاب إبراز “ماركسية” رئيس الحكومة، بل بالأحرى الإيهام بـ”ليبرالية” كارل ماركس من خلال توظيفه ضمن بناء سياسي واقتصادي نيو-ليبرالي.

“الواقعية التغييرية” لماركس و”الواقعية التبريرية” ليوسف الشاهد

نهض خطاب رئيس الحكومة في البرلمان على مفهوم “الإصلاح” أو “الاصلاحات”، وتم استعراضها بوصفها “انقلاب ثوري” وأداة لتغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، وفي نفس الوقت أشاد يوسف الشاهد بواقعية الاصلاحات وقابليتها للتنفيذ. لإبراز ثنائية “الواقعية” و”التغيير” تم استدعاء المعجم الماركسي، بالتحديد المقولة التي حولتها الدعاية الليبرالية طيلة عقود إلى جملة مدرسية شائعة: “الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم والحال أنه يجب تغييره”. وتُجسّد هذه المقولة أحد أبرز النقاط التي انعقد عليها النسق الماركسي أثناء تقويضه للتأملية المحضة التي غرقت فيها الفلسفة الألمانية أثناء القرن التاسع عشر. وقد كان ماركس يؤسس لبناء معرفة تنطلق من القراءة المادية للتاريخ البشري دون السقوط في “الميكانيكية”، مستفيدا في هذا السياق من مفهوم الجدل الذي سبقه إليه أستاذه هيغل.

الواقعية التغييرية التي انطوت عليها المقولة الماركسية (المُستشهد بها) لا تتطابق في مضمونها وأهدافها مع الاستخدام الخطابي الرسمي، إذ تميزت واقعية يوسف الشاهد بالتبريرية المفرطة رغم ما نَسَبته لنفسها من “تغيير ثوري”، وقد ازدحمت الحجج لتبرير الارتهان إلى صندوق النقد الدولي وغَلبت السطحية على الكثير منها من قبيل “الحكومات ذهبت إلى صندوق النقد وليس هو من عرض خدماته علينا” أو “ليس في الاتفاقات مع الصندوق شرط التفويت في المنشآت العامة”، والحال أن خيار التفويت أدت إليه شروط أخرى فرضها الصندوق من بينها “الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص” و”المصادقة على مجلة الاستثمار الجديدة” و”رسملة البنوك العمومية”.

“الإصلاحات” التي دشّنها يوسف الشاهد كانت أشبه بسكب الزّيت على نار مشتعلة منذ زمن، إذ تم الإعداد لبرنامج الاصلاح الهيكلي منذ الحكومات السابقة، وهي استمرار لمسارات الانفتاح والخوصصة التي شرع فيها نظام بن علي ومهّد لها فعليا عبر التداين واتفاقيات التجارة الحرة وإضعاف المنشآت العامة. وعكس ما ينسبه رئيس الحكومة لنفسه من “تغيير اقتصادي” فإن جل الحقب الحكومية تشترك في الهدف العام للإصلاح، المتمثل في ضرب الطابع الوطني للاقتصاد التونسي وفتحه على السوق العالمي ومؤسسات النقد. هذا بطبيعة الحال مع اختلاف في السياقات إذ كان نظام بن علي يدافع عن “إصلاحاته” من خلال الإلجام الكلي لصوت المجتمع والمعارضة، بينما دافع عنها الشاهد ضمن معجمية ثورية مع استمرارية ضرب وتجريم الحراك الاجتماعي.

أزمة نظام الحكم و”التروماتيزم” الخطابي

التبنّي الخَطابي للموقف المُدافع عن المكاسب الاجتماعية والدور العمومي للدولة جاء مُناقضا لجوهر السياسات التي تقوم على تصور للدولة قائم على الانفتاح وخدمة الأقلية المُستثمرة من خلال التشريعات والحوافز الضخمة. ولا يعكس هذا التناقض ازدواجية في السياسة العملية بقدر ما يدل عن وجود سياسة اقتصادية-اجتماعية واحدة قائمة على الخوصصة والانفتاح الكلي على السوق، ولكن هذه السياسة تشهد معارضة اجتماعية ونقابية تكثفت مؤخرا في الأزمة الأخيرة بين اتحاد الشغل والحكومة عندما عزمت هذه الأخيرة على إسناد وزارة الوظيفة العمومية لرجل أعمال، قيادي في منظمة الأعراف.

تولّد التناقض من عجز الحكومة على تمرير الإصلاحات الاجتماعية “المُوجعة” مثل تسريح الموظفين والإحالة على التقاعد الوجوبي ومراجعة منظومة التأمين الاجتماعي، الأمر الذي جعل رئيس الحكومة يقرّر التراجع مرحليا ويكتفي بالإجراءات البنكية والمالية وسن التشريعات الاقتصادية. ومن هذا المنطلق أشاد  بـ”المحافظة على السلم الاجتماعي وعلى مكاسب الأجراء” و” “المحافظة على المنظومة الاجتماعية” لأنه استشعر إمكانية سقوط حكومته في ظل الإصرار على تمريرها في هذه المرحلة. وهنا أيضا يظهر تقاطع آخر مع الماركسية لأن الشاهد نفسه يدرك أن منظومة التأمين الاجتماعي هي إرث لأفكار كارل ماركس وأحد النماذج التي فرضتها الحركة الاشتراكية العالمية أثناء صراعها مع الرأسمالية الصناعية الصاعدة في أوروبا منذ منتصف القرن 19، وقد تسربت هذه المكاسب إلى دول الأطراف وأدخلتها بعض الدول العربية ضمن استراتيجياتها الاجتماعية على غرار نظام بورقيبة.

التمزق بين ماركسية مُوَظفة لغرض التضليل وبين ممارسة ليبرالية جعل يوسف الشاهد يقع في مأزق “التلفيقية”، التي تخلط بين منظومات مُتناقضة في بناءها الفكري والاجتماعي من أجل إخفاء العجز عن فهم التحولات التاريخية الكبرى. وفي الحقيقة تعد “التلفيقية” سمة مُلازمة للمنظومة السياسية العربية ببعديها الفكري والعملي منذ الحركة الاصلاحية في القرن التاسع عشر حيث جرى سعي فكري محموم إلى المزاوجة بين الموروث الفقهي والمنظومة الليبرالية الأوروبية، ثم تواصل هذا الخلط مع التجارب الاشتراكية العربية أو الليبرالية بداية ستينات عندما استلهمت نماذج أوروبية مختلفة وأعادت التعبير عنها بأشكال سلطوية موروثة عن زمن الإقطاع الأمر الذي أدى بها إلى السقوط في التجريبية السياسية وآلت في نهاية المطاف إلى الفردانية والكليانية وأخيرا المافيوزية (نظامي بن علي ومبارك).