القوة التنظيمية والتأثيرية التي تمتلكها الدول تسمح لها بإعادة ترتيب الاهتمامات العامة عبر الاشتغال على إعادة تشكيل المزاج الاجتماعي وفقا لمصالح الماسكين بالأجهزة. ضمن هذا التصور أفلحت حكومة يوسف الشاهد الأسبوع الفارط في نقل مراكز الاهتمام الشعبي جغرافيا و”موضوعاتيا“، من منطقة الغليان النفطي  إلى ساحة القصبة، ومن الحديث عن الانتفاض الاجتماعي إلى إعلان ”حرب حكومية ضد الفساد“.

هذا التحول -الذي أنقذ الحكومة مؤقتا من أوحال صحراء الجنوب الشرقي- أطلق العنان لفوضى التحليلات والأخبار الزائفة وكشف عن استراتيجيا حكومية قائمة على احتكار المعلومة. في الأثناء تشكلت سجالات عامة في كل الزوايا، يحرّكها التفاعل مع الأخبار المتعلقة بـ”الحرب الحكومية على الفساد“ دون تمحيص أو استيعاب للخلفيات.

التواصلية السلبية وخلق حالة تأهب عام

الشعور بتغلغل الفساد في مفاصل البلد جعل الإطاحة بجزء من مافيا الأعمال –خصوصا شفيق الجراية- يحظى بتأييد عام. وقد تلازمت الايقافات الأمنية مع امتناع الجهات الحكومية عن الإدلاء بإفادات حول طبيعة ”الحملة“ وأهدافها ونتائجها الأولية، باستثناء تصريح هامشي لرئيس الحكومة أرسل خلاله إشارات عامة حول ارتباط الحملة بمكافحة الفساد. ثم تلى ذلك ندوة صحفية عقدها منير الفرشيشي، رئيس لجنة المصادرة، يوم الجمعة المنقضي وأعلن خلالها عن مصادرة أملاك رجال الأعمال الموقوفين دون توضيح قيمتها ومدى ارتباطها بالحرب الجديدة ضد الفساد، خصوصا وأن لجنة المصادرة تُعنى بمصادرة أملاك المقربين من النظام السابق.

وعلى عكس العنوان السياسي الموسوم بـ”الحرب ضد الفساد“، صدرت أولى التهم ضد شفيق الجراية من القضاء العسكري، وتتعلق أساسا بالاعتداء على أمن الدولة الخارجي ووضع النفس تحت تصرف جيش أجنبي زمن السلم. في حين تم إيقاف البقية وفقا لقانون الطوارئ الذي يسمح بوضع بعض الأشخاص تحت الإقامة الجبرية. رغم أن الأساس القانوني لا ينسجم مع العنوان السياسي، فإن الحكومة أفلحت في طمس هذا التعارض عبر انتهاج سياسة تواصلية سلبية، تجسدت في الامتناع عن عقد لقاءات صحفية أو الإدلاء بتصريحات دقيقة. وقد سعت من خلال هذه الإستراتيجيا إلى المحافظة على حالة اجتماعية يحكمها الانتظار والتحمس لالتقاط الخبر دون التساؤل عن الهدف.

الاحتكار الحكومي للمعلومة سهّل نشوء حالة اصطفاف عامة مع حملة الايقافات، رافضة للفساد بشكل مطلق. الأمر الذي طَمس أسئلة جوهرية تتعلق بمستقبل الحملة ومدى جدية مراكز القرار في مكافحة الفساد، وهل أن الأمر يتعلق بتفكيك منظوماتي لهذه المعضلة أم هو إجراء عابر فرضته حسابات الحكم الآنية؟

الإعلام بين تجارة السبق والارتباط بالفساد

المساحات الإخبارية المظلمة التي خلفتها الحكومة اقتحمتها وسائل الإعلام بأخبارها –الغير الرسمية- وبتحاليلها الفاقدة لقاعدة إخبارية واضحة. وقد انخرط البعض الآخر في بروباغاندا ”الحرب المقدسة“ ضد الفساد دون توضيح معالمها وأهدافها ومساراتها. التموقعات الإعلامية لم تكن فقط نتاجا للضغط الحكومي على المعلومة الرسمية وإنما تكشف عن معضلة الارتباط البنيوي بين مجالي المال والإعلام، وأثناء الحرب عن الفساد لا يمكن التعويل كثيرا على إعلام مهيمن سبق وأن أبرز تواطؤا مع الظاهرة.

أحد أبرز الموقوفين في الحملة الأخيرة، شفيق الجراية، كان مقرّبا من بعض مالكي وسائل الإعلام المؤثرة على غرار نبيل القروي صاحب قناة نسمة الذي طالما تَباهى بالصداقة التي تجمعه بالرجل، وقد كان شفيق الجراية يملك نفوذا في الإعلام من خلال العلاقات التي أنشأها مع الكثير من الإعلاميين، الأمر الذي أتاح له الظهور في العديد من المنابر، وفي معظم الأحيان تُخصّص له مساحات زمنية تصل إلى حدود الساعة والنصف. هذا الارتباط كان خاضعا لمنطق المصالح المالية وحروب الإزاحة الناشبة في أوساط الأعمال والسياسة التي استفاد منها بعض الإعلاميين ومالكي وسائل الإعلام.

بمجرد الإعلان عن إيقاف متورطين في الفساد كان وجوبا على الإعلام السائد إعادة ترتيب أجنداته لمسايرة الحدث الذي تحول إلى حالة عامة. تجسدت المسايرة بالأساس في صناعة ”السبق الصحفي“ عبر إذاعة أخبار مستقاة من مصادر في الاجهزة الامنية، تجري عنونتها عموما بـ”الحصري“ و”الخاص“ و”ما ننفرد بنشره“. وقد كانت هذه الأخبار ”الحصرية“ في معظمها ضعيفة ومقتصرة على ذكر التفاصيل المتعلقة بالموقوفين أو أماكن تواجدهم وبعض التهم المنسوبة إليهم، وفي الأثناء لم تنشأ قيمة إخبارية كاشفة لحقيقة ما يجري خلف الحجاب الاتصالي للحكومة. هذا التعاطي الملتبس والمحكوم في بعض الأحيان بنزعة الإثارة أعطى الكلمة للتحليلات التي اتجه بعضها نحو تضخيم ما يحدث من خلال الترويج لـ”تفكيك منظومة الاقتصاد الموازي“ أو الحديث عن بداية تفكيك الارتباط بين الفساد المالي والسياسي. وبالمقابل ظل المسار الحكومي غامضا ومُثقلا بسؤال المصير الذي تبرهن عليه عموما التجربة التاريخية والسياسات الملموسة.